ابحث في الموقع

الصناعة العراقية.. رثاء أمجاد الماضي ومأساة الحاضر

الصناعة العراقية.. رثاء أمجاد الماضي ومأساة الحاضر
الصناعة العراقية.. رثاء أمجاد الماضي ومأساة الحاضر

بقلم: صادق الازرقي

توقفت عديد المصانع العراقية التي كانت مزدهرة في عقود سابقة، مثل شركات الزيوت النباتية والجلود والأسمنت والصناعات القطنية والنسيج والمنتجات الغذائية والسكر والأسمنت والصناعات الكهربائية وغيرها، و تضافرت أسباب عدة لتشكل عائقا أمام عودتها للإنتاج والتميز الذي كانت عليه وتحديثها.

فلقد عانت المصانع العراقية من إهمال طويل الأمد منذ تسعينات القرن الماضي، و لم يجري تحديث الآلات والمعدات أو صيانتها بشكل دوري، مما أدى إلى تآكلها وتوقفها عن العمل. وبعد عام 2003، وبرغم الوعود المتكررة، لم يجري تخصيص استثمارات كافية لإعادة تأهيل هذه المصانع وتحديث بنيتها التحتية.

وشخص الفساد أحد أكبر المعوقات التي تواجه قطاع الصناعة في العراق، فسوء الإدارة واختلاس الأموال المخصصة للمشاريع الصناعية أدى إلى هدر الموارد ومنع إنجاز أي تقدم ملموس، كما أن المحسوبية والواسطة في التعيينات أدت إلى تدهور الكفاءات الإدارية والفنية في هذه الشركات.

ويغرق السوق العراقي بالمنتجات المستوردة، لا سيما من دول الجوار، ويكون المنتج في كثير من الأحيان أرخص ثمنا، حتى لو كان أقل جودة، بسبب سياسات الإغراق وعدم تواجد حماية جمركية كافية للمنتج المحلي؛ هذا الوضع يجعل من الصعب على المنتجات العراقية منافسة المستورد، ويؤدي إلى ركود مبيعات المصانع المحلية وتراكم خسائرها.

وتعاني المصانع العراقية من نقص حاد ومستمر في إمدادات الطاقة الكهربائية والوقود، مما يؤدي إلى توقف الإنتاج لمدد طويلة ورفع تكاليف التشغيل بشكل كبير، اذ تضطر المصانع إلى الاعتماد على المولدات الكهربائية الخاصة التي تعمل بالوقود بأسعار مرتفعة.

وفضلا عن ذلك تفتقر البيئة التشريعية في العراق إلى المرونة والدعم المطلوبين لإنعاش القطاع الصناعي؛ فالقوانين المعقدة والروتين الحكومي الطويل يعرقلان أي محاولة لجذب الاستثمار الأجنبي أو حتى المحلي في هذا القطاع، كما أن عدم استقرار السياسات الاقتصادية يثني المستثمرين عن المغامرة بأموالهم في مشاريع صناعية طويلة الأجل.

وشهد العراق في العقود الماضية هجرة واسعة للكفاءات والخبرات الصناعية والفنية، بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة. هذا النقص في الأيدي العاملة الماهرة والمهندسين المتخصصين يمثل تحديا كبيرا أمام إعادة تشغيل وتطوير المصانع.

لذلك، تتطلب إعادة إحياء الصناعة العراقية إرادة سياسية حقيقية وخططا استراتيجية متكاملة تشمل تخصيص استثمارات ضخمة، لإعادة تأهيل المصانع وتحديثها بأحدث التقنيات، وتطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة في إدارة الشركات الصناعية؛ و فرض رسوم جمركية مناسبة على السلع المستوردة ودعم الصناعات المحلية؛ وتوفير البنى التحتية المطلوبة من كهرباء ووقود وطرق وشبكات نقل، وتحديث القوانين لتشجيع الاستثمار الصناعي، وتدريب ملاكات جديدة لرفد المصانع بالمهارات المطلوبة.

ويجب وضع معايير جودة صارمة للمنتجات المستوردة لضمان عدم إغراق السوق بمنتجات رديئة وغير مطابقة للمواصفات، وتقديم حوافز مالية وضريبية للمصانع المحلية، وتسهيل الحصول على القروض الميسرة، وكذلك توفير بيئة جاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي، من خلال تبسيط الإجراءات، وتوفير الضمانات القانونية، وحماية الملكية الفكرية، وتوفير الحوافز الضريبية والمزايا الاستثمارية، وتنمية وتشجيع الابتكار والبحث والتطوير في الجامعات والمراكز البحثية والتعاون مع الصناعات لتطوير منتجات جديدة وتحسين جودة المنتجات الحالية، والتوجه نحو تطوير صناعات تحويلية تعتمد على الموارد المحلية (الزراعية، الحيوانية، المعدنية).

إن تحقيق هذه الأهداف يسهم في توفير مصدر دخل آخر غير النفط، ويخلق فرص عمل ويحسن من مستوى معيشة السكان ويعزز الاقتصاد الوطني بشكل عام.

ان تجارب بلدان العالم المتقدم، تثبت دور التخطيط السليم والادارات الكفء في تطور البلدان الصناعي.

ألمانيا واليابان هما مثالان بارزان على دول دمرتها الحروب بالكامل، لكنها استطاعت أن تعود لتصبح قوى صناعية واقتصادية رائدة عالميا.

لقد نجحت كل من ألمانيا واليابان في تحقيق "معجزة اقتصادية" بعد الدمار الشامل الذي لحق بهما في الحرب العالمية الثانية. وبرغم اختلاف التفاصيل، إلا أن هناك قواسم مشتركة رئيسة في استراتيجياتهما؛ بعد الحرب العالمية الثانية، كانت ألمانيا مدمرة بالكامل، لكنها نهضت بفضل عدة عوامل: مساعدة خطة مارشال الأمريكية: قدمت الولايات المتحدة مساعدات مالية ضخمة لأوروبا الغربية، بما في ذلك ألمانيا الغربية، لإعادة الإعمار. هذه المساعدات كانت حاسمة في توفير رأس المال المطلوب لإعادة بناء البنية التحتية والصناعية.

وجرى إصلاح العملة باستبدال الرايخ مارك بالمارك الألماني، لوقف التضخم المفرط واستعادة الثقة في الاقتصاد، وتبنت ألمانيا انموذج "اقتصاد السوق الاجتماعي" الذي يجمع بين حرية السوق والعدالة الاجتماعية. هذا النموذج شجع المنافسة الحرة مع الحفاظ على شبكة أمان اجتماعي قوية.

وركزت ألمانيا على تطوير الصناعات عالية الجودة والموجهة للتصدير، مثل السيارات والآلات والمواد الكيميائية، و أولت اهتماما كبيرا للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي للحفاظ على قدرتها التنافسية؛ وتميزت ألمانيا بتواجد قوة عاملة ماهرة ومنضبطة، اسهمت بشكل كبير في جودة المنتجات وكفاءة الإنتاج، وادت النقابات دورا هاما في الحفاظ على السلام الصناعي والتعاون مع الإدارة لتحقيق الأهداف المشتركة.

وعلى غرار ألمانيا، كانت اليابان مدمرة كليا ايضا بعد الحرب، ولكنها حققت نهضة اقتصادية وصناعية مذهلة، إذ ساعد الدعم الأمريكي في مرحلة ما بعد الحرب في إرساء أسس اقتصاد سوق حديث، بما في ذلك إصلاح الأراضي وتفكيك التكتلات الصناعية الكبيرة لتشجيع المنافسة، وجرى التركيز بشدة على تطوير الصناعات التحويلية التي تعتمد على الاستيراد والتجميع والتصدير، مثل الإلكترونيات والسيارات والآلات، و استثمرت اليابان بشكل كبير في نظام التعليم والتدريب المهني لإنشاء قوة عاملة عالية المهارة والتخصص.

و تميزت الشركات اليابانية بتبني فلسفة التحسين المستمر في جميع جوانب الإنتاج، مما أدى إلى جودة عالية وكفاءة في التكلفة و كان هناك تعاون وثيق بين الحكومة والشركات الكبرى في تحديد الأولويات الصناعية وتوفير الدعم المطلوب للتوسع في الأسواق العالمية، وركزت اليابان على استيراد التكنولوجيا الغربية في البداية ثم تطويرها والابتكار فيها لتصبح رائدة في عديد المجالات التكنولوجية؛ وشجعت الحكومة اليابانية معدلات الادخار المرتفعة لدى الأفراد والشركات، مما وفر رأس المال المطلوب للاستثمار الصناعي.

من تجارب ألمانيا واليابان، يمكن استخلاص الأساليب الرئيسة للنهوض الصناعي بعد الأزمات، بإعادة بناء وتحديث البنية التحتية الأساسية (الطاقة، النقل، الاتصالات) التي تعد العمود الفقري لأي نهضة صناعية.

الاستثمار في التعليم والتدريب المهني، والتركيز على بناء قدرات الملاكات الفنية والإدارية، والتركيز على بناء صناعات قادرة على المنافسة عالميا والتصدير لتحقيق العملات الصعبة وتنويع مصادر الدخل. تبسيط الإجراءات، وتقديم حوافز، وتوفير بيئة قانونية وتشريعية مستقرة وداعمة للاستثمار.

كما تشمل إجراءات التعافي الصناعي، الدعم الحكومي الذكي، و ليس بالضرورة التدخل المباشر في الإدارة، بل بتوفير البيئة المحفزة (سياسات حمائية مدروسة، دعم البحث والتطوير، توفير التمويل الميسر)،وترسيخ الاستقرار السياسي والأمني فهو الشرط الأساسي الذي من دونه لا يمكن لأي خطط اقتصادية أن تنجح.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!