- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الانسحاب من اتفاقية (5 + 1).. تخبط استراتيجي امريكي
عباس الصباغ
لم تستطعْ اتفاقية (5 + 1) التي ابرمت بين طهران و الدول دائمة العضوية في مجلس الامن + المانيا الغاءَ تاريخ طويل من العداء والتوتر اللذين استحكما على العلاقات الثنائية بين طهران وواشنطن، والتي قطعت غداة قيام الثورة الايرانية (1979) ولحد الان، وبتوقيع هذه الاتفاقية عمَّ الارتياح العالم باسره كونها تمكنت من سحب فتيل ازمة كادت تشعل حربا عالمية ثالثة تنطلق من اكثر بؤر الشرق الأوسط سخونة، ولطالما كان الرئيس ترامب يلوّح في برنامجه الانتخابي بانه سيعيد "النظر" بهذه الاتفاقية متحججا بان "تلاعب " ايران بمعطياتها التي جرى بموجبها الاتفاق على تقليص برنامج إيران النووي في مقابل تخفيف عقوبات مفروضة عليها، وانه سيتخذ قرارا "مناسبا " بشأنها وظل اسلوب التلويح بالانسحاب يرافق اكثر خطابات "وتغريدات " ترامب ملقيا الكرة في ملعب ايران ومتحججا بان ايران مازالت بعيدة عن روح هذه الاتفاقية، وقبل ان يُخضع الامر الى لجان تحقيق اممية مختصة، ورغم ان وكالة الطاقة الذرية اقرّت اكثر من مرة بسلمية البرنامج النووي الايراني وان ايران ملتزمة بفحوى الاتفاقية حرفيا يضاف اليها قناعة الدول العظمى المشاركة في الاتفاق بذلك، ومع ذلك فقد كان الرئيس ترامب يلوّح بتصفية تركة سلفه اوباما الذي انتقد بدوره الغاء الاتفاقية بقوله: «بدون هذه الاتفاقية، يمكن أن تترك الولايات المتحدة في نهاية المطاف بخيار خاسر بين إيران المسلّحة نوويًا أو حرب أخرى في الشرق الأوسط، وان الاتفاق النووي لايزال نموذجا لما يمكن أن تحققه الدبلوماسية».
اتفاقية (5+ 1) لم تكن اتفاقية ثنائية بل كانت بين طرفين خاضا مفاوضات شائكة وطويلة وكانت نجاحا دبلوماسيا للجميع وتحديا شرسا امام المتشددين والمعترضين على فكرة التحاور مع الطرف الاخر وخاصة في طهران وواشنطن مما وضع انسحاب ترامب من الاتفاقية المعتدلين والحمائم في موقف حرج لايحسدون عليه الى ان جاء الاتفاق الذي كان نتيجة جهود حثيثة من المفاوضات الصعبة انتهت بقناعة المجموعة الدولية بسلمية البرنامج النووي الايراني واقتصاره على الاستخدام التنموي في مجالات انتاج الطاقة الكهربائية والاغراض الطبية مقابل رفع العقوبات الدولية عنها بشكل تدريجي واعادة اندماج ايران مع المجتمع الدولي .
انسحاب ترامب احادي الجانب لقي معارضة شديدة ـ في الظاهر ـ من فرنسا والمانيا وبريطانيا والتي اعلنت جميعها في بيان مشترك انها ملتزمة باستمرار تنفيذ الاتفاق رغم اعلان ترامب انسحاب بلاده الرسمي منه دون استشارة شركائه، فقد قوبلت هذه الخطوة باستهجان روسي ـ ايراني ورفض اوروبي ـ عالمي عام اذأكد الاتحاد الأوروبي أنه يجب الحفاظ على هذا الاتفاق الدولي المرتبط بالعالم أجمع ، كما لم يستند هذا الانسحاب على اسس فنية بل كان عبارة عن تخبط سياسي اعاد الى الذاكرة ضجيج الحرب الباردة وهوس الصقور الباحثين عن "اعداء" جدد للولايات المتحدة ، والمتباكين على "المخاطر" التي تهدد الامن القومي الامريكي، ومن هذا المنطلق انبعثت مجددا (ايران فوبيا) التي اثارتها الوعود الانتخابية الصاخبة للرئيس ترامب، وهذا الانسحاب الممهّد للإلغاء ـ الذي يعيد مناخ الشحن والتوتر والترقب وانتظار حدوث الاسوأ ـ لم يكن مفاجئا للجميع وان اثار ردودا عاصفة من الشجب والامتعاض حتى من داخل الولايات المتحدة نفسها ، ناهيك عن عودة اتهامات قديمة للرئيس ترامب بشذوذ سلوكه السياسي وانه تنقصه الخبرة الدبلوماسية وهذا الانسحاب ليس مزاجويا اتى من رئيس معروف عنه بقرارات سرعان ما يتنازل عنها، وانما له ارتباط وثيق بمنظومة مصالح الولايات المتحدة في الشرق الاوسط وسلسلة ارتباطاتها مع حلفاء لم يكونوا على وفاق سياسي دائم مع طهران كدول الخليج لأسباب سيا/ طائفية والتي كانت تتخوف من امتداد طهران الجيو ستراتيجي على عموم الشرق الاوسط، ومن رجحان كفتها اذا ما امتلكت برنامجا نوويا وان كان سلميا ومراقبا مراقبة دقيقة وصارمة وحتى بعد تأكيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران التزمت بتعهداتها تجاه هذا الاتفاق، ومع هذا ما تزال مخاوف دول مجلس التعاون الخليجي حيال طهران قائمة، فالمسالة اذن ليست هي برنامجا نوويا ايرانيا مع غضّ النظر عن البرنامج النووي الاسرائيلي الحربي واعطاء الضوء الاخضر لبقية الدول بدخول النادي النووي ولأغراض ليست سلمية وهنا يتجلى التخبط الاستراتيجي الامريكي في الشرق الاوسط في اوضح صوره ،وانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية دولية محترمة اصدق مثال .