- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
ما أشبه اليوم بالبارحة .. سياسة الاستكبار الامريكي في العراق - الجزء الثاني
بقلم: د. محمد علي الجزائري
جرى الحديث في الجزء الاول من هذه المقالة عن الوسائل التي اتبعتها الادارة الامريكية للوصول إلى اهدافها الخبيثة في العراق من خلال حرب عام 1991 و2003 وداعش الارهابي. في هذا الجزء يتم الحديث عن طبيعة هذه الاهداف.
3- الاهداف المرسومة
ان الوسائل التي ذكرت في الجزء الاول والتي قامت الادارة الامريكية ومشاركة الكيان الصهيوني بتحقيقها بمكر ودهاء في العراق كانت لاجل الوصول الى الاهداف التي رسموها منذ ثمانينيات القرن الماضي والتي يمكن اجمالها بما يلي :
أ- القضاء على الروح المعنوية وتشويه القيم
لقد كان للتخطيط الماكر الذي قامت به دول الاعداء والاستكبار العالمي منذ ثمانينيات القرن الماضي هو القضاء على الروح المعنوية الطيبة والعالية التي يتمتع بها الشعب العراقي للوصول الى تقسيم ارضه الى دويلات صغيرة على اسس طائفية وقومية لا تستطيع البقاء من دون دعم خارجي. ان هذه الخطوة هي احدى خطوات التغريب والتخريب الفكري والعقائدي بل هي الخطوة الاهم التي سعت دولة الاحتلال الى تحقيقها عن طريق الحروب والحصار والاحتلال. فالهدف من هذه الخطوة هو ازالة أي معوقات يمكن ان تقف امام الافكار والعقائد المستوردة والدخلية التي تأتي بها دولة الاحتلال وحلفائها وذلك عن طريق الاجهاز والقضاء على الافكار الوطنية والاسلامية القوية والمتينة السائدة في المجتمع.
وعادة ما تستغرق هذه المرحلة من خطوات التخريب ما بين (15-20) سنة لانها الفترة اللازمة لتعليم وتثقيف وتخريج جيل واحد من الطلبة الذين سيعملون في مؤسسات الدولة وادارتها والمشبعين بالافكار والعقائد الدخيلة والمستوردة التي تأتي بها الادارة الامريكية وسوف يعملون بجد ودون وعي لتطبيق توجهاتها وابعادها وتصوراتها وقيمها. ولذا بدأت الادارة الامريكية بالعمل على تحقيق هذه الخطوة منذ حرب عام 1991 وهي مستمرة على ذلك حتى الوقت الحاضر.
وما برنامج ايلب (IYLEP) الذي ترعاه السفارة الامريكية في بغداد ووزارة الخارجية الامريكية الا مثالا صارخا على هذا التوجه. حيث بدأ العمل بالبرنامج عام 2007 ثم اعيد تفعيله عام 2013 وهو يتضمن اختيار طلاب من الجنسين في مرحلة الاعدادية أو الجامعة من المناطق الفقيرة والمعدمة يتم ارسالهم إلى امريكا لمدة شهر حيث يتم مراقبة تصرفاتهم وسلوكهم لاختيار مجموعة منهم بمواصفات معينة ليتم بعد ذلك ادخالهم في دورة تدريبية اخرى لتعليمهم اساليب نفسية ومهارات اخرى لغرض قيادة الجماعات واستخدامهم كعناصر تخريب للمجتمعات واشاعة الالحاد والتمرد على الاعراف والتقاليد والقيم الدينية السائدة في المجتمع وبث ثقافة التحلل الاخلاقي وتأجيج الفتن والعمل تحت مظلة منظمات مجتمع مدني لتنفيذ اجندات السفارة الامريكية. وقد تخرج من هذه الدورات الالاف من الشباب العراقي خلال السنوات الماضية وما زال البرنامج مستمرا. وقد ظهر العديد من هؤلاء الشباب وكان لهم دور تحريضي واضح كعناصر جيش الكتروني قام بأدارة العديد من مواقع التواصل الاجتماعي تحت اشراف السفارة الامريكية في بغداد كما كان لهم دور تخريبي فاعل في مجال العمل الميداني بالتحريض على القتل وتأجيج الفتن وحرف المظاهرات عن سلميتها وذلك خلال المظاهرات التي اجتاحت بغداد والمدن العراقية الاخرى وبالخصوص النجف وكربلاء والناصرية والبصرة مطلع شهر تشرين الاول وما بعده من عام 2019 ولم يتم اختيار هذه المدن المذكورة بشكل عفوي وانما جاء لاهداف وغايات مقصودة.
