حجم النص
بقلم :هادي جلو مرعي
هو من فصيلة نادرة بالتأكيد ذلك الكلب الذي صاحب الفتية الذين فروا بدينهم الى جبل بعيد يأويهم ليرتاحوا ويحميهم من وحشية مطارديهم الذين سعوا خلفهم ليظفروا بهم ،فقد كانوا من أوائل من آمنوا بالمسيح في تلك الأصقاع التي كانت تسمى ( فيلا دلفيا ) والتي هي عمان الحالية ،ومازال الكهف مزارا يحج إليه الناس من كل الدنيا ليتبركوا به، ويشموا عطر النبوات القديمة، ويعرفوا جسامة التضحيات التي قدمها فتية لم يستكينوا للحكم البيزنطي الجائر، الذي كان يفرض على الناس نكران عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد، وقرروا المضي بعزيمة لاتقهر ليكونوا عبرة وعنوانا تاريخيا تتلقفه الأجيال اللاحقة لتفهم منه كيف يكون الإنسان حرا متفانيا صابرا مضحيا معتزا بإيمانه ووجوده في دائرة العبودية للحق الكامل.
إقتربت من المكان، يصحبني صديق تكفل مشكورا بإلتقاط صور لي في مواضع شتى من الكهف الذي يقع في أعلى جبل خارج العاصمة الأردنية عمان ،وكان أول تفكيري في موضع نوم الكلب فليس لي أن أتمنى أو أرغب بمكانة الفتية الأفذاذ ،وقد يكون التمني بمكانة الكلب أقرب الى الواقع، فهو حيوان على أية حال ،عدا عن إيماني بأني لن أصل الى مكانة ذلك الكلب الذي صحب الفتية ،وغادر العالم معهم ،دخلت الكهف ونظرت الى الأرض المنبسطة ومادتها الصخور الملساء ،ووقفت حيث نام الفتية ،وقررت بسرعة والناس من حولي ينظرون أن أتمدد كالنائم في ذات المكان الذي ناموا فيه ،وكنت أشعر بعبق الإيمان ،ثم مضيت الى أمكنة متعددة فيه ،وتنسمت عبير الحرية.
كانت قبورهم متجاورة، وقد أخبرني مرشد المكان أن الجهات المعنية جمعت العظام من تلك القبور ووضعتها في قبر واحد، وجعلت فيه نافذة مزججة لينظر الزائر من خلالها الى عظام مبعثرة متناثرة ،نظرت من الزجاجة ورأيتها وقد إنكمشت، وتقزمت لطول الأزمنة التي مرت ،ثم وقفت معتدلا، وأنظر في أكثر من مكان ،والى أعلى الكهف وأنحاء منه ،ثم دخلت قبرا كان لأحد خلا منه، وتمددت كالميت، وصديقي يلتقط الصورة تلو الأخرى ،بعدها عرجت على قبر ثان وتمددت فيه ،ودخلت الفتحة التي تنشق الى أعلاه من الجانب، وقد تخللتها الشمس بضوئها الذي وصفه القرآن الكريم.
شدني في المكان ذلك العطر الذي يتسلل من القبر الذي جمعت فيه العظام ،وكنت قد وضعت أنفي على زجاج الفتحة الصغيرة، وكان العطر يظوع منها ،ثم أعدت الكرة لمرات ،وكان ذات العطر ينبعث ويشدني الى القبر ،كان البعض يستهجن فعلي حين دخلت القبور العميقة، وتمددت فيها مغمضا عيني لكني لم أشعر أني في قبر بل هي الجنة التي يتمناها عباد الله جميعا ،وكان المهم بالنسبة لي أن أتمدد في الموضع الذي كان فيه الكلب وهو ماتحقق لي ،وقد سعدت كثيرا فكل أمنيات ذلك اليوم تحققت.
[email protected]
أقرأ ايضاً
- مكانة المرأة في التشريع الإسلامي (إرث المرأة أنموذجاً)
- لا مكان لـ "حُسْن الظن" في السياسة
- الناصبية موجودة في كل مكان وزمان