- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
إلى معالي وزير الصحة ....حين لا حيلة غير الكلام – ناظم السعود حالةً
حجم النص
بقلم :د.مشتاق عباس معن
من منا لم يرشه عطر السعود ويبلله غيث طيبته المفرطة ؟ ولكن ماذا قدمنا نحن له ؟ جيل عريض من الإبداعات ظللها قلمه بمظلة حانية ، كان يبحث عن عراقيتنا المذابة بماء أعراقنا ، ربما كان صورة لدحض الطائفية إن أردنا أن نتحدث بلسان السياسيين ، ربما كان صورة للمهني إن أردنا أن نتحدث بلسان أخلاقيات المهنة ، ربما كان صورة للصديق الحريص إن أردنا أن نتحدث بلسان الحكماء ، ربما ... ، ربما ... ، ولكن يبقى متفرداً بصورة لم أجدها عند سواه حتى أضحت علامة فارقة له إنه صاحب سلوك لا قول فقط (الآخرون أولا) ، نعم آثر على نفسه في سبيل أن يغرس سنبلة في بستان كل مبدع ويدافع عن ثمار غيره ؛ لأنه ببساطة يستشعر أن ثمار الإبداع ثمار إنسانية لا تتحدد مسؤولية الحفاظ عليها بالمبدع وحده الذي أنتجها ، بل هي مسؤولية المثقفين ولاسيما حماتهم (الصحفيين) ...
قبل أيام اتصلت بشيخ الصحافة الثقافية العراقية فوجدته متبرما على غير عادته ومحبطا ؛ لأنه كان متفائلا قبلها بالضمير الطبي الذي تعودنا على وصف أصحابه بالملائكيين ، فمهنة الطب كما تعودنا على وصفها بأنها مهنة إنسانية ، حتى تحول هذا الوصف إلى نسق قار في اعتقادنا البشري ، لكن الطامة الكبرى أنه اكتشف ، ربما تأخر اكتشافه هذه المرة لفرط طيبته ، أن الطب لا يختلف عن مهنة السياسة التي من أهم صفاتها : الحيلة والمراوغة ، أي أنها بلغت – أعني مهنة الطب – أعلى درجات ... ؟ لك أن تضع ما تعرفه عن السياسة في الفراغ ، حتى أنه كتب مقالا لم يجد صداه في وزارة الصحة فقال ( مستشفى ابن البيطار يرفع شعار المرحلة : تعال بعد سنة )
لا أقول شيئا لوزير صحتنا الذي عمر شيخ صحافتنا بيده الآن ، حافظ على تاريخنا الثقافي لطفا فهو الآن في ضيافتك إنه بمستشفى الهندية بادر إلى رعايته ، ولا أريد أن أتحدث بدلا عن ناظم السعود بل أنقل كلامه عن مقاله السابق إليك ولك أن تعرف مدى ابتعاد مسار طبنا عن طريقه حتى صار مهنة !
تأكدت شخصيا ، يوم الثلاثاء الماضي 2-4، ان المضحكات في بلدنا قد وسعت القريب والبعيد ، الجد والهزل حتى طالت كل مسامات حياتنا ولم يعد هناك ما يفرق بين شؤون صغيرة وبين أعاظم الأمور ذلك ان دولاب الفلك العراقي قام بخبطات عشوائية كانت حصيلتها " عجينة " هائلة ، شوهاء ، كدست في جوفها كل شيء منظور : من الحكومات ا...لى الميزانيات الى العلاقات وحتى وصلت مؤخرا الى المستشفيات الوطنية !،..
في ذلك اليوم وجدت نفسي ضائعا قي ردهات مستشفى ( ابن البيطار) ببغداد وكنت أدبّ بصعوبة حاملا في صدري جلطتين والثالثة اسمها فقر دائم وكانت قد سبقتني حملة صحفية تمهد وتناشد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد مؤشرات سلبية قد تطيح بالقلب العليل وصاحبه !.
اللافت هنا انني جئت المستشفى اثر مبادرة من الزملاء في وزارة الثقافية حين وجهت كتابا رسميا لإدارة المستشفى بضرورة القيام بالفحص والعلاج وكان الكتاب مؤرخا في 17- 3 ولكن المفاجأة غير السارة ان الإدارة المسؤولة عن حفظ البريد والأوراق ادعت ان الكتاب المذكور لم يصل بعد (!!) بمعنى ان أكثر من اسبوعين لم تكن كافية لوصول الكتاب والعجيب ان الوزارة على مبعدة أمتار من المستشفى وهذا يفصح كم ان الزمن الآن في حكم الميت عند بعض الجهات ولا سيما الطبية منها !,
وقد سألهم الصديق الطيب سلوان الجبوري( وقد كان مرافقا لي في هذه التغريبة) عن حل هذه المعضلة فأجابته الموظفة المسؤولة ببساطة: اجلبوا لنا كتابا آخر من الوزارة ! وكأنها مسالة يسيرة ان تراجع الوزارة من جديد في عصر طوفان المجاري وجنون الازدحامات ثم ان الوزارة أكدت لنا ان كتابها وصل بالفعل لإدارة المستشفى بدليل انها استعلمت عن سبب تأخر " المريض " عن القدوم اليها لإجراء اللازم!.
ولأكثر من ساعتين وأنا لا ادري ماذا افعل وأين اذهب في هذا البحر اللاابالي حتى هداني الصديق والكاتب ( جبار فشاخ ) الى احد أصدقائه العاملين في المستشفى وقد أسرع الي عارضا معونته بكل لطف فأوجزت له المشكلة فبادر مشكورا باستثمار علاقاته واصطحبني الى احد الأطباء الذي كان عجولا وفارغ الصبر حتى أنني لم استطع توضيح أزمتي الصحية وتراكماتها بسبب انها مرت بثلاث عشرة سنة منذ السقوط بالجلطة الأولى ، ويظهر ان الطبيب المذكورة تكدّر حين قرأ نسختي من كتاب الوزارة والتوصية بضرورة العناية بي ( كوني احد المبدعين كما ينص الكتاب ) فما كان منه إلا ان ابعد الكتاب قائلا ان هذه أمور إدارية ليست مهمة وعبارات أخرى غاضبة ومستهينة !.
وبعد جدل عقيم قام الطبيب بتزويدي بمجموعة من النصائح والقرارات ( برغم من انه لم يفحص او يراجع حالتي حسب الفحوصات السابقة )وقد وصلته من المرحوم ( أبو قراط ) وكانت أثمن نصيحة تلقفتها منه هي ضرورة العودة لكربلاء حيث سأجد ( وحدة القسطرة ) وهي احدث وحدة علاجية وتختصر الزمن والانتظار اللذين يستطيلان كثيرا في " ابن البيطار"!وقد علمت بعد المحاضرة الابيقراطية ان انتظار عملية القسطرة في هذا المستشفى التخصصي قد يطول حتى( سنة كاملة !) وطبعا فان مريض القلب الذي يدفعه سوء حظه لمراجعة المستشفى سينتقل لخانة "المرحومين" قبل ان يصل إلى موعد القسطرة !.
كان من الطبيعي ان اشعر بانفعال حقيقي إزاء حوار الطرشان هذا وخصوصا أنني وجدت الطبيب يتصرف ويتلفظ وكأنه القائم بأمر المملكة الصحية ومن المحال ان يعي هواجس وألام إنسان مريض عير 100 كيلو متر ليصل الى حال بائس : لا فحوصات ولا علاج ولا حتى كلام طيب والنتيجة الوحيدة هي أنني أسرعت بعبور نهر العلاوي هارعا لأقرب عربة أعادتني الى وكر الأحزان خائبا !.
لقد خرجت من حياتي المهنية الطويلة بخلاصة ذهبية أصبحت دستورا لحياتي مؤداها انه ليس بالإمكان الوصول لأي معرفة الا من خلال تجربة ميدانية على ان تكون تجربة شخصية ولا يعتد بأي معرفة تاتي من خلال السماع او القراءة او التجارب المنقولة عن البعيدين والقريبين فهذه كلها إنما تنتج ما اسميه ( وهم المعرفة ) لهذا تراني في حواراتي وكتابات احذر من اخذ او الاستسلام لأي معرفة الا بعد خلاصات لتجارب معيشة ويمكن لي الآن ، بعد هذه التجربة في مستشفى ابن البيطار وتجربة مشابهة في مستشفى ابن النفيس قبل شهر ، الوصول الى معرفة قوامها ان المستشفيات العامة في أوضاعها الحالية لا يمكن ان تقدم الحد الأدنى من الخدمات والمهام الصحية والإنسانية التي أقيمت من اجلها بعد ان كبلتها قيود البيروقراطية وأطاحت بها سلبيات وجرائر وتخبطات زمن بات جائرا ومعوقا ومفسدا على صعد مختلفة ، والطامة الكبرى هنا تكمن حين يشعر ان الرسالة الوحيدة التي يتلقاها مريض مثلي أجبرته ظروفه المادية المزرية على مراجعة المستشفيات العامة هو الإسراع بمراجعة القطاع الطبي الأهلي ان كان في عيادات او مراكز او مشافي دولاريه.
وأصارحكم أنني ربطت الحال المتخلف الذي شهدته عيانا وحالات تفشي العلل وتعدد الوفيات بشكل مخيف لكثير من الأدباء والمثقفين الذي ودعناهم تباعا : أليس من العجيب ان أسماء عزيزة على الثقافة العراقية رحلت عن هذه الحياة خلال استبيع معدودة وجميعها اشتكت تفاقم أوضاعها الصحية وتكالب أوجاعها من جراء رقودها او مراجعاتها للمستشفيات العامة : زهير احمد القيسي / فهد الاسدي / محمد علي الخفاجي / هادي الربيعي .. أربعة من كبار أدباء العراق فقدناهم في مدد متقاربة ويشتركون في مصير جامع هو أنهم جميعا ضحايا النظام البيروقراطي وغير الإنساني المهيمن على المستشفيات العراقية !.
نداء أخير :
أتمنى من كل الأصدقاء والزملاء ممن تفضلوا علي بكلمة او مساندة ان يعفونني من التزامات المحبة او خسارات حسن الظن فانا لن اكرر تجارب معيبة او اختيارات ثبت بطلانها وليعفني كل من يدعونني لهذا المستشفى او ذاك فقد نخرت الخيبات هذا القلب العليل فوق جلطاته .. أنا أفضّل الموت بصمت في بيتي الريفي على أن أقع ضحية للتجارب والنيات وما أكثرها اليوم !.
الهندية في 4 – 4 – 2013
تعليق ختامي : هذا تاريخ كتابة المقال بيد السعود فأرجو من وزير صحتنا أن لا يترك توقع السعود الأخير يتحقق ...