وقد افرزت هذه الخطة الماكرة جيل من الشباب غير الواعي بالخطة التي رسمت له في دهاليز الادارة الامريكية لحرفه عن المسار القويم ودفعه ليكون رأس الحربة التي تهاجم القيم الدينية والاجتماعية واثارة الفتن وضرب السلم المجتمعي. ولغرض انجاح وانجاز هذه المرحلة عملت الادارة الامريكية على عدة محاور منها :
- تشويه المباديء والافكار والقيم النبيلة
ويعد هذا المحور من اهم مستويات التخريب تأثيرا واكثرها فاعلية. فالافكار والمباديء هي البنية الاساسية لاي مجتمع وهي التي تؤدي الى المحافظة على تماسكه وحيويته وقوته والى التغيرات الكبيرة في مسار التاريخ للمجتمعات على اختلاف انواعها ولذا فان من اهم اهداف امريكا هنا هو التركيز على الدعائم والمباديء الفكرية التي ترتكز عليها الامة والدولة العراقية كالدين والتعليم والاعلام والثقافة لمحاولة تشويهها وابعادها عن هموم وتطلعات المجتمع العراقي الحقة واحلال افكار دخيلة منحلة ومستوردة بديلا عنها. قبل غزو العراق عام 2003 لم يعرف العراقيون المخدرات ولم يسجل مكتب المخدرات ومتابعة الجريمة التابع للامم المتحدة غير حالتين كتجارة مخدرات ما بين عام 1970 و1990 ولكن بعد دخول القوات الامريكية تغيرت الحالة بشكل ملفت للنظر واصبح هنالك حاليا (3) مدمنين على المخدرات من بين كل (10) اشخاص تتراوح اعمارهم ما بين (18 – 30) سنة حسب مصدر طبي عراقي في بغداد وحسب تقرير للامم المتحدة الذي بين ايضا بانه خلال السنوات العشرة القادمة ستفتك المخدرات بالشباب العراقي في حال بقي الوضع على ما هو عليه. وبهذا الشكل يتم استهداف الجيل الجديد القادر على بناء العراق ومستقبله. كما اشار مسؤول حكومي الى ان تلك المخدرات تستهدف المناطق ذات الاغلبية الشيعية وهي منتشرة بين طلبة المرحلة الاعدادية وطلاب الجامعات وسكان المناطق الفقيرة.
- تسخيف المعتقدات والمباديء الدينية
لقد سعت الادارة الامريكية وما زالت الى تفكيك الدعائم الدينية التي توفر الثوابت الاخلاقية والاجتماعية والثقافية للمجتمع العراقي بشكل خاص والشعوب العربية والاسلامية بشكل عام وذلك عن طريق تسييس الدين وربط العقائد والمباديء الدينية بالاتجاهات والصراعات السياسية وادخال الدين في متاهات السياسة وتشجيع الممارسات الخاطئة والشعائر الضالة وتسويقها بأسم الدين والضحك والاستهزاء بالقيم الدينية وتحويل المباديء الدينية الى شعارات خالية من التطبيق العملي اليومي والى ممارسات خالية من المضمون الفعلي وشراء ذمم بعض من يحسبون على الدين لحرف المجتمع عن الدين الاسلامي والابتعاد عنه وعن القيادات المرجعية الرشيدة.
واوضح مثال على ذلك هو ظهور مفاجيء لمدع للمرجعية الدينية بعمامة سوداء في فورة المظاهرات في ساحة التحرير ببغداد يطلق على نفسه اسم السيد حسن الموسوي. وتهافتت القنوات الاعلامية المسمومة والمأجورة كالشرقية والعربية والرافدين ودجلة في اجراء اللقاءات والحوارات المكثفة معه لغرض تسويقه وتعريف الجمهور العراقي به واخذ الرجل يغدق بالاموال على اتباعة الجدد ويخرج للعلن للاحتكاك بالمتظاهرين وتحريضهم على المرجعية الرشيدة والحشد الشعبي وتبين فيما بعد بأن هذا المدعي هو صوفي نقشبندي ليس له انتساب للسادة وكان يعمل كعقيد في مخابرات النظام الصدامي البائد تم تجنيده واعداده في دهاليز المخابرات الامريكية لغرض النيل من المرجعية الرشيدة في النجف الاشرف وحرف مطالب المتظاهرين والتحريض لمهاجمة الحشد الشعبي. وباءت خطة الادارة الامريكية بالخسران وفي خلط الاوراق وتسويق مرجعها فقد تم كشف حقيقة المدعي بسرعة. ان للمرجعية الدينية الرشيدة في النجف الاشرف مكانتها الرفيعة في قلوب العراقيين ولها صوت يسمع ونداء يلبى وما زال للقيم والمباديء الدينية حضور في عموم المجتمع العراقي رغم محاولة البعض افراغ هذه القيم والمباديء من محتواها الاصيل.
كما شجع المحتل عملية مهاجمة القيم الدينية والسخرية منها عبر عدد من ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني ومواقع التواصل الاجتماعي التي يرعاها وعدد من وسائل الاعلام والتلفزيون والشبكة العنكبوتية (الانترنت) المأجورة عن طريق الدعوة الى الاباحية وتشجيع الفاحشة وهدم الكيان الاسري وتشجيع الانحراف والعلاقات غير المشروعة ونشر الرذيلة بعناوين براقة ناعمة مثل تحرير المرأة والتقدم والديمقراطية والحرية الفردية. ونتيجة لهذه الهجمة الشرسة على المباديء والثوابت الدينية وصل الحال في تفكير وسلوك بعض افراد الجيل الجديد من رفض واستهزاء بكل القيم الدينية والاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمع العراقي والتصريح بذلك علنا من دون حياء والتقليد الاعمى للمتبنيات الفكرية والخلقية للمجتمع الغربي والدعوة الى نشرها في المجتمع العراقي.
- السيطرة على الاعلام وتوجيهه
يمثل الاعلام والثقافة المحور الثالث من اجراءات تشويه المباديء والقيم للقضاء على الروح المعنوية للشعب العراقي. لقد دعمت الادارة الامريكية وبعض الدول الخليجية وبالخصوص المملكة السعودية وساهمت في ايصال ونشر الافكار الهدامة والقيم الفاسدة والافكار المنحلة في المجتمع من خلال فتح الباب واسعا امام التيارات الفكرية والثقافية المعادية للقيم الاسلامية والعربية والانسانية. اضافة الى ذلك دفع الاعلام المضلل للتشهير بالشخصيات الوطنية والمخلصة ومهاجمة رجال الدين والقيم الدينية والسخرية منها ومن الاسرة وقيمها وبث الفرقة ما بين المسلمين والتقليل من شأن الكادر التعليمي ومناهج التعليم والتركيز على المشاكل التافهة وغير المهمة وغض البصر وتجاهل المشاكل الاساسية التي يعاني منها المجتمع العراقي والعربي واظهار ونشر الشائعات والسلبيات والاخبار الكاذبة والمحرفة.
ويأتي دور الاعلام الموجه في استمالة الكتاب والصحفيين والفنانين المغمورين ودعمهم ودعم افكارهم المناهضة للقيم والمباديء السامية للمجتمع لغرض نشر هذه الافكار ما بين اوسع شرائح المجتمع وخاصة الاجيال الناشئة لسرعة تأثر الشباب بمثل هذه الشخصيات.
ب- تخريب منظومة التعليم وتعطيل دور المعرفة
لقد كان هدف المحتل الامريكي في مجال التعليم هو نشر الجهل على اوسع نطاق ممكن عن طريق تخريب منظومة التعليم بكل مراحلها ليسهل بعد ذلك تزويد المجتمع العراقي وبالاخص الجيل الجديد بافكار وقيم غريبة ودخيلة يمكن تقبلها بسهولة لوجود فراغ فكري وثقافي في المجتمع. لقد كان التعليم وكانت جامعات العراق من افضل جامعات المنطقة العربية وقبلة للطلاب العرب واليوم اصبحت موضع اسف العالم وتندره ولا نصيب لها من بين جامعات الدول العربية الاوائل وتقدمت عليها جامعات لم يكن يعرف حتى اسمها واصبح التعليم الاهلي هو التعليم السائد في العراق في جميع المراحل الدراسية.
لقد فقد المعلم والمدرس والاستاذ الجامعي, الا القلة القليلة, الدعم والحماية التي كان يتمتع بها من قبل الجهات العليا كما فقد القيمة والمنزلة التي كان المجتمع يعطيه اياها لنزاهته واستقامته واصبح لسوء حظه العاثر حلقة من حلقات تجهيل الامة والمجتمع. لقد ادى خراب التعليم الى تخرج اجيال من الطلبة ذوي خلفيات علمية وثقافية ضعيفة يحملون افكار المحتل ويمجدونها وان اقصى ما يحلمون به هو تقليده والحياة على شاكلته والهجرة والغربة وترك الوطن فهم اشخاص اقل ما يمكن ان يقال عنهم ناقمين على قيمهم ومبادئهم ومجتمعهم ووطنهم. وبدلا من الاهتمام بشيء واقعي ومهم وتعلم العلوم والكيمياء والرياضيات والاحياء والالكترونيات والعلوم الانسانية الرصينة اصبح الاهتمام منصبا على الالعاب الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي وقنوات الرياضة والمسلسلات والافلام التي اضحت في متناول ايدي الجميع.
ونتيجة لازدياد عدد الجامعات والكليات الاهلية بشكل عشوائي غير مدروس وتخرج جيوش من الطلبة كل عام اصبح من الصعوبة استيعابهم من قبل المؤسسات والدوائر الحكومية اضافة إلى تفشي الرشوة والفساد والمحسوبية والمنسوبية وعدم تفكير الحكومات المتعاقبة في مساعدة الخريجين الجدد للقيام بأنشاء مشاريعهم واعمالهم الخاصة بهم.
ج- محو العراق واحلال عراق آخر مشوه بدلا عنه
لقد تم تنفيذ المخطط الامريكي لهدم القيم الثقافية والدينية والتكافل الاجتماعي والغاء الهوية الوطنية عن طريق وضع العراق وشعبة تحت طائلة الحصار الظالم لفترة طويلة وتجويعه لفترة امتدت طوال (13) عاما ما بين عام 1990 إلى 2003 اضافة إلى نشر الخلافات الطائفية والمذهبية والقومية بين ابناءه مما ادى الى هدم العائلة ومقوماتها وهدم قيم التضامن وعلاقات حسن الجوار والتعايش الاخوي لابناء المذاهب والقوميات في العراق وعوضا عن ذلك تم بناء نظام الحواجز المادية والنفسية والمذهبية والقومية والمناطقية والخوف من الاخر ونشر ثقافة الحواجز الكونكريتية (ثقافة الصبات) وتراجعت المقاييس الصالحة والمباديء الخلقية والثقافة الاصيلة التي كانت سائدة في المجتمع. كل ذلك كان يجري بشكل خبيث ومنظم لاجل تدمير الاسس الصحيحة للمجتمع التي تمنحه القوة والمناعة ضد الافكار المنحلة والدخيلة وتخريب أي شيء ذو قيمة في المجتمع العراقي حتى يأتي الوقت الذي يكون فيه ادراك العراقيون للحقائق مختلا لدرجة انه لا يرى الامريكان غزاة ويصبح النظام الامريكي وقيمه وثقافته بديلا عن الثقافة العراقية وقيمها هذا ان لم تكن مرغوبة اكثر وذلك ضمن مخطط لهدم العراق وتأريخه الطويل والعريق واستبداله بعراق آخر مشوه لا قيمة له ولا وجود على مسرح التاريخ والعالم.
لقد تم كل ذلك من خلال الحروب والنزاعات والحصار الاممي الظالم ودعم الارهاب والمجموعات الارهابية ونشر الفساد السياسي وتخريب التعليم وتخريب القيم والمفاهيم السائدة في المجتمع وحتى التأثير على المعتقدات والسلوك الفردي والجماعي لتصبح امورا مثل الرشوة الوظيفية والمحسوبية للمقربين والتعصب للعشيرة والاهل والاستيلاء غير الشرعي على ممتلكات الدولة وسرقة المال العام وشراء الذمم والانحطاط الخلقي امورا شائعة في المجتمع لا تثير الاعتراض ولا تبعث على الاستنكار ولا تدفع الى المحاسبة الجدية. ان هدف هذه الخطوة هو تخريب الاسرة والمجتمع واخيرا الدولة وجعل الاسرة المفككة هي النموذج العام عن طريق تخريب منظومة التعليم وهدم القيم الاجتماعية والمثل الدينية ونشر الرذيلة في المجتمع وتشجيع تعاطي المخدرات ومشاهدة البرامج والمسلسلات والافلام الاباحية والماجنة والنشاطات البعيدة عن هموم الناس وتطلعاتهم الحقيقية وحرفهم عن المسار الصحيح للتقدم العلمي والاجتماعي والفكري والثقافي والسياسي مما يقلل من احترام الابناء للاباء والطالب للاستاذ والصغير للكبير وبالنتيجة يضعف من ولاء الافراد للمجتمع والدولة كخطوة متقدمة وتفكيك مفاصل الدولة وجعلها غير قادرة على مسك زمام الامور.
كما ان التدخل السياسي للادارة الامريكية في الشؤون الداخلية للعراق وفسح المجال امام الفاسدين وغير الكفوئين للوصول الى مناصب حساسة في الدولة وتجاوزهم على القوانين وعدم محاسبتهم تزيد من غضب الناس على الدولة والوطن رغم ان هؤلاء الفاسدين قد يشكلون جزء من المنظومة السياسية للدولة ولكنهم بالتأكيد لا يمثلون الوطن واصالته.
د- اذكاء الصراع الطائفي والقومي لهدم قيم التضامن الاجتماعي
إن تطبيق مبدأ فرق تسد وضرب البعض بالبعض الآخر كان وما يزال وسيلة من الوسائل المفضلة للسيطرة على الشعوب والدول بأقل كلفة ممكنة. وهذا ما سعت له دائما دول الهيمنة العالمية فقد مارسته بريطانيا سابقا وتمارسه اليوم أمريكا في سياستها الشرق أوسطية وتعاملها مع الدول العربية والإسلامية. والغريب في الأمر إن الدول الاستكبارية تنجح في كل مرة من زرع الفرقة والتشتت وخلق الصراعات والمنازعات ما بين مواطني الدولة الواحدة وإشغالها عن مجابهة العدو الحقيقي وفقد القدرة على النمو والتطور والرقي والمشاركة في ركب الحضارة الإنسانية.
لقد وضعت امريكا بعد غزو العراق عام 2003 نظاما سياسيا يستند على محاصصة طائفية وقومية لزرع الفرقة ما بين مكونات الشعب العراقي لغرض اشغاله بمشاكله الداخلية وتعطيل التطور العلمي والنمو الاقتصادي والازدهار الاجتماعي وخلق التبعية السياسية.
إن هذا التمزق والتشرذم هو ما كانت تسعى إليه إسرائيل منذ فترة طويلة. ففي شباط عام 1982 نشرت المنظمة الصهيونية العالمية باللغة العبرية خطة للشرق الأوسط سميت (إستراتيجية إسرائيل في الثمانينات) تدعوا فيها من جانب إلى تحويل إسرائيل إلى قوة إقليمية ومن جانب آخر إلى تفتيت العالم العربي إلى مجموعات أثنية ومذهبية متناحرة يمكن السيطرة عليها والتلاعب بها بسهولة لمصلحة الكيان الصهيوني. وفي كتاب ظهر حديثا بعنوان (إسرائيل وصدام الحضارات) أشار فيه المؤلف جوناثان كوك بان غزو العراق واحتلاله واحتمال خوض حرب أخرى مع إيران يأتي ضمن سياق تفتيت الأمة العربية ونشر الفوضى والحرب الأهلية في العراق وان ما يجري حاليا هو أمر سعت الى تحقيقه الإدارة الأمريكية حين غزت العراق عام 2003 بل إن ذلك هو الهدف الذي عملت عليه بشكل جدي إسرائيل وأصدقائها المحافظون الجدد الأمريكان فقامت الإدارة الأمريكية بحل الجيش والشرطة والإدارة العراقية بعد احتلالها للعراق مما جعل الفوضى والارتباك تسود جميع مرافق الدولة العراقية. كل ذلك في إطار بناء دولة عراقية ضعيفة او دويلات طائفية وقومية متصارعة ومتناحرة وإعادة صياغة الشرق الأوسط بأكمله على نحو يسهل السيطرة عليه والتلاعب بمقدراته لسنوات طويلة.
هـ- تشجيع الفساد الخلقي والسياسي لتحطيم الدولة ومؤسساتها
ان ما سعت له الادارة الامريكية هو تدمير وتخريب المؤسسات والدوائر في الدولة العراقية العاملة في المجال الامني والسياسي والعلمي والاقتصادي والاجتماعي واهم هذه المؤسسات هي مؤسسات القضاء والشرطة والجيش. فهي المؤسسات التي من مهامها تحقيق العدل ما بين افراد المجتمع وحفظ الامن والنظام العام والدفاع عن وحدة الأرض والامة من الاخطار الخارجية والداخلية وان تدميرها يفتح المجال امام انتشار الفساد بمختلف انواعه واشكاله واستغلال القوي للضعيف وغلبة اصحاب المصالح الضيقة والمنتفعين والانتهازيين على عامة الناس والتلاعب بحقوقهم مما يثير حنق العامة واستيائهم من هذه المؤسسات ويدفعهم للهجوم عليها مما يقلل من فاعلية هذه المؤسسات من اداء دورها في المجتمع. فعندما يصبح القضاء مسيسا ولا يطبق القانون الا على الضعيف ويفقد رجال الشرطة هيبتهم ومكانتهم في المجتمع بسبب طمع وجشع البعض منهم والمحابات للقوي واصحاب النفوذ والمال ويخترق الجيش والاجهزة الامنية من قبل الدول الاجنبية يصعب عندئذ المحافظة على امن الدولة وهيبتها ومصالحها وعلى حقوق المواطنين وسبل معيشتهم.
لقد ادى ضعف الدولة وعدم سيادة القانون ان اصبحت الاعراف المتخلفة والتقاليد البائسة هي شريعة الغاب السائدة في المجتمع ونسيت وذهبت تقاليد العشيرة الاصيلة والراشدة والرائعة في مهب الريح مما جعل ما يحدث في المجتمع ما بين آونة وأخرى من مفارقات احاديثا للتندر والفكاهة للهرب من الواقع المر وضيق العيش.