- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الغاء وزارة التخطيط في العراق ونصيحتي للوزير
بقلم: د. صلاح حزام
في اوائل التسعينيات من القرن الماضي وعندما كنت لا ازال اعمل في وزارة التخطيط العراقية كرئيس لقسم السياسات الاقتصادية والخطط ، حضر الى مكتبي رئيس مكتب الوزير في حينها الدكتور سامال مجيد فرج ، حاملا مظروفاً مغلقاً ومكتوب عليه " سري وشخصي".
قال لي: السيد الوزير ارسل لك الموضوع الذي داخل المظروف ويطلب ان تقوم بمراجعته وابداء الرأي بما ورد فيه فوراً لانه مطلوب من السيد الوزير تقديم رأي الوزارة في اجتماع مجلس الوزراء القادم لانه مستعجل. كما اوصاني بقفل باب مكتبي من الداخل اثناء عملي على الموضوع ، لكي لايطلع عليه أحد.
فتحت المظروف بسرعة وقرأت محتواه . الموضوع كان مذكرة مرفوعة الى رئيس الجمهورية تقترح تطبيق نظرية الدكتور شاخت التي قدمها الى ادولف هتلر ، على العراق !!
نظرية او برنامج الدكتور شاخت كانت تتلخص بزيادة اصدار العملة (طبع العملة) من قبل الحكومة بزعامة هتلر واستخدامها في زيادة الانفاق العام لغرض تحفيز الاقتصاد الالماني ومساعدته على الخروج من الكساد الذي كان يعاني منه بسسب الكساد العظيم اضافة الى آثار الحرب العالمية الاولى التي كان لازال الاقتصاد يعاني منها لاسيما بسبب التعويضات الضخمة التي فرضت عليه من قبل المنتصرين.
حجة شاخت التي استند اليها في دفاعه عن هذا البرنامج هي، ان الجهاز الانتاجي الالماني كان متطورا وكبيرا ويمتلك افضل تقنيات ذلك العصر كما انه يتميز بالمرونة الانتاجية العالية لكنه يعاني من عطالة جزئية بسبب الكساد.
وعند شروع الحكومة بتطبيق المقترح والشروع بالانفاق الكبير فان الجهاز الانتاجي سوف يستجيب للطلب الجديد بسرعة وقبل ان تظهر الآثار التضخمية لذلك الانفاق.
وصدقت توقعات شاخت وتحققت المعجزة الالمانية .
الخلاصة : من قدم المقترح لرئيس جمهورية العراق في وقتها كان يعتقد او يزعم ان العراق في ظل الحصار مثل المانيا في تلك المرحلة.
عند الانتهاء من قراءة المذكرة ، بدأت باعداد الرد وكانت خلاصته ان هذه الوصفة لاتناسب العراق لان الاقتصاد العراقي ليس كالاقتصاد الالماني . فالاقتصاد العراقي ليست لديه طاقات انتاجية حقيقية قادرة على الاستجابة للطلب ، حيث انها لاتنتج كل ماتحتاجه السوق اولا، وثانيا انها تعتمد على الاستيراد في توفير مستلزمات الانتاج وقطع الغيار والتي اصبح استيرادها غير ممكن بسبب العقوبات والحصار.
كما ان القطاع الصناعي الخاص العراقي هو نسخة مشوهة من القطاع العام بسبب خضوعه التام لادارة الحكومة (كانت قراراته مرهونة بموافقة مدير عام التنمية الصناعية في وزارة الزراعة).
والقطاع الزراعي يعتمد على الاستيراد في الحصول على البذور وبعض الاسمدة والمبيدات والآلات.
انتاج الدواجن في العراق كان بمثابة عملية تجميع مكلفة اذ يستورد البيض للتفريخ او الافراخ والاعلاف والادوية ومستلزمات المشاريع المختلفة من اجهزة ومعدات. وكانت كلفة استيراد كيلو لحم الدجاج ارخص من كلفة انتاج الكيلو محلياً.
وعندما انتهيت من الرد ارسلته الى مكتب الوزير في مظروف مغلق وسلمته باليد الى مدير المكتب.
بعد نصف ساعة طلبني الوزير لمقابلته، ذهبت اليه واستقبلني بوجه مكفهر غضباً من ردي السلبي.
حاولت ان اشرح له الفروقات الجوهرية بين الاقتصاد الالماني والاقتصاد العراقي وبعد حوار طويل يبدو انه اقتنع مع انه تظاهر بعدم الموافقة.
بعد ايام ، اخبرني صديق كان يعمل معنا مديرا عاما في وزارة التخطيط وكانت علاقته قوية وخاصة مع الوزير ، اخبرني بأنني ورطت الوزير لانه طرح الرد الذي قدمته له باعتباره رأي الوزارة في المقترح وكان صاحب المقترح هو الفريق حسين كامل وكان رئيس مجلس الوزراء في وقتها ليس صدام حسين بل هو اما الدكتور سعدون حمادي او احمد حسين.
وما كان من حسين كامل الّا ان يتهجم على وزير التخطيط ويوجه له الاهانة العلنية ويتهمه بالمزايدة.
نتيجة ذلك ولأن حسين كامل كان سيدا مسيطرا على الحكومة ، تم حل وزارة التخطيط وتحويلها الى هيئة تابعة لأمين عام مجلس الوزراء (بعد ان كانت تأتي بعد وزارة الخارجية من الناحية البروتوكولية) من باب الاهانة من ناحية ومن ناحية اخرى كعلامة من علامات التخلي عن النهج الاشتراكي. ويبدو انهم ارادوا ازالة عقبة من طريق حسين كامل في اتخاذ القرارات الاقتصادية.
حيث كانت وزارة التخطيط يوما ما رمزا للاشتراكية واليسارية ومكافحة الاستعمار ..الخ من الشعارات.
تم تعيين رجل محاسب كان يعمل مديرا عاما في وزارة المالية، كرئيس للهيئة الجديدة فأدار الهيئة بعقلية المحاسب.
بعدها بدأ تسرب افضل كوادر الوزارة واهملت وتم الاستيلاء على مبانيها بما في ذلك مكتبتها التي كانت افضل مكتبة في الشرق الاوسط لما تحتويه من ثروة من المصادر العلمية لاسيما في حقول الاقتصاد والمالية والاحصاء وغيرها من المجالات.
وزارة التخطيط العراقية التي كانت في يوم ما اكاديمية عظيمة ومؤسسة محترمة، تحولت الى موضع سخرية من قبل الجهلة والمتخلفين الذين كانوا في مراكز القرار.
اعتبرت عقبة في طريق تنفيذ الافكار المبتكرة التي تنضح من العقول الثورية.
امين عام مجلس الوزراء اجتمع بالمنتسبين ذات مرة وأخذ يسخر من الوزارة والتي وصفها بانها من مخلفات الدول الاشتراكية التي كانت تتميز بوزارات الاعلام والتخطيط. لقد نسي هذا الجاهل انه مسؤول في دولة لازال يحكمها حزب يعلن انه اشتراكي وان العراق لم يتحول الى دولة امبريالية !!
كراهية الرجل لوزارة التخطيط تنبع من انه قدم للعمل فيها ذات يوم لكنه لم يقبل فيها لعدم الأهلية. فذهب شاكيا حاله الى صدام حسين الذي كان نائبا في حينها فعينه في مكتبه لانه عضو كبير في الحزب.
في الازمات والحروب، الدول تؤسس دوائر تقوم بتخطيط الجهود وادارة الموارد النادرة حتى لو كانت الدولة راسمالية.
واعتقد ان ازمة الحصار والدمار الذي لحق بالعراق يعتبر من مبررات استحداث وزارة للتخطيط حتى لو لم تكن موجودة.
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي