- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
فُقدان ( الفلس ) وآثاره العجيبة
حجم النص
بقلم:مهدي الدهش قبل الخوض في غمار الحديث حول الأبعاد الاقتصادية لهذه الفئة النقدية، يُستحسن بنا استعراض المعنى اللغوي لها. فقد ذكر الرَّازي صاحب مُعجم (مختار الصحاح: 510) نُتف تستدعي التعريج عليها، حيث قال " ف ل س ــ جمْعُ (الفَلْس) في القلّة (أفُلْس) وفي الكثير (فُلوس). وقد (أفْلَس) الرجُل صار (مُفْلِسا) كأنما صارت دراهمُه (فُلوساً) وزُيوفا. ويجوز أن يراد به أنه صار إلى حالٍ يقال فيها ليس معه (فَلْس). كما يقال أقْهَر الرجل أي صار إلى حال يُقْهَر عليها. وأذَلَّ الرجل صار إلى حال يِذَلّ فيها. و(فَلَّسَه) القاضي (تفليسا) نادى عليه أنَّه أفْلَس ". فيتضح مما ذكره الرَّازي بأن الأمرَ مُرتبطٌ بشكلٍ عام بالجانب المادي والاقتصادي للمَرء. أمّا في مُعجم (المنجد في اللغة والأعلام: 593) فقد جاء التالي " (فَلَّسَ) القاضي فلاناً: حكم بإفلاسه. (أفْلَسَ): لم يبقَ لهُ مالٌ ويراد بذلك انهُ صار إلى حالة يقال فيها عنهُ ] ليس معهُ فَلْس [ فهو (مُفْلِس) جمعها مُفْلِسون ومَفَالِيس. (الفَلْس) جمعها أفْلُس وفُلُوس: قطعةٌ مضروبةٌ من النحاس يٌتعامَل بها // يقال ] فلان فَلْسٌ من كل خير[ أي خالٍ عن كلّ خير. (الفَلَّاس): بائع الفُلُوس أي النقود النحاسيّة ". حيث لا نلمح اختلافاً بين المُعجمين من حيث مدلولات الكلمة وأصل الانحدار فيها. فبشكل عام الكلمة هذهِ ترتبط بالجذر والقوة المالية للفرد داخل المجتمع، وسأنتقل لتوضيح ذلك. فالفلس هو أصغر وحدة عملة عراقية ما قبل العام 1990م، حيث كان لضهور العملة المحلية أو قُل الوطنية مع تأسيس المملكة العراقية في العام 1921م، فكان (الفلس) هو أصغر فئة نقدية للعملة العراقية الجديدة. ولو تتبعنا سير التاريخ العراقي الحديث والمعاصر وما كان يتبعه من انعكاسات وتفاعُلات مُختلفة بين العملة وحجمها من جانب والمجتمع من جانب آخر، سنجد سيرة طويلة لتاريخ مسكوت عنه أو مطمور في ذاكرة الزمن الطويل. فالدول التي تنعُم بالقوة الاقتصادية وحتى يومنا هذا، هي تلك الدول التي لازالت تتعامل بالفئات الصغيرة مثل (السنت) في الولايات المتحدة وكندا، و(البنس) في بريطانيا، ودول غير التي ذكرت لا تزال تجد الفئة الصغيرة من عملتها موجودة، ناهيك عن مسألة الاستقرار النسبي لاقتصادها والارتفاع للقيمة الشرائية لعملتها. وهنا تبرز القيمة الاقتصادية كقرين للقيم الاجتماعية والسياسية بل وحتى الفكرية. فالشواهد على التدهور العام الذي أحاط بالعراق كدولة ومجتمع بعد العام 1990م مازال ماثلا للعيان حتى يومنا هذا، ليس لنا حاجة للتدليل عليه بقرين. فالفرد العراقي الذي فتح عيناه بعد ذلك التاريخ لا يعرف من الزمن السابق غير الذكريات التي تُروى له من السابقين عليه في التواجُد الزمني والمكاني. ففي الوقت الذي كانت فيه الأسرة العراقية تستطيع العيش بمبلغ ثلاثة دنانير (أي 3000 فلس) شهرياً في أربعينيات القرن العشرين، وبمبلغ 30 دينار في ستينيات القرن نفسه، أصبح الأمر مُختلف بعد ذلك التاريخ الأخير بثلاثين عام، بالنسبة لتلك الأسرة. فقد تغيّر الوضع وبشكل حاد وجذري في الوقت نفسه وبطريقة دراماتيكية سريعة. حيث أصبحت الفئة الصغيرة من العملة مع أوائل التسعينيات هي (250 و 1000 دينار)، وهنا أصبح التضخّم بالعملة سببا لتغيّر المفاهيم الاجتماعية ناهيك عَن الاقتصادية والسياسية والثقافية. فمن كان يفهم العملة بالحجم السابق ـ على مستوى الأسرة ـ بحجم مُعيّن وبحدود مُعيّنة، أصبح المفهوم مغاير بعد التضخّم والرفع للحجم النقدي، وما كانت تتعامل به الدولة من حدود الملايين أو عشراتها أو مئاتها كأقصى حد، أصبح الوضع السائد يتعامل بأرقام فلكية كالمليارات مثلاً. فهذه التبدلات قادت إلى وقوع تغيير في المفاهيم سواء على مستوى الفرد والأسرة أم على مستوى الدولة ومفاصلها. فالطفل مثلاً أصبحت قناعاته لا يمكن إرضائها بحجم صغير من المصروف اليومي، وتضاعفت (النثرية) في دوائر الدولة بشكل تجاوزت فيه حدود المعقول، مع الأخذ بنظر الاعتبار حجم الزيادة السكانية وتبدلات ظروف المعيشة وتطور وسائل الحضارة الحديثة. بل وصل الامر ليشمل حتى السرقات والاختلاسات تطورت وتضاعفت اجتماعيا ومؤسساتياً، نتيجة لهذا الانهيار في القوة الشرائية للعملة العراقية. وخلاصة لما سبق نرى أن الفئة النقدية (الفلس) كانت مصدرا من مصادر الأمن الاجتماعي والقيمي، وبفقدانها فقدنا الكثير من تلك القيم والسلوكيات، وانقلبت المفاهيم رأساً على عقب وتدهورت بشكل مُرعب، تاركة ورائها حجما كبيرا من الانماط الشاذة والأفعال السلبية على المستوى النفسي والمادي، وهنا أقول ألا مِن مُنقذ (للفلس الأحمر) الذي سيُعيد الأمور إلى نصابها السابق والمعقول، لو تحقق له الرجوع إلى الساحة الاقتصادية من جديد.
أقرأ ايضاً
- المقاومة اللبنانية والفلسطينية بخير والدليل ما نرى لا ما نسمع
- كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟ (الحلقة 7) التجربة الكوبية
- مكانة المرأة في التشريع الإسلامي (إرث المرأة أنموذجاً)