- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
ننوح على بحر أفسدناه.. سرمد الطائي
اتحدث امس مع مسؤول رفيع في مجلس الوزراء حول ازمة ميناء مبارك الكبير التي يقول خبراؤنا انه سيخنق طرق الملاحة الضيقة لدينا اصلا. وكان الرجل يسرد علي معلومات الملاحين الذين التقاهم في موانئنا، وأبحر معهم في جولة استكشاف لحقيقة ما يجري قرب بوبيان ومدخل ام قصر. لكنني وهو يتحدث، اهملت موضوع المشروع الكويتي ورحت اشاركه الألم على واقع سواحلنا وبحارتنا ومدننا المطلة على المنفذ الوحيد هناك.
والحقيقة ان معظم ساستنا اقاموا الدنيا ولم يقعدوها بالاتهامات، ولم يركزوا على عرض معلومات وافية علمية حول حقيقة ما يجري هناك. وكثير من حقوقنا ضاعت حين فشلنا في عرضها بطريقة وافية امام الرأي العام. معظم السادة حاولوا تعويض نقص الحقيقة المدعمة بالخرائط والوثائق، بالصوت المرتفع. فلا الحكومة ولا المؤسسات الاخرى وفرت قاعدة بيانات كافية حول مشكلة الحدود البحرية وباقي التفاصيل الهامة في عرض موقف العراق. المعلومة والصورة لا تزال ضحية الفوضى والاهمال قبل ان تكون ضحية التكتم والتعتيم كما يبدو.
المسؤول الرفيع كان يحدثني بألم عما شاهد. وكنت افهم ما يقول لأنه يتحدث عن مناطق ازورها كلما وصلت الى البصرة. وقد تحدثت عنها العام الماضي في مقال عنوانه \"الفاو للبيع\".معظم السادة المسؤولين الذين يرفعون اصواتهم في \"النواح\" على البحر العراقي، يتحملون مسؤولية كاملة فيما وصلت اليه الامور، لأنهم اهملوا ذلك البحر وأهله وتنازلوا عنهم طيلة اعوام، كما اهمله من سبقهم.
حين تتجول بزورق او سيارة على سواحل الفاو وام قصر، فإنك تشاهد البهرجة والفخر لدى الجانبين الكويتي والايراني، بينما تلمح تقاسيم البؤس والاهمال والفقر على جرفنا العراقي العتيق. لم نقم بدعم مشاريع حقيقية تحيي المناطق المأهولة القريبة من البحر، ولم نسعف صيادينا وبحارتنا الذين يحملون ارثا غنيا يمزج التاريخ بالغناء ويستذكر امجاد البلاد يوم كانت ممرا رئيسا للبضائع نحو آسيا واوربا. لقد تركناهم فريسة لويلات الحروب، ثم فريسة للفقر، بلا اي لون من الحماية، وظلت مناطقهم منكوبة بامتياز، ومزارعهم تموت ببطء، دون ان يشعروا بأي انتماء لدولة يمكن ان تحميهم.المسؤول الرفيع قال بألم، انه حين يتحدث مع الوزراء يكتشف انهم لا يعرفون شيئا حول اهمية تلك المناطق وحساسيتها، وما يتطلب من العراق ان يستثمر فيها. يقول بالحرف: \"بدوت كمن يتحدث عن منطقة في الصين. وكان الوزراء والمسؤولون يكتفون بالتعبير عن الدهشة، حين اشرح لهم الاحوال الكارثية التي تعيشها مناطق العراق المطلة على المنفذ البحري الضيق\".
لقد رأيت قبل بضعة شهور، معظم زوراق الصيادين في ميناء الفاو وقد خطت عليها عبارة \"للبيع\"، وشعرت يومها وكأن هناك من كتب ان \"البحر العراقي للبيع\". مل البحارة وجاعوا، وسئموا من وعود الحكومات، ولم يصل اليهم مستثمر او قطاع اهلي، وحاصرتهم دوريات الجيران، وراحوا يهجرون مهنتهم ويبحثون عن خطط بديلة للحياة. لم يعد لدى بحارنا ما يقوله للحوريات المتخيلات اللاتي كن ينبعثن من بين الامواج ليغازلن الربابنة ويحصلن على شيء من كنوزهم.
وبمثل هذا جرى التعامل مع فرص البناء الاخرى، في تلك المنطقة الحيوية شمالي الخليج. تقطع الطريق \"السياحي\" من ابي الخصيب باتجاه الفاو وأم قصر، فلا يواجهك سوى الفقر وألوان البؤس. بينما تزهو الضفة الاخرى التي اصبحت جزءا من ايران حاليا، بكل مظاهر التحديث والجسور المعلقة والمصانع المنارة بمليون مصباح. اما الكويت وامكاناتها فحدث ولاحرج.ويمكنك ان تقول مثل هذا حول المناطق المحيطة ببحار البترول في العراق، فهي اكثر الاماكن بؤسا واهمالا. كأننا نكتب قاعدة خبيثة: أهم المناطق هي الاكثر بؤسا!اننا نتنازل عن البحر ونتجاهله. ونحاول ان نغطي اهمالنا بالنواح عليه. سنفشل كثيرا ونهمل اهلنا كثيرا، وسنظل نحاول تغطية الفشل بأساليب تشبه الصراخ، ولو اتيحت فرصة لبعض قادتنا فلن يتورعوا عن رفع السلاح (كما فعل صدام حسين)، للتغطية على الفشل الداخلي، دون ان نتعلم كيف ندافع عن الحق برعايته وحماية اهله، والتفاوض من اجل المصالح بطريقة واضحة.
أقرأ ايضاً
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري
- الضرائب على العقارات ستزيد الركود وتبق الخلل في الاقتصاد