بقلم: باسـم فــرات
تُعدّ المنعطفاتُ التاريخية السلبيَّة؛ أرضًا خصبة لبروز التطرف وخطابات المظالم والغبن التاريخي، وتهويل الأوهام بلا وازع علمي ولا ضمير، حتى تصل إلى مرحلة تقديس وتكفير، التقديس حيث قرَّت تلك الأوهام في عقول المؤمنين بها وصارت حقائق مقدسة، والتكفير لـمن يناقشها نقاشًا علميًّا بما تفرضه أدوات البحث العلمي من منهجية عقلانية تزيح العواطف الجيّاشة التي تلبست أدوات الكتابة عند غالبية مَن تناولوا الهمّ السياسي والوطني والقومي والديني والمذهبي والمناطقي.
انشغل الخطاب السياسي للحركات القومية؛ عربية وغير عربية؛ بالبحث عن موطئ قدم يسبق الجميع، كي يستحوذوا على أكبر مساحة من "العالم العربي" فأرهقت كل فئة نفسها بدراسات وبحوث تصلها بأقوام خرجت من مسرح التاريخ قبل الميلاد، هي في جوهرها مزاعم عنصرية إلغائية تتعارض مع البحث العلمي، لأن الإيمان بالنقاء العِرقي؛ لا سيما في العراق وبلاد الشام؛ هو ضرب من الحُمق نجده واضحًا عند الذين يصلون أنفسهم بتلك الأقوام المندثرة، منكرين سُنن الحياة المبنية على الاختلاط والتزاوج والاندماج، لأن منطقة الهلال الخصيب (العراق وسورية الكبرى) من أكثر المناطق التي تعرضت لحروب وهجرات وفتوحات.
تتميز المنطقة الواقعة بين سلاسل جبال زاغروس والخليج العربي شرقًا، وجبال طوروس والبحر المتوسط شمالاً، ووادي النيل غربًا والبحر العربي وخليج عدن جنوبًا؛ بأنها منطقة الكتابة الأولى، وفيها تدوين كتابي غزير، لموقعها الذي يُعدّ حلقة وصل بين القارات والبحار، فهي طريق تجاري "طريق الحرير" ومطمح الحالمين والمغامرين أفرادًا ودولاً، ولأنها مهد الحضارة والكتابة والعمارة والأديان، فقد جعلها موقعها هذا بوتقة لانصهار عشرات الأعراق والإثنيات والقوميات، ويظهر ذلك جليًّا في تنوع البشرة ومختلف المميزات الجسمانية، ومَن يؤمن بالنقاء العرقي فيها- ولو بنسبة ضئيلة أو ينسب نفسه إلى أقوام قديمة سبقت الميلاد بقرون- فهو يجافي الحقيقة ويُعلي من أوهامه وعنصريته، ويزداد هذا الأمر سوءًا حين يتبنى هذا الزعم مَن ينتمي إلى لغات شفاهية حتى القرن التاسع عشر أو نهاياته، وتفتقد لغته لمئات المؤرخين والباحثين وآلاف الشعراء والأدباء الذين برزوا وحققوا منجزًا تدوينيًّا ضخمًا قبل الحرب العالمية الثانية.
وقد أطنب المؤرخون والبلدانيون (الجغرافيون) في تحديد أقاليم هذه المنطقة منذ قرون سحيقة، ولو تأملناها جيدًا فسنرى بوضوح حدود أقاليمها، ووضوح التنوع اللغوي فيها، وأن سكانها الأقدم؛ أي الذين لديهم حضورهم السكاني والاجتماعي والثقافي؛ قد تركوا لنا تراثًا غزيرًا، وبعدة لغات، لكن تبقى اللغة العربية صاحبة أكبر تراث عرفه التاريخ البشري؛ هي المهيمنة على المنطقة حتى عشرينيات القرن العشرين، حين تم تحديد الحدود السياسية، فأصبح حضور اللغة العربية أقل كثيرًا في أقاصي شمالها وجنوبها الشرقيّ، أي المنطقة التي أصبحت جزءًا من تركيا وإيران اليوم.
لا يمكن إنكار أن جزءًا من سكان الإقليم كان نزوحهم من الأطراف الوعرة أو البعيدة قليلاً، وليس على شكل موجات كبيرة تكتسح ما قبلها وتذوبه في لغتها، وأن هؤلاء أسهموا بثقافة المنطقة، ولكن ليس بلغتهم بل بلغة السكان الأقدم والأكثر عددًا وتفوقًا ثقافيًّا، وسرعان ما يذوبون في الغالبية، وحافظوا على شفاهيتهم حتى القرن العشرين؛ وعليه فإن ما يُميّز المنطقة أمران: وضوح حدود أقاليمها الجغرافية، وأصالة القوميات التي أنجزت تراثًا ضخمًا يمتد لقرون طويلة، والعراق وعربه منها.
حـدود العـراق الجـغـرافـيَّة
العراق إقليم جغرافي واضحة معالمه، مثلما تتضحمعالم الإقليم السوري والإقليم المصري، وهذه الأقاليم الثلاثة نشأت عليها أولى الحضارات وأعرقها، ويُعدّ الحجاز امتدادًا لهذه الأقاليم، ويمكن القول إن الأديان السماوية جميعها نشأت على هذه الأرض، ولا سيما أن الجهد التأسيسي العراقي في الحضارة العربية الإسلامية جاء أولاً ثم جاء الدور الشامي (السوري) لاحقًا، فالمصري.وقد تتابعت هذه الأقاليم في إنجاب أعظم فقهاء وعلماء ومفسري القرآن؛ ويكاد يستحوذ هذا الجهد على المشهد العربي- الإسلامي، ولا يغيب عن بالنا أن اثنين من الأئمة الأربعة عراقيان هما أبو حنيفة النعمان وأحمد بن حنبل الشيباني، وأن الإمام مالك بن أنس الحميري الأصبحي المدني؛ حليف بني تيم من قريش، بينما يُمثّل رابعهم الشافعي الأقاليم الأربعة خير تمثيل، فهو شامي الولادة (غزة) حجازي النشأة والجذور وعراقي التعليم والتصنيف، ومصري الشهرة والوفاة.
لا بدّ قبل الشروع في عرض جهد المؤرخين والبلدانيين الذين ذكروا حدود العراق؛ من أن أشير إلى الجهود المبذولة من قِبل مؤرخين وباحثين أكْفَاء، وكانت بحوثهم ومقالاتهم مبنية على أدلة علمية عبر العودة إلى مصادر تراثية ومراجع ذكرت حدود العراق التاريخية، وهؤلاء استفدت منهم وحفزتني مقالاتهم على البحث في بطون المصادر ما استطعت إليه سبيلاً، وما وقفت عليه أن الجميع قد غفلوا عن ذكر رحلة المؤرخ الروماني أميانوس مرشلينوس الأنطاكي(330- 400م)؛ الذي ذكر فيها تفصيلات دقيقة عن العراق وقد أطلق عليه في كتاباته المترجمة إلى العربية «بلاد آشور» التي تمتدّ من زاخو ونينوى وأربيل وحتى ميسان والزبير،وكذلك الحال مع الماوردي(ت 450ه) في كتابه الأحكام السلطانية.
هناك ثلاث حقائق علمية لا تقلّ أهمّيتها عن علمية ومنطق العمليات الحسابية، هذه الحقائق الثلاث، أولاها: وحدة التراب العراقي القائمة على إقليم جغرافي معروفة معالمه ومتفق عليها عند المؤرخين والبلدانيين، وقد زخرت مؤلفات هؤلاء بذكرها وتفصيلاتها، حتى وصل الحديث إلى طبائع أهلها وتأثير المناخ وموقعه الجغرافيّ عليهم.
وأما الحقيقة الثانية فهي عراقة الوجود العربي في العراق؛ والتي تمتد إلى أكثر من ألف وأربعمائة سنة قبل الإسلام، ولا سيما أنه متصل بشبه الجزيرة العربية،ولا موانع طبيعية تفصل بينهما.وبحسب هذه الحقيقة الجغرافية فإن نهر الفرات- وهو جزء من العمق العراقي- هو الحدّ الشمالي الشرقيّ الفاصل لشبه الجزيرة العربية. وأما الحقيقة الثالثة فإن العراقيين هم روّاد الطور التأسيسي في الحضارة العربية.وسوف أعرض في الأسطر الآتية الحقيقة الأولى، أي وحدة التراب العراقي، وأما الحقيقتان الأخريان فقد عالجتهما في مقالات أخرى.
حدود العراق التاريخية:
في خريطة بابلية، يعود تاريخ رسمها إلى 4000 عام؛ يظهر العراق على امتداد نَـهريْ دجلة والفرات، والجبال في الشمال، والأهوار في الجنوب(1) وأن "كلاوديوس بطليموس (90-161م) في وصفه جغرافية العالم؛ حدد فيه جغرافية العراق على النحو الآتي: «تنتهي بلاد ما بين النهرين من الشمال بذلك الجزء من أرمينياالكبرى، ومن الغرب بذلك الجزء من الفرات، ومن الشرق بالجزء من دجلة القريب منبلاد آشور، ومن الجنوب بما تبقى من نهر الفرات».
وأول من استعمل مصطلح «بلاد بابل وآشور» من المؤرخين الإغريق والرومان، هو هيرودوتس (484 ق.م- حوالي 425 ق.م). وأما المصطلح الثاني الذي ظهر في الكتابات اليونانية واللاتينية، فقد ظهر لدى المؤرخ الشهير بوليبيوس (202- 120ق.م)، وهو مصطلح (ميسوبوتاميا) الذي يعني (أرض ما بين النهرين).
وأما المؤرخ الشهير سترابو (64ق.م-19م)، فقد أطلق اسم "ميسوبوتاميا" على الجزء المحصور بين دجلة والفرات من الشمال إلى حدود «بغداد» تقريبًا. وشاع استعمال المصطلح بعد ذلك للدلالة على جميع المنطقة الواقعة بين النهرين من الشمال وحتى الجنوب(2) وهو ما نجده عند المؤرخ الروماني أميانوس مرشلينوس الأنطاكي(330- 400م) إذ يذكر تفصيلات دقيقة عن العراق حيث يطلق عليه بلاد آشور، ويبدأ من نينوى وأربيل وحتى ميسان والزبير، وكذلك بعقوبة وعانة وزاخو وسواها من المناطق التي هي ضمن العراق التاريخي وتظهر فيها حدوده على ما هي عليه في الوقت الحاضر(3).
حدود العراق
من الفتح الإسلامي إلى دخوله عصبة الأمم
من الوقائع التي سجلتها عصبة الأمم، واقعة الالتباس الذي حصل في مفهوم دولة العراق. وقد نُزعَ هذا الالتباس عام 1932، حينما مُنِحَ العراق استقلاله، وأصبح دولةً لا إقليمًا جغرافيًّا تتناوله أقلام المؤرخين والجغرافيين المسلمين. وكان قرار عصبة الأمم ضرورة تاريخية وعلمية مُلِحَّة، لتفكيك الفِرية التي يزعمها مَن ادّعى أن "العراق وطن اصطنعه الإنجليز"، وأن لا وجود للعراق قبل عام 1921، ودعاة هذا الزعم يجهلون تاريخ العراق أولاً، ولا يفرقون بين الدولة بوصفها نظامًا وحكومة من جهة وبين الوطن أرضًا جغرافيَّة ومنطقة تاريخية.ينتابها ما ينتاب جميع أنواع الهيمنات، وتبقى على الرغم من ذلك معروفة الحدود عند البلدانيين من جهة ثانية.
إن المراجعة التاريخية لمفهوم العراق تؤدي إلى أن العراقلم يوجده من العدم البريطانيون بالطريقة التي أنشأوا بها بعضَ الكيانات السياسية في العالم الحديث. فالعراق- بحسب التراث البلداني والجغرافي العربي-موجود لأربعة عشر قرنًا وأرضه محدّدة بوضوح. إذ كان يُطلق على ساكنيه الذين اشتركوا في جيش الإمام علي آنذاك "أهل العراق"(4) وهُمْ كلٌّ من أهل الموصل والأنبار شمالاً وأهل الكوفة والبصرة جنوبًا، وهذا التوصيف التاريخي للواقعة يرسم لنا خريطة جغرافية للعراق تمتد من تخوم الموصل شمالاً حتى أدنى بلاد عبادان على ساحل الخليج العربي جنوبًا(5).
وقد ورد في معجم البلدان لياقوت الحموي النص الآتي:"وقال قوم: العراق الطور والجزيرة والعبر، والطور ما بين ساتيدما (جبل بين ميافارقين وسعرت) إلى دجلة والفرات...وقال المدائني: عمل العراق من هيت إلى الصين والسند والهند والريّ وخراسان وسجستان وطبرستان إلى الديلم والجبال"(6)،والجزيرة هي ما بين دجلة والفرات (في العمق التركي الآن) وحتى أقرب نقطة تضيق الأرض بينهما (شمال بغداد). وأما الطور لما بينهما جنوبًا حتى الالتقاء، ومن ثم المصبّ، والعبر تعني العبور(7)الأمر الذي يعني أن عراق اليوم أصغر مساحة من العراق التاريخي الذي ذكره المدائني قبل حوالي 1300 سنة.
ويتفق معه البلداني أحمد بن رسته (توفي حوالي 291 ه) بقوله: "إن حَدَّ السواد، الذي تم مسحه في صدر الإسلام هو من لدن تخوم الموصل، مارًّا إلى ساحل البحر من بلاد عبادان، من شرقي دجلة طولاً، وعرضه منقطع الجبل (حمرين) من أرض حلوان إلى منتهى طرف القادسية، مما يلي الغريب"(8)،وأرض حلوان تتكون من سبع نواحٍ هي: خانقين، زبوجان، المرج، شلاشان الجامد، الحر، السيروان، بندنيجان"(9).
يؤكد ابن خرداذبه (205- 280 هـ= 820- 893 م)(10)وابن واضح اليعقوبي (توفي 284هـ) وابن حَوْقَل (ت بعد 367هـ= بعد 977م) على الحدود ذاتها التي ذكرها أحمد بن رسته(11). ويذكر أبو حنيفة الدينوري (ت 282هـ= 895م) في "الأخبار الطوال": "وخص ولد شيت بأفضل الأرض وأسكنهم العراق". ثم يذكر "وكرى (زاب بن بودكان) بالعراق أنهارًا عظيمة سمّاها الزَّوابي، اشتقّ اسمها من اسمه، وهي الزابي الأعلى، والزابي الأوسط، والزابي الأسفل"(12)، وهذا دليل يُثبت أنَّ الزَّوابي من منابعها جزء من العراق التاريخيّ وينسف ما قال به سايكس وبيكو بعد أكثر من ألف عام.
أما اليعقوبي (ت 292هـ) فنورد ما ذكره لدلالته البالغة إذ يقول: "إنما ابتدأت بالعراق لأنها وسط الدنيا وذكرت بغداد لأنها وسط العراق"(13).
الهمذاني الشهير بابن الفقيه في كتاب البلدان؛ الذي كتبه أواخر عام 289 أو أوائل 290ه؛ يكرر حدّ السواد، بما لا يختلف تقريبًا عن البلدانيين (الجغرافيين) والمؤرخين بقوله "وأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمسح السواد، وطوله من العلث في الجانب الشرقي، ومن حربى في الجانب الغربي مادًّا إلى عبادان... وعرضه من عقبة حلوان إلى العذيب".
والهمذاني الذي لا يفرق بين مُصطلحَي "السواد" و"العراق" لكونهما تسميتين لإقليم واحد معروفة حدوده ومتفق عليها، يذكر لنا تفاصيل المناطق العراقية، أي الولايات والمدن والبلدات، أو ما كان يُطلق عليها الكور (جمع كورة) والطساسيج (جمع طسوج)، ومن هذه الكور، كورة حلوان التي من طساسيجها أربيل وخانقين، ومن الطساسيج في الكور الأخرى، كَلْوَاذَى، وجلولاء وجللتا، والنهروان الأعلى والأوسط وبادريا وباكسايا، وبحسب المحقق؛ فإن ابن خرداذبه لديه النهروان الأسفل؛ وبني جنيد وبادرايا ووباكسايا، والزاب الأعلى والزاب الأوسط والزاب الأسفل، والأنبار(14). ومما ذكره أيضًا أن قنسرين من عمل العراق(15).
وعند الهمذاني: قالوا: ودُومَة الجَنْدَل شاميّة، وهي فصل ما بين العراق والشام، وهي على سبع مراحل من دمشق.قال: ولما فتح أنوشروان قنَّسرين ومَنْبَج وحَلَب وأنطاكية وحمص ودمشق وإيلياء، استحسن أنطاكية وبناءَها، فلما انصرف إلى العراق بنى مدينةً على مثال أنطاكية بأسواقها وشوارعها ودورها وسمّاها زندخُسْره، وهي التي تُسميها العرب رُوميّة(16).
وإذا ذهبنا إلى المسعودي (ت 345هـ) نجد في مصنفه "التنبيه والإشراف" يؤكّد أن السواد هو العراق وشيوع معرفة حدوده بين كثير من الناس؛ بقوله: "وقد حدَّ كثير من الناس السواد وهو العراق، فقالوا: حده مما يلي المغرب وأعلى دجلة من ناحية آثور، وهي الموصل القريتان المعروفة إحداهما بالعلث من الجانب الشرقي من دجلة وهي من طسّوج بزر جسابور، والأخرى المعروفة بحربى وهي بإزائها في الجانب الغربي من طسوج مسكن،ومن جهة المشرق الجزيرة المتصلة بالبحر الفارسي... وراء البصرة مما يلي البحر"(17).
وفي خارطة ابن حوقل (ت 977م) تبدو بلدة "أسكي بلد" في أعالي الموصل، وعبادان جنوبًا، والكوفة غربًا، وحلوان شرقًا، ويورد أنه على الجانب الأيمن من دجلة من المدن، بغداد وتكريت وبينهما نهر الإسحاقي، ثم الموصل، وبلد، وطنزى، وآمد (18). ولم يبتعد الماوردي (ت 450ه) في الأحكام السطانية(19) عن سابقيه، بل تطابق معهم، وهذا التطابق في الاتفاق على أن حدود العراق متفق عليها نجده عند عديدين مثل ياقوت الحموي (1179- 1229م.)(20)، وصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي (ت 739 هـ)؛ الذي اختصر معجم البلدان(21).
وقد ذكر أبو يعلى الفراء (ت 458هـ) في كتابه "الأحكام السلطانية" أن العراق (أوله في شرقي دجلة: العلث- وعن غربيها حربى- ثم يمتدّ إلى آخر أعمال البصرة من جزيرة عبادان)(22). يحدد الجغرافي ابن سعيد المغربي (ت 685هـ= 1286م) حدود العراق بالزّاب المجنون (الأعلى) شمالاً، وعبادان جنوبًاوحلوان شرقًا، والكوفة غربًا، أي من أقاصي الجبال شمالاً حتى الخليج جنوباً(23).
وتظهر حدود العراق في "مناقب بغداد" لابن الجوزي؛ على ما هي عليه اليوم من جهة الشمال:"من بلد (حديثة الموصل) إلى عبادان طولاً، ومن العذيب إلى جبل طور عرضًا"(24) وبلد المذكورة، التي تقع شمال غربي الموصل، كانت تسمى"أسكي الموصل، أي الموصل القديمة (25)، يوافق ذلك التحديد شهاب الدين الآلوسي في "الطراز المذهب":"طولاً من حديثة الموصل على دجلة، أو من العلث، وهو شرقي دجلة، لا العلث الذي في غربيها قرب الدجيل، أو من الموصل، كما في القاموس، إلى عبادان"(26). كانت حدود العراق في العهد الجلائري (737هـ)"الأراضي الممتدة ما بين حديثة الموصل وعبادان الواقعة على مصب دجلة في البحر العربي طولاً، وبين القادسية وحلوان عرضًا، ويحده من الغرب الجزيرة والبادية، ومن الجنوب البادية والخليج العربي(27).
وهو يقترب مع ما ذكره مؤرخ بريطاني قبل معاهدة سايكس- بيكو؛ بأكثر من قرن؛ حين قال:"يمتد العراق من أدنى شط العرب جنوبًا حتى مدينة ماردين شمالاً ومن زرباطية شرقًا إلى الخابور غربًا"(28). يخبرنا الشيخ رسول الكركوكلي (ت 1824م)، عن حادثة ذات مغزى كبير، تدلل على وحدة التراب العراقي، وأن والي بغداد هو وزير العراق وحاكمه الفعلي، إذ يقول: "لقد أثمرت المساعي التي بذلها الأهلون والعشائر والرؤساء؛ ولاسيما أمراء الأكراد الذين قدموا العرائض والالتماسات إلى المقامات العليا بيد خاصة إلى الأستانة؛ وصدر الفرمان البادشاهي بتعيين داود أفندي واليًا على بغداد والبصرة وشهرزور وعن رتبة وزير، فكان لتعيينه رنة استحسان في سائر أنحاء العراق"(29). وهذا الحيدري (ت 1882) في كتابه الذي فرغ من تصنيفه (1869) يقول: "وسواد العراق من عبادان إلى حديثة الموصل طولاً، والمحمرة ما دون عبادان بساعتين"(30).
حتى لا ندع مجالاً للشك؛ نأتي بما وثقته كنائس الموصل من أحداث: "أن الإنجليز عندما دخلوا الموصل (1918) أرسل القائد في طلب البطريرك يوسف عمانوئيل توما الثاني (ت 1947)، وأخبره بنيَّة الإنجليز في قيام دولة مسيحية بشمال العراق، ولما سمع البطريرك هذا الرأي قام منتفضًا، ورد عليه بالقول: هل استشرت إخوتي الآخرين؟ قال: مَنْ هم؟ قال له: المسلمون وغيرهم". ثم أردف قائلاً: «هذا العراق لا يتجزأ»! (الأب سهيل قاشا، حوار في الشرق الأوسط). ولا أعتقد أن البطريرك علم بمفردة "العراق" من القائد الإنجليزي! ولم يكن لها وجود لدى عباسيين وعثمانيين(31). وفي اجتماع النجف الذي عُقد بين البريطانيين ووجهاء الفرات الأوسط في 11 كانون الثاني/ يناير 1918م. بَيّن محمد رضا الشبيبي أحد أبطال ثورة العشرين، والمتحدث بِاسْم مَن حضرَ المؤتمر، تصوُّر العراقيين عن أرضهم بقوله: "إن الشعب العراقي يرتئي أن الموصل جزء لا يتجزأ من العراق"(32)، ونجده في البند الأول من ميثاق جمعية العهد سنة 1919م. أكبر مما عليه اليوم "استقلال العراق استقلالاً تامًّا ضمن الوحدة العربية، وداخل حدوده الطبيعية وهي: من حدود الفرات، الواقعة شمالي دير الزور، وضفة دجلة الممتدة من قرب شمالي ديار بكر إلى خليج البصرة، ويشمل ضفّتَي دجلة والفرات من الشمال واليمين المحدود بالموانع الطبيعية"(33).
هذه الأدلة؛ بكل تأكيد؛ ليست الأدلة الوحيدة التي تُثبت وحدة التراب العراقي، ووعي العراقيين قبل عام 1921م، أو قبل الحرب العالمية الأولى، بأنهم عراقيون وأن حدود وطنهم تمتد شمالاً إلى أعالي جبال الموصل، أي أن الموصل إحدى أكبر مدن العراق، وأكبر مدن شماله، مع وعيٍ بعروبة العراق؛ وربما يأتي مَن بإمكانه أن يجعل هذا البحث كتابًا كاملاً يتتبع كل شاردة وواردة في كتب التراث العربي ومؤلفات المؤرخين والبلدانيين فيما يخص تسمية العراق وحدوده، لأن المصادر والمراجع التي ذكرت العراق وحددت حدوده أكثر مما أحصيته في هذا البحث بلا أدنى شك. أما عن التسميات المتعددة للعراق، فليست نبتًا شيطانيًّا، إذ إن كثيرًا من الدول تعددت تسمياتها، وبعضها دول حديثة، مثل زي الجديدة (نيوزلندا) فتسميتها الأقدم هي "أُوتَاروّا" و"أرض إوي" ومصطلح "كيوي" يُطلق ليس على الطائر الليلي الذي لا مثيل له في العالم، وليس على الكزبرة الصينية بعد التعديل الذي أجراه علماء البلاد، بل على السكان أيضًا، عليه فإن (بلاد السواد، أرض الرافدين، بلاد النهرين، أرض سومر وأكد، إقليم بابل) كلها تسميات لأحد أقدم بلدان العالم المتفق على حدوده الإقليمية ألا وهو العراق.
لكن لو تضاعفت المصادر والمراجع عشرات المرات، فهي لا وجود لها وملغية تمامًا عند مؤدلج هو ضحيةُ عنفِ السلطة ولا جذور له في البلد، وجاء طلبًا للرزق أو الأمان، من مناطق الندرة إلى عراق الوفرة، أو من أطراف العراق النائية عن مراكزه الحضرية، ودخلها بعد تنامي صناعة النفط، فظن أن الإنجليز صنعوا هذا الوطن، أو أوْهَمَ نفسه تخلصًا من شعور يكمن في أعماقه بأن إسهاماته في المنجز الحضاري– المدَني العراقي دون الآخرين بكثير ولا يتناسب مع نسبته السكانية الحالية، هذا الشعور الخاطئ الذي بُني على ردَّة فعل عنيفة على الخطاب القومي العربي؛ الذي هو شأن قرينيه الفارسي والتركي؛ متكئ على الأساطير. حيث يتم إخضاع التاريخ والجغرافيا، للأوهام المتطرفة بعنصريتها والرغبات الآنية، ويجري ضخهما بالعواطف والانفعالات المبنية على شيطنة الآخر وتجريده من إنسانيته والتركيز على تضخيم سلبياته التي لا تخلو أمة منها.
الهوامـــش:
(1) اسم العراق بين المدلول الجغرافي والسياسي في العصور القديمة (دراسة حضارية لغوية) د. قصي منصور عبد الكريم، مجلة علوم إنسانية، هولندا، السنة الثالثة، العدد 24، أيلول 2005.
(2) المرجع السابق.
(3) العراق في القرن الرابع الميلادي- أميانوس مرشلينوس- ترجمة: فؤاد جميل- تعليقات: سالم الألوسي- ط1- دار الوراق للنشر- لندن/بيروت 2008م. ويذكر أسماء المدن والبلدان العراقية ما بين الصفحات 12- 63.
(4) ثورة 1920 قراءة جديدة في ضوء الوثائق التاريخية، عباس كاظم، ترجمة: حسن ناظم، ط1 التنوير للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت 2014م. ص 24.
(5)مشكلة الموصل، دراسة في الدبلوماسية العراقية- الإنكليزية- التركية وفي الرأي العام. فاضل حسين، الطبعة الثالثة- مزيدة ومنقحة، مطبعة إشبيلية- بغداد 1977. ص6. مقتبس من كتاب:
Philip W. Ireland, Iraq, A Study in Political Development, P. 172.
(6) معجم البلدان، ياقوت الحموي، مادة العراق، ج4، ص94.
(7) العراق: المعنى والأصل والصورة، سيار الجميل، صحيفة إيلاف الإلكترونية، الأحد، 29 ك2- 2006م.
(8) المباح واللامباح، فصل ثوابت الجغرافيا، رشيد الخيون، ط1، دار مهجر، بوسطن 2005م.
(9) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن أبي بكر المقدسي البشاري، ط3- مكتبة مدبولي- القاهرة، 1411ه- 1991م. ص53.
(10) المسالك والممالك،ابن خرداذبه، مطبعة بريل، لَيدن، 1889م. ص 4- 5، والتفاصيل التي يوردها الهمذاني مطابقة لما ذكره ابن خرداذبه.
(11) المباح واللا مباح، فصل ثوابت الجغرافيا، رشيد الخيون،دار مهجر، بوسطن، ط1، 2005. العراق احفظوه ظلاًّ وارفًا، رشيد الخيون، صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، الأربعاء 6 آب 2008.
(12) الأخبار الطوال، أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (ت 282ه)، تحقيق: عبد المنعم عامر، مراجعة: الدكتور جمال الدين الشيّال- وزارة الثقافة والإرشاد القومي، الإقليم الجنوبي، الإدارة العامة للثقافة.وطبعة أخرى بتصحيح فلاديمير جِرجاس، ص3، و ص13، ط1، مطبعة بريل، لَيدن، 1888م.
(13) البلدان، لابن واضح الشهير باليعقوبي (ت 284هـ)، وضع حواشيه: محمد أمين ضنّاوي، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان. ص 11.
(14) البلدان، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إسحاق الهَمَذاني (المعروف بابن الفقيه)، تحقيق: يوسف الهادي، ط1، 1416ه- 1996م. عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت، ص 282- 284.
(15) البلدان، الهمذاني، ص 143. مصدر سابق.
(16) البلدان، الهمذاني، ص 164- 165. مصدر سابق.
(17) التنبيه والإشراف، لأبي الحسن المسعودي (ت345هـ)- تصحيح: عبد الله الصاوي- دار الصاوي للطبع والنشر والتأليف- القاهرة 1357هـ- 1938م. ص35.
(18) صورة الأرض، ابن حوقل، منشورات دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر- بيروت 1992م.ص208- 210.
(19) كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن المارودي،تحقيق الدكتور أحمد مبارك البغدادي- ط1- دار ابن قتيبة- الكويت1409ه- 1989م. ص 224. وانظر طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت، حيث يأتي ذكر العراق ص 173.
(20) معجم البلدان، ياقوت الحموي، مادة السواد: ج3، ص 272- 275 ومادة العراق، ج4، ص 93– 95.
(21) مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي، المتوفي سنة 739 هجرية، وهو مختصر معجم البلدان لياقوت الحموي، تحقيق وتعليق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1373ه- 1954م. مادة السواد (ص 750) ومادة العراق (926).
(22) الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء- صححه وعلق عليه: محمد حامد الفقي- دار الكتب العلمية- بيروت 2000م. ص204.
(23) العراق في الخوارط القديمة، تحقيق أحمد سوسه، صورة العراق لابن سعيد المغربي، خارطة رقم 32. نقلاً عن: المباح واللامباح،رشيد الخيون،(مرجع سابق)ط1- دار مهجر، بوسطن 2005.
(24) مناقب بغداد، لابن الجوزي (ت 597ه) عني بنشره وتحقيق هوامشه: محمد بهجة الأثري البغدادي، مطبعة دار السلام، بغداد، 1342ه، ص 4.
(25) أسكي الموصل، عبد الله أغا، ص 13. نقلاً عن: المباح واللامباح،رشيد الخيون،(مرجع سابق).
(26) مناقب بغداد، لابن الجوزي (مصدر سابق) حاشية صفحة 4و5.
(27) العراق في العهد الجلائري، نوري عبد الحميد العاني، ص37،نقلاً عن: المباح واللامباح،رشيد الخيون،(مرجع سابق).
(28) الامبراطورية الفارسية،كينير، تاريخ النشر 1811م، ص89، نقلاً عن: العراق ليس خارطة بريطانية، سيار الجميل، مرجع سابق، الحوار المتمدن- العدد: 1592،(25/ 6/ 2006م).
(29) دوحة الوزراء في تاريخ وقائع بغداد الزوراء، الشيخ رسول الكركوكي، (ص 275) ونُشر الكتاب ببغداد (1830).نقلاً عن: العراق احفظوه ظلاً وارفاً، رشيد الخيون، صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، الأربعاء 6 آب 2008.
(30) عُنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد،إبراهيم فَصيح بن السيد صبغة الله الحيدري،ط1، مطبعة الحكمة، لندن، 1998م.ص 118 ومابعدها.
(31) اسم العراق ورسمه الرزية في تكذيبهما، رشدي الخيّون، مجلة الأسبوعية العراقية، 19/10/2008.
(32) ثورة 1920 قراءة جديدة في ضوء الوثائق التاريخية، عباس كاظم، ترجمة: حسن ناظم- ط1- التنوير للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت 2014. ص 24- 25.
(33) الثورة العراقية الكبرى، عبد الرزاق الحسني، ط2، ص 48.
أقرأ ايضاً
- يدخلان العراق لاول مرة العتبة الحسينية توفر جهازي الروبوت الجراحي والرنين المفتوح
- دراسة: عدوى "كوفيد-19" الشديدة تقلص الأورام السرطانية
- ظهور إصابة طفيفة في بساتين كربلاء بحشرة سوسة النخيل الحمراء