- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
سُلطة الواقع والجدوى المتحققة فيه
بقلم: محمد نعناع - باحث عراقي
لا يكون حظه من الفطنة إلا قليلاً، من يعتقد إن بناء الأمم المقتدرة والمجتمعات المتحضرة قائم على ترديد الشعارات، ولا يكون ذا افقٍ خلاقٍ، من يتوهم العبور إلى الإبداع مرهون بمحاكاة المثالات الطوباوية، دون ملامسة الواقع، لذلك من الممكن، إذا لم نبالغ ونقول من المؤكد، فإن المثال والقدوة والأسوة والمرشد والنموذج والسراج ستكون مجرد كلمات فارغة، إذا لم يُعمل بمضمونها، ويلتزم السائر إليها بمنهجها فكرة ودلالة وواقعاً ونتيجة وحتمية ومحصلة نهائية ختامية لا تقبل القسمة على اثنين، وإن العبور من تأمل المثال إلى تصوره في الواقع، وتجاوز القدوة من الانبهار إلى تصديق أفعاله، وتعدي الأسوة إلى ترخيص أخلاقياته، وتثبيت فعالية المرشد في السلوك، وتطبيق أحوال النموذج، واكتساب نور السراج، هي المعادلة المتوخاة بدقة والمبحوث عنها بشدة، من أجل الانصهار العملياتي في الواقع.
إن الجدوى المتحققة في الواقع ليست مجرد نظرية لمعارضة المثالية غير الجدوائية، أو فكرة مقارباتية فقط لمناكفة الطوباوية، بل هي أسلوب لإعدام البراغماتية النفاقية المتصاعدة التي تأكل الأخلاق العملية كما تأكل النار التبن المرصوف بجانب الحنطة المعدة للاستهلاك الغذائي، أفلا تعتقد أن نار التبن لا تصل إلى الحنطة؟! وإذا كان العرض مُحترق ألا يشوه الجوهر؟! بمرور الأيام سيمتد ضرر العرض إلى الجوهر، وما دام المجتمع ليس محكوماً في سلوكياته بدقة الرياضات والفيزياء ومعادلاتهما ومقولاتهما العلمية، فإن الاشتباه فيما بين الجيد والسيء بسبب الإغراق الكلامي أمر طبيعي، بل إن إشاعة ثقافة في المجتمع تتعارض مع الحقيقة والمنطق والموضوعية مسألة متوقعة في كل وقت وحين، وهنا يجب كشف الاستتار بالشعارات على حساب المبدئيات، هنا يجب كشف النفاق المغطى زوراً وبهتاناً وخداعاً وتضليلاً بالمكارم الدينية والإنسانية.
لقد تم العبث بمقولات الدين لخلق ثقافة لا علاقة لها به، وتجرأت مؤسسات وزعامات وهمية لطمس النموذج الحميد من أجل إشاعة نمط مغاير يخدم مصالحها، نموذج بديل يخدع الناس على أنه يُحقق مصالحهم، وهو في الحقيقة يُحقق مصالحه ويقدمها على مصالح الأمة، لكنه أذكى من أن يقول ذلك علانية، أو يقوم بهذا الفعل صراحة، بل يُتخمهم بالمقولات الدينية والمظلوميات المذهبية ويُغرقهم في سرابها، لتبقى جيوبهم فارغة وعقولهم مغيبة، ورغم ذلك هم ممتنين لمن يقودهم، تبقى حياتهم خارج التاريخ المعاصر، وطريقة معيشتهم لا تشبه معيشة الناس من حولهم، لكنهم منقادون ومنفعلون بالعقل الأعلى الذي يرتب شؤونهم، من يقودهم فاسد وخائن للأمانة، وهذا يتقاطع مع مثالياتهم، وينفصل تماماً مع الشعارات النماذجية التي تربوا عليها، ويسلك بهم غير طريق القدوة والأسوة والمرشد الذي عاشوا بركاته، وتلذذوا بجميل صفاته، ويخرج بهم من نور السراج الذي يدلهم على جادة الصواب، إلى سبيل متفرقة تملئها العقبات الكؤود.
كان بإمكان الأمثلة المنيرة التي يتعزون بها أخلاقياً وإنسانياً كالرسول محمد والامام علي والسيدة الزهراء والحسن والحسين (صلوات الله وسلامه عليهم) أن تسلك سلوك الواقع الذي يُحرضهم ديماجوجياً عليه الأن زعماء الصدفة وقادة الانتهازية، كان بإمكان السيدة الزهراء أن لا تقود معارضة مبكرة في مجالي العقيدة والحقوق على حدٍ سواء، وتجلس معززة مكرمة، فهي ابنة النبي الخاتم، وبمقدورها تغيير قواعد انتفاضتها المطلبية، وتُحقق مكاسب شخصية لا عد ولا حصر لها، وكان بإمكان الإمام علي قبول ولاية معاوية نزولاً عند الأمر الواقع، وبعد تمكنه من الحكم وإحكام قبضته على السلطة أن يفعل به ما يشاء، وكان بإمكان الإمام الحسن عدم التسليم لمعاوية والقيام بحرب لا نهاية لها، خصوصاً أن الكثير من القادة المرتبطين به كانوا تواقين إلى المزيد من الحملات العسكرية، وكان بإمكان الحسين الشهيد أن يُهادن، وله أن يفعل ذلك دون ملامة أي أحد، ويحافظ على وضعه الشخصي بعيداً عن التحرشات الأموية، لكن هي المبادئ يا سادة، لا تستقر مع النفعية، ولا تستقيم مع الانتهازية، ولا تتحقق بالشعارات النفاقية.
إن خلق مجتمع منافق يُردد الشعارات ويتخلى عن تطبيقها بفعل ثقافته المتحولة، أو بتأثير زعمائه النفعيين، سوف يجعلنا أمام ظاهرة من الشيزوفرينا، انفصام بلا حدود، ظاهرة وليست حالات فردية، خصوصاً إذا اقتنعت شرائح واسعة من المجتمع إن بائهم تجر وباء غيرهم لا تجر، بما يُجوز لهم ما لا يجوز للأخرين. فما هو شكل الواقع الذي تكتنفه هذه الأمراض المُعدية المُردية، التي ترافقها اللذات والشهوات الوقتية الزائلة، وما هي حركة وفعالية من يعيش التناقض والازدواجية والنفاق في سلوكه ونظرته للأخر؟!
إن دين محمد وآل محمد (ص) الذي يجب أن تُطبق أحكامه وأخلاقياته وتعاملاته ليس دين منابر، فالمنابر مجرد مخابر، بل هو دين معاملة، معاملة بديهية تتوافر على عناصر ثابتة غير مُهلكة، لقد كان الإمام علي (ع) يجيب ببديهية وبسرعة على أسئلة المتخاصمين في القضاء والمستفتين في أمور الشريعة، والمجادلين في شؤون اللاهوت والعقيدة، فقال له الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: إلا تتريث ولا تستعجل بالجواب يا أبا الحسن، فرفع الإمام يده بوجه عمر وقال له: كم هذه؟ في إشارة إلى عدد أصابع يده، فقال عمر: خمسة، فقال له الإمام علي: لماذا أجبت بسرعة يا أبا حفص؟ فقال عمر: هو أمر سهل. .فقال الإمام علي: هو عندي كذلك، حتى قال عمر:(العلم ستة أسداس، خمسة منها لعلي، وشاركنا في السدس، حتى لهو أعلم به منا)، هذه هي البديهية في الدين، الأمر الحسن الثابت لا يتغير، ولا يمكن للجهل والفساد والمكر والتضليل أن يؤدي إلى الدين الصحيح، وأن يحل محل المعرفة، ولا يمكنك أن تستخدم أساليب ميكافيلية للوصول للغاية التي تظنها نبيلة، لأن الميكافيلية ممنوعة في البيئة التي تنهل منها مواقفك الاجتماعية والسياسية، ولا يمكنك أن تُشرعن الفساد والخديعة لتقوية مذهبك، لانهذا المنهج المعوج يرفضه إمامك القائل لا أُصلحكم بفساد نفسي، بل كل هذه الرذائل ستُفسد الدين والدنيا، وبإشاعتها على أنها أمر واقع ستخسر الأمة أقوى نقاط قوتها وهي ثنائية "العدالة والتقوى".
إن الجدوى المتحققة في الواقع قياس نهائي لأخلاقية الفعل، ومعيارُ مرجعي لتفريق ما ينسجم مع المبادئ القابرة للنفعية الحيوانية من الشعارات اللفظوية التي لا تتعدى حركات اللسان.
فهل نرى في سلوكنا ما يربطنا باهل بيت نبينا (ص)؟.
أقرأ ايضاً
- الماء العكر لم تدم صلاحية التصيد فيه
- التغيرات المناخية في العراق.. واقع قائم ولا مبالغة فيه
- بين الواقع والمواقع