بات من الواضح جدا لكل ذي عين بصيرة او القى السمع وهو شهيد، ان العملية السياسية الجارية في العراق منذ سقوط الصنم ولحد الان، تمر في ازمة حقيقية، لاسباب عديدة لعل من ابرزها:
اولا: عدم ايمان بعض المشاركين فيها باصل العملية السياسية، ولذلك تراهم يضعون يدا في مؤسسات الدولة في العلن، ويمدون اخرى في السر الى الجماعات التي تريد تدمير العملية السياسية، سواء من مجموعات العنف والارهاب او من ايتام النظام البائد، او بعض القوى الخارجية.
ولا زال بعضهم متشبع بعقلية الماضي، يحن اليه ويتكئ عليه، ويتمنى لو تعود عقارب الساعة الى الوراء، فتعود الاقلية تحكم العراق، بحقد طائفي وعنصري بغيض، كما كان ديدن نظام الطاغية الذليل صدام حسين على مدى نيف وثلاثين عاما انصرمت.
ثانيا: انعدام الثقة بين جميع الفرقاء، ليس بين الكتل السياسية فحسب وانما حتى في داخل الكتلة الواحدة، وان اكبر دليل على ذلك هو كل هذا الكم المتناقض من الاقوال والتصريحات والمواقف داخل الكتلة الواحدة فضلا عما يجري بين الكتل، ازاء اية قضية من القضايا المطروحة، فغاب التعاون والتمكين فيما بينهم وتحكمت سياسات التربص والوقيعة.
ثالثا: وهو المهم، الاختلاف على فهم الدستور وطريقة تفسير مواده، خاصة تلك المتعلقة بتشكيل مؤسسات الدولة، وعلى راسها الحكومة، لدرجة ان العملية السياسية تحولت الى مجموعة مصطلحات فارغة المعنى والمحتوى.
رابعا: وقبل كل هذا وذاك، عدم ايمان الكثير من السياسيين بالديمقراطية كمنهج حكم في العراق الجديد، ولذلك نراهم يدعمون، بتشديد العين، مواقعهم التي حصلوا عليها بالتوافق والمحاصصة، بالمال العام وربما بالسلاح بالاضافة الى السلطة التي دعموها، بتشديد العين، بالعديد من القوانين التي فصلوها حسب مقاساتهم، لضمان استمرارهم في السلطة باي شكل من الاشكال، ناهيك عن استقوائهم بقوى خارجية، اقليمية او دولية، لا فرق.
خامسا: ولا ننسى هنا دور الغباء السياسي الذي يتصف به بعضهم، والذي لعب دورا بارزا في ارباك العملية السياسية بدرجة كبيرة.
وبصراحة اقول، فان من غير الممكن ابدا، وربما من المستحيل، ان يشهد العراق اي نمو حضاري وتطور مدني في ظل عملية سياسية تعاني من المرض المزمن، فالسياسة من عملية بناء الدولة، كما هو معلوم، كالقلب من الانسان، فاذا كان القلب مريضا فان كل بقية اعضاء جسد الانسان تظل تعاني الشلل والنحول والخمول والضعف، والعكس هو الصحيح، فالقلب السليم يمنح بقية اعضاء الجسد حياة متجددة، وكذا السياسة، فاذا كانت مريضة في بلد ما وتعاني من الاخفاقات والتراجع، فان كل شئ آخر في البلد يظل يعاني المرض والخمول والضمور والتراجع، وهو اليوم حال العراق في ظل عملية سياسية تعاني المرض والالم.
ولذلك، فاذا فشل السياسيون في انجاز اصلاح سياسي، فان اي اصلاح آخر، وعلى كل الاصعدة، سيظل مستحيلا ومن الوهم والسراب الذي يحسبه الضمآن ماءا، والذي لا ينتج واقعا ملموسا ابدا.
انظروا الى الامن والاستثمار وصناعة النفط، والى فرص العمل، وغير ذلك، سنجدها متوقفة او متعثرة بسبب ضياع القرار السياسي في دهاليز مشاكل الفرقاء.
ان التلكؤ في العملية السياسية هو الذي سبب كل هذا الشلل في عمل مؤسسات الدولة، خاصة البرلمان والحكومة، فهو السبب في التستر على الثالوث المشؤوم والخطير (الفشل والارهاب والفساد) لان السياسيين مشغولون بمشاكلهم التي لها اول وليس لها آخر، من جانب، ولانهم لا يتراضون الا على هذا الثالوث بسبب تورطهم فيه بلا استثناء، وعندما نسمعهم يتحدثون عن مبادرات فالهدف منها حل هذه المشاكل فحسب، ولم نسمع منهم ابدا مبادرات لحل مشاكل التعليم مثلا او البيئة او الصحة او الزراعة او البطالة او الفقر او ما الى ذلك، بمعنى آخر، فانهم صبوا كل جهدهم لحل مشاكلهم العالقة منذ ثمان سنوات ولحد الان، وللاسف الشديد، من دون نتيجة ملموسة، والدليل على ذلك ان الحكومة لا زالت ناقصة لم تكتمل وزاراتها الامنية بعد، فيما اكتملت كل وزارات الدولة لانها وجدت بالاساس للتراضي، ما يعني انهم ناجحون بترضية بعضهم البعض الاخر على حساب معاناة المواطن وامن الوطن ومستقبله.
ولا اريد هنا ان انفي المشاكل التي تصحب كل عملية انقلاب جذري يشهده اي بلد في هذا العالم، خاصة كالعراق الذي حكمته انظمة شمولية عنصرية وطائفية عقودا طويلة من الزمن، فالمشاكل امر طبيعي تصاحب كل عمليات التحول التاريخي، الا ان الذي ليس طبيعيا هو ان تشهد العملية السياسية كل هذا التراجع مع مرور الزمن، فعلى الرغم من مرور ثمان سنوات على التغيير الذي شهده العراق، الا ان المواطن لم يلمس حتى الان اي تغيير يذكر في علاقة الفرقاء، بل انه يلمس تراجعا ملحوظا على هذا الصعيد، ولقد تمنى العراقيون ان يتعلم الفرقاء من التجربة فيغيرون ويبدلون ويحسنون ويصلحون في كل عام، على الاقل، امرا واحدا من الامور المتعلقة بالعملية السياسية، ولكن، للاسف، من دون جدوى.
ان المشاكل امر طبيعي، ولكن ما هو ليس بطبيعي ان تظل العملية السياسية تراوح مكانها من دون تطور او تحسن.
ومن اجل ان نبدا مسيرة الاصلاح السياسي التي تبدا بخطوة، اعتقد ان على مجلس النواب العراقي، واخص بالذكر قادة وزعماء الكتل السياسية، الذين يمسكون بتلابيبه ويقبضون على روحه، ان يتفقوا على اجراء التغييرات الدستورية والقانونية اللازمة بما يضمن انطلاق الاصلاح السياسي الذي سيعيد عربة البلد الى السكة، وبما يضمن تحقيق؛
الف: المشروع الوطني الذي لا يعتمد القوى الخارجية للوصول الى السلطة من قبل اي كان من الفرقاء.
ان من يحجز مقعده تحت قبة البرلمان باصوات الناخبين لا يحتاج الى ان يستقوي على زملائه بهذه الجهة الخارجية او تلك، بل ان عليه ان ياوي الى ركن الشارع القوي الذي حمله الى موقع المسؤولية، من خلال تحقيق النجاحات التي تزيد من ارتباطه بقواعده، وذلك هو الاستقواء الثابت الذي لا يتغير.
باء: انطلاق عملية تشكيل الاحزاب الوطنية التي تعتمد معيار (المواطنة) فقط للانتماء الى صفوفها بعيدا عن (الدين) و (المذهب) و (القومية) فالعراق كما هو معروف بلد متعدد الاديان والمذاهب والقوميات، ولذلك لا يمكن توظيف هذه التعددية، وهي نقطة قوة بلا شك، في خدمة البلد في اطار الشراكة الحقيقية الا بالتعددية الحزبية التي تعتمد المواطنة دون اي معيار آخر.
ان ما يؤسف له حقا هو ان الحياة الحزبية في العراق تعتمد اي شئ الا (المواطنة) فهي تعتمد الدين والمذهب والمناطقية والاثنية واحيانا (التقليد المرجعي) وهذا ما يعقد المشهد السياسي لان هذا النوع من الاحزاب تكرس عادة الانقسام في المجتمع وفي العملية السياسية مهما حاولت ان تفعل بالضد من ذلك، لان تركيبتها تنتج الانقسام في المجتمع، شاءت ذلك ام ابت.
جيم: الغاء المحاصصة والحزبية الضيقة ومعيار الولاء للاشخاص والايديولوجيات والانتماءات الضيقة التي لا تتسع لفضاء المواطنة، لنفسح المجال امام جيش العلماء والكفاءات والخبرات العراقية المنتشرة في الاتجاهات الاربع من العالم فضلا عن داخل العراق، لتاخذ مواقعها الطبيعية في عملية بناء الدولة المدنية الحديثة والعصرية، وفي عملية بناء الانسان.
ان الدول لا تبنيها معايير الجاهلية، وعلى راسها المحاصصة، بل على العكس من ذلك فان معيار مثل المحاصصة والتي تعتمد الولاء الحزبي او الولاء للاشخاص وكذلك الاتجاهات الايديولوجية والسياسية وغيرها، ان كل ذلك يدمر الدولة ولا يساعد في بنائها ابدا.
ان معايير مثل الخبرة والكفاءة والايمان والنزاهة والتجربة والاختصاص والعلمية وغير ذلك هي التي تنتشل البلدان المتخلفة من الحضيض لترتفع بها الى مصاف الدول المتقدمة.
ان كل دول العالم التي نشدت التقدم والتطور والبناء الحضاري والمدني الحقيقي اعتمدت مثل هذه المعايير، وعلى راسها وتقف في الاولوية منها التعليم والبحث العلمي من خلال تغيير مناهج التربية والتعليم، وتخصيص الميزانيات الضخمة للبحث العلمي الذي ينقل البلد من حالة الاستهلاك والاعتماد على الاخرين في كل شئ، الى بلد منتج يفيض بما ينتج على غيره فيساهم في المدنية العالمية ويكون شريكا حقيقيا في المجتمع الدولي.
دال: تغيير قانون الانتخابات بما يضمن تحقيق مبدا (صوت واحد لمواطن واحد) من خلال؛
اولا: تقسيم العراق الى عدد من الدوائر الانتخابية يساوي عدد مقاعد مجلس النواب، زائدا مقاعد الاقليات، الى حين.
ثانيا: ان يكون التنافس بين المرشحين على عدد الاصوات الفعلية التي يحصلون عليها في صندوق الاقتراع وليس على اساس القاسم الانتخابي الذي يمنح من لا يستحق من المرشحين اصوات من يستحق منهم في اطار ما بات يعرف بقاعدة (نقل الاصوات) الظالمة.
ثالثا: ان لا يكون الترشيح على اساس القوائم حصرا، ليتم افساح المجال امام كل من يرغب في الترشيح بصفة مستقلة في دائرته الانتخابية (الجغرافية) حصرا.
ومن الاصلاحات المهمة التي يجب ان تسعى الكتل السياسية لتحقيقها هو اجراء التغييرات الدستورية اللازمة بما يوضح طريقة تشكيل الحكومة التي تنبثق في كل مرة عن الانتخابات التشريعية (النيابية) فالى متى يظل الفرقاء يضيعون الوقت والجهد في تفسير معنى (الكتلة الكبيرة) التي يحق لها دستوريا ان تشكل الحكومة؟ والى متى يظل الفرقاء متشبثون بفكرة حكومة الشراكة الوطنية والتي ثبت بالتجربة وبالفعل انها فاشلة وبلا نتيجة؟.
ان ذلك يجب ان يتضح بنص دستوري صريح لا لبس فيه، من اجل ان يتمكن الناخب من تخمين هوية الحكومة المرتقبة بعد كل انتخابات عامة، اسوة بكل دول العالم المتحضر، والا فان سيناريو التاخير والمماطلة والمبادرات العقيمة سيتكرر في المرات القادمة، في ظل الغموض الذي يكتنف النصوص الدستورية المعنية بامر تشكيل الحكومة.
يجب ان تتشكل الحكومة بطريقة تضمن وجود معارضة برلمانية قوية الى جانبها، ليؤدي مجلس النواب دوره الرقابي الدستوري الفاعل، والا فان حكومة بلا معارضة لا تنجح في شئ ابدا، لان اية سلطة تنفيذية لا تشعر بسيف الرقيب مسلط على رقبتها، لن تحاول تحسين اداءها، وقديما قيل (من امن العقوبة اساء الادب) ينطبق هذا على الفرد وعلى الجماعة.
ان غياب المعارضة هو الذي يحمي اليوم الثالوث المشؤوم (الفشل والارهاب والفساد) ولو كان في مجلس النواب معارضة قوية تراقب وتحاسب وتتابع لما انتشر الفساد في مؤسسات الدولة انتشار النار في الهشيم، ولما افلت الارهابيون من قبضة يد العدالة، ولما سكت احد عن الفشل الذي يصيب مختلف مؤسسات الدولة، المركزية منها والمحلية.
ان ذلك هو الذي عطل او اخر صدور التشريعات اللازمة لعملية اعادة البناء والاعمار وكذلك الاستثمار في البلد، وهو الذي اعاد الى الرفوف العديد من التشريعات التي وعدت الكتل بالاسراع في اصدارها، ولكن، من دون نتيجة، ظنا منهم بان الشارع قد نسي اثر هذا الهدوء الذي يسبق العاصفة.
ان امام الفرقاء السياسين اليوم فرصة ذهبية لانجاز الاصلاح السياسي، فان انشغال العالم العربي، المشاغب، بنفسه جراء الثورات الشعبية التي راحت تهز النظام السياسي العربي الفاسد، والذي طالما ظل يضع العصي في عجلة العملية السياسية لافشالها وتدميرها وبالتالي تدمير التجربة الديمقراطية الجديدة في العراق، ان انشغال المشاغبين بانفسهم وهم يذوقون من كاس السم التي جرعوها العراقيين طوال السنوات الثمان المنصرمة، يساعد الفرقاء في التفكير بهدوء وبصوت مرتفع، للوصول الى حلول ناجعة تساعد على الاصلاح السياسي الذي سينتج بكل تاكيد اصلاحا على المستويات الاخرى كافة.
على الفرقاء ان لا يضيعوا الفرصة، وان عليهم ان يبدوا جدية اكبر في عملية الاصلاح السياسي قبل ان تنتقل عدوى العواصم العربية الى بغداد، والتي هي، برايي، اولى من غيرها في عملية التغيير اذا فشل السياسيون في تحقيق الاصلاح المطلوب، لان التظاهر السلمي، وهو احد اهم الحقوق التي كفلها الدستور في ظل النظم السياسية الديمقراطية، انسب اداة للتغيير الديمقراطي، فبه تصنع الشعوب رايا عاما متنورا وثوريا قادرا على تحقيق التغيير المرجو والاصلاح المطلوب، طبعا بعيدا عن البلطجة وبعيدا عن الاقلام التي نصبت من نفسها (شرطي حكومة) ترد على كل من يدعو الى الاصلاح اما بالاتهام او الطعن بالولاء والانتماء، او بظاهرة الاستحمار التي تنتشر هذه الايام على السنة (الزعماء والقادة والسياسيين) وباقلام (شرطة الحكومة) كقول بعضهم يعلق على تقييم الشارع العراقي لمهلة المئة يوم (لو ان الحكومة حلت مشاكل العراق في مثل هذه المهلة القصيرة فماذا سيبقى لها في المدة المتبقية من عمرها) وكأن شغل الحكومات الشاغل ينحصر في حل مشاكل البلاد فقط، او كأن المشاكل لا تتجدد بمرور الزمن وتتطور بتطور الحياة، او كأن العراقيين طالبوا بالمستحيل وليس بقليل من الكهرباء والماء الصالح للشرب، وبعدد محدد من التشريعات التي تعيد ثقة الشارع بـ (قادته) او كأنه، بقوله هذا، يطالب، او على الاقل، يشجع على استمرار المشاكل لتستمر الحكومة في البلد، متناسيا بان شغل الحكومات تطوير البلد وليس حل المشاكل فقط.
انه الغباء يا (شرطة الحكومة) اليس كذلك؟.
أقرأ ايضاً
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- مواجهة الخطر قبل وصوله
- مستقبل البترول في ظل الظروف الراهنة