ليس من المبالغة في شيء لو وضع العراق بكامله تحت وصاية اليونسكو والجهات الدولية المعنية بالآثار، فهذا البلد بطوله وعرضه ربما وجد فقط كي يكون متحفا للتراث القديم. ما ظهر للعيان من آثار العراق عجب، وما طمرته الرياح عجاب!
ليس ذلك مدخلا ديماغوجيا ولا مزيجا من الاطناب والعاطفة. يتذكر العديدون وبعد كل زخة من المطر كيف تبدي بواطن الارض والتلال في العديد من مناطق العراق شيئا من كنوز الماضي! ولا أنسى حينما كنت في العاشرة من عمري كيف شاهدت بأم عيني ذلك الرجل الذي جلب آلة أثرية أو مضربا أو ماشابه أظهرها المطر في تل قديم بين ميسان وذي قار. ولازال التل حتى الآن يعاني الاهمال. ذلك الرجل وحينما اراد التاكد من انها نحاس او ذهب نصحه بعضهم بكسرها، وهكذا فعل، كما فعل كثيرون غيره مع حالات عديدة مشابهة وكأنها طريقة متعارف عليها هناك.
قد لايلام أناس بسطاء مغلوبون على أمرهم، والسلطات ليست معنية بذلك على الاطلاق! أتابع بشغف ما يتحدث به هذه الايام الزملاء عن رحلاتهم المجنونة والتي يحسدون عليها، نحو ما تبقى من إرث العراق المباح، وأشاطرهم النحيب على اللبن المسكوب. إرث العراق الثمين جدا وكنوزه الآثارية لم يقتصر العبث بها فقط في مرحلة ما بعد عام 2003 بل كان العبث بذلك الإرث التاريخي المهول قبل ذلك بكثير، وما سلم منه أصبح فريسة البيئة القاسية!
وللساسة عادات ومكارم في توزيع ذلك التراث فمتحف الرئيس الفنلندي الثامن "أورهو كـِكـّونن" لازال حتى هذه اللحظة يحتفظ بفنجانين أثريين يعودان لحقبة حمورابي، وقد وصلا الى هناك كهدية متواضعة من قبل السفير العراقي حينها صالح مهدي عماش! مؤخرا فإن جهودا شخصية أسفرت عن اكتشاف سبعة فنلنديين يمتلكون آثارا مختلفة من العراق وما لم يتم الوصول اليه كثير بكل تاكيد، فكل من عمل في العراق كان باستطاعته ان يخرج في حقيبته من الآثار ما يشاء! العديد منهم جلبها للامتلاك وليس للمتاجرة وما يرجح ذلك ان بعضهم حصل عليها منذ العام 1973 ومع ذلك فلازالت بحوزته حتى الان.
الآثار التي تعود لحقب تاريخية مختلفة بعضها أخذ من زقورة اور، وآخر من الحضر وبعضها من بابل، حصلوا عليها بطرق مختلفة بعضها مثير للضحك! منهم من حصل عليها في ذات المواقع التي كانوا ينشئون عليها بعض المشاريع العمرانية، ومنهم من ذهب ليصطاف فوجد قطعة اثارية في موقع في بابل واراد تسليمها فلما لم يجد احدا من المسؤولين في تلك اللحظة ثم اقتناها مدعيا الحفاظ عليها خوفا من الاهمال!
قد لا يكون الرجل صادقا فيما ادّعى لكنه على حق بأن الاهمال كان ولازال هو السمة البارزة لمعظم المواقع الاثارية في العراق. أما اكثر ما يلفت النظر ويدعو للضحك والبكاء فهو أن احد المعماريين الاجانب اجاب في دردشة خاصة معه حول كيفية الحصول على الأثر العراقي بالقول: كنت أتجوّل قرب المواقع الاثارية في بابل ولم تكن عليها حراسة مشددة وكانت مهملة. في تلك الاثناء وجدت فلاحا فاردت التحدث معه وقدمت له سيكارة فما كان منه الا ان رد الجميل فأكرمني بلوح سومري عمره سبعة آلاف سنة!
وللأمانة فان هذا اللوح او التمثال لازال حتى الان موضوعا في معرض زجاجي صمم خصيصا له وباضاءة خاصة جدا طبقا للمواصفات، وقد منعنا من التصوير هناك حفاظا عليه من التلف.
قصص واقعية مشابهة كثيرة ومؤلمة جدا ولهذا فلتعلو الاصوات.. فربما هناك هذه المرة من يسمع! هناك الكثير مما يتداول بشأن تعاون وثيق للهيئة العامة للاثار، بالاضافة الى وزارة الثقافة العراقية مع اليونسكو، ولكن نتائج ذلك التعاون الوثيق ليست واضحة حتى الان! كما ان رئيس الوزراء نوري المالكي اعلن سابقا بان النصف الثاني من 2009 سوف ينصب فيه الاهتمام والرعاية على المواقع الاثرية. كما اعلن ان 2010 هو عام عالمي لحماية الآثار. ولكن المؤسف ان 2010 انتهى ولم نشاهد أيّ جهود استثنائية قد بذلت من أجل هذا.
أقرأ ايضاً
- رياضة الديوان فناجينها خالية !!!
- أول الغيث محافظَان ورئيس مجلس
- العراقيون بين "مسلّة حمورابي" و "داعش"