- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
زينب عليها السلام اعلام لا دعاية
حجم النص
راى نــــزار حيدر، مدير مركز الاعلام العراقي في واشنطن، ان قدرة اي قضية في العالم على الصمود في الذاكرة والاستمرار مع الزمن والديمومة عبر تعاقب الاجيال، تتناسب تناسبا عكسيا مع الحرب الاعلامية والسياسية والنفسية وربما العسكرية التي يشنها خصومها ضدها، الا قضية الامام السبط الشهيد الحسين بن علي عليهما السلام، فانها تتناسب تناسبا طرديا، اذ كلما زاد اعداؤها من حربهم الضروس ضدها كلما تجذرت في النفوس وانتشرت في الافاق واتسع نطاقها وترسخت ديمومتها، وذلك يعود لسببين:
السبب الاول؛ هو البعد الغيبي في القضية، والذي اشارت اليه زينب بنت علي عليهما السلام في حديثها مع ابن اخيها الامام علي بن الحسين السجاد (زين العابدين) عليه السلام عندما نظر الى اهله مجزرين و بينهم مهجة الزهراء البتول عليها السلام، فاطمة بنت محمد (ص) بحالة تذيب القلوب، اشتد قلقه، فلما تبينت ذلك منه عمته زينب أخذت تصبره قائلة:
مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله الى جدك وابيك، ولقد أخذ الله ميثاق اناس لا تعرفهم فراعنة هذه الارض وهم معروفون في اهل السماوات، انهم يجمعون هذه الاعضاء المقطعة والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لايدرس أثره ولا يمحي رسمه على كرور الليالي والايام، وليجتهدن ائمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد اثره الا علوا.
اما السبب الثاني؛ فيعود الى الخطة الاعلامية الذكية التي رسمتها العقيلة زينب (ع) والتي باشرت بتنفيذها منذ لحظة استشهاد السبط في كربلاء في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة على يد جيش البغي والضلال الاموي، وحتى لحظة وفاتها ودفنها في غوطة الشام، حيث قبرها الشريف ومرقدها ومزارها العظيم اليوم، مرورا بالكوفة والشام والمدينة ثم استقرارها في الشام، عاصمة الحزب الاموي آنذاك.
واضاف نــــزار حيدر الذي كان يتحدث اليوم مساءا في الندوة الثقافية التي عقدها المركز الثقافي العراقي في العاصمة الاميركية واشنطن بعنوان (النهضة الحسينية واثرها في الشعر والمسرح والفن التشكيلي) والتي ادارها بحضور نخبة من العراقيين المهتمين بالشان الثقافي، وحاضر فيها ثلاثة من المتخصصين في مجالات الادب والمسرح والفن التشكيلي، وهم الاستاذ الدكتور هاشم الطويل، دكتوراه في تاريخ الفن، والدكتور محمد الطريحي، مدير المركز الثقافي العراقي، والاستاذ عقيل الجبوري، فنان مسرحي:
لقد رسمت عقيلة بني هاشم زينب بنت علي بن ابي طالب عليهم السلام معالم الاعلام الرسالي الناجح من خلال خطتها الاعلامية الذكية التي واجهت بها الطاغية يزيد وحزبه الاموي، والتي اعتمدت:
اولا: الحرب النفسية، التي حولت الظالم المنتصر (عسكريا) من موقع الهجوم الى موقع الدفاع، ومن موقع من يوجه التهم الى الخصم المهزوم (عسكريا) الى متهم، فبدلا من ان يستشعر الظالم (المنتصر) عسكريا هزيمتها (المادية) ويتذوق حلاوة النصر المزعوم بكبرياء وخيلاء، اذا بها تقلب الطاولة عليه في مجلسه وامام حشد من زواره ووزرائه وخدمه وحشمه، وبحضور عدد غفير من الوفود الاجنبية التي حضرت لتهنئته بالنصر العسكري الذي اشاعت ماكينته الدعائية بانه حققه على خوارج متمردين من الديلم والروم، ولا علاقة لهم بالاسلام او بالنبي الكريم (ص).
ولقد اعتمدت الحرب النفسية هذه على الاسس التالية:
الف: استحقار الخصم، والتقليل من شأنه.
باء: فضحه، والكشف عن كل الحقائق التي حاول التستر عليها، وكذلك القيم السماوية والمناقبيات التي حاول التمترس بها وخلفها لتبرير فعلته الشنيعة، بقتله سبط رسول الله (ص) وثلة من اهل بيته واصحابه الميامين، وفيهم عدد من صحابة رسول الله (ص) والتابعين والقراء.
جيم: تحديه باقوى العبارات التي تنم عن ثقة عالية بالنفس وايمان راسخ بالنتيجة والمنقلب.
دال: ارهابه وارعابه بالكلمة الصادقة والراي الحصيف المعتمد على النص السماوي.
هاء: توظيف سياسة الهجوم كافضل وسيلة، ليس للدفاع هنا، وانما لانزال الهزيمة النفسية والمعنوية بالخصم، الظالم، على قاعدة {ما غزي قوم في عقر دورهم الا ذلوا}.
واو: نقل المعركة عبر الافاق الى الاجيال القادمة، والحيلولة دون محاصرتها وقبرها في مهدها من قبل الظالم واجهزته القمعية والتضليلية، وكانها، زينب بنت علي، تقرا المستقبل بروح معنوية عالية على طريقة (من يبكي أخيرا).
ثانيا: اعتماد الاعلام بعيدا عن الدعاية الرخيصة، فكما نعرف فان الاخيرة يحددها الزمان ويؤطرها المكان، فالدعاية كالنار في الهشيم سريعة الاشتعال وسريعة الخفوت،ولذلك فان اثرها ضعيف وبصمتها زائلة، اما الاعلام فلا يحدده الزمان ولا يؤطره المكان، وهو كالنار في الحطب بطئ الاشتعال الا انه يمتلك ديمومة طويلة الامد، لقوة اندفاعه وعظم حجم التاثير المستمر.
ان الدعاية التي تعني تبليغ المتلقي قرارا، لا يمكن ان يدوم كثيرا في الاذهان لانه عادة ما يعتمد التضليل والخداع، اما الاعلام الذي يعني تبليغ المتلقي المعلومة والخبر ليبني قراره ورايه وموقفه بعيدا عن الضغط والاكراه والجبر والعسف، فهو يعتمد العقل والمنطق بعيدا عن الغش والتضليل، ولذلك فان المتلقي للمعلومة بحرية يبدع في صياغة رايه وقراره وموقفه، سواء على صعيد الوعي او على صعيد الوسائل، وهذا ما نلحظه بالضبط على مستوى القضية الحسينية، فلقد ابدعت البشرية في وعيها للقضية على مدى اكثر من قرابة (14) قرنا، كما انها ابدعت في الوسائل، بعيدا عن تدخل الانظمة والسياسات، بل على العكس من ذلك، فان تدخل الاخيرة عادة ما كان سلبيا من خلال شن الحرب النفسية والدعائية وفي احيان كثيرة الدموية، كما يحصل اليوم في العراق على يد جماعات العنف والارهاب والجماعات التكفيرية المتحالفة مع ايتام الطاغية الذليل صدام حسين، لقمع كل من يسعى لاحياء ذكرى واقعة الطف بطريقة من الطرق، وهو السر الكامن وراء ديمومة الذكرى وخلود القضية.
لقد اعتمد الاعلام الزينبي على الاسس التالية، والتي تعد سر نجاح هذا الاعلام الذي خلد الذكرى:
اولا: الشجاعة، على قاعدة الآية القرآنية الكريمة {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا}.
ثانيا: الوضوح والشفافية بعيدا عن التهويل والتضخيم او حتى الانكار والتجاهل.
ثالثا: الصدق وعدم اللجوء الى التضليل.
رابعا: الشمولية في الطرح وتغطية الحدث، وبتفاصيله، لما لها من اهمية في رسم الصورة في ذهن المتلقي، ومساعدته على اتخاذ القرار الصحيح والموقف السليم.
خامسا: التسلح بالمنطق للرد على كل محاولات الطاغوت لتضليل الراي العام من خلال توظيف الكذب والغش والتزوير وكل ادوات الدعاية السوداء.
سادسا: مخاطبة العقل والوجدان في آن واحد في عملية متناسقة ومتوازنة قل نظيرها، فالحسين عليه السلام (عبرة) بكسر العين، و (عبرة) بفتح العين، وهو عقل ومنطق، وعاطفة ووجدان، لا يمكن الفصل بين البعدين ابدا، والا فستصاب القضية بخلل واضح، ولهذا السبب اهتم اهل البيت عليهم السلام بقضية الحسين عليه السلام على مستوى البعدين، الوجداني والعاطفي من جهة والعقلي والفكري والثقافي من جهة اخرى، الاول من خلال الشعائر الحسينية، والثاني من خلال التركيز على منطلقات الثورة واهدافها وجوهرها، ولذلك جاء في الماثور عن ائمة اهل البيت عليهم السلام {من زار الحسين عارفا بحقه} والحق هنا يعني المنطق والفكر والهدف والادوات والوسائل التي وظفها الحسين السبط في مشروعه النهضوي الاستشهادي.
ان قراءة متأنية لنص الخطاب الثوري الذي القته العقيلة زينب (ع) في مجلس الطاغية القاتل يزيد بن معاوية، توضح لنا بانه احتوى على كل عناصر الرسالة الاعلامية الحقيقية التي اعتمدها الاعلام الزينبي.
لقد قالت عليها السلام في ذلك الخطاب، الرسالة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون}.
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى ان بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلا مهلا، أنسيت قول الله تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والاحن والاضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل
منحنيا على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد (ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك، زعمت أنك تناديهم، فلتردن وشيكا موردهم ولتودن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.
اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا، فو الله ما فريت الا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردن على رسول الله (ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}.
وحسبك بالله حاكما، وبمحمد (ص) خصيما، وبجبريل ظهيرا، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلا وأيكم شر مكانا واضعف جندا، ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، ولكن العيون عبرى، والصدور حرى
ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما، لتجدنا وشيكا مغرما، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، والى الله المشتكى وعليه المعول.
فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادى المنادي ألا لعنة الله على الظالمين
والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، انه رحيم ودود، وحسبنا ونعم الوكيل.
انه، بحق، خطاب الهي جمع كل قيم السماء في {افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر}.
فسلام على زينب بنت علي عليهما السلام، يوم ولدت ويوم حملت رسالة كربلاء لتنقلها من الصحراء الى آفاق الدنيا خالدة، ويوم توفيت مظلومة غير ظالمة، ويوم تبعث حية في مقعد صدق عند مليك مقتدر.