يمتلئ تاريخ البشرية بالعديد من النهضات والثورات وحركات التغيير، منها ما حقق نجاحا ومنها ما فشل في تحقيق اهدافه، ومنها ما حقق نجاحا استراتيجيا دام قرون، ومنها ما حقق نجاحات وقتية اضمحلت نتائجها وتلاشت آثارها بمرور الوقت، الا ثورة الامام الحسين السبط عليه السلام التي تحولت الى منار والى علم تهتدي بنوره البشرية على الرغم من مرور القرون المتمادية، فلازال السبط الشهيد وعاشوراء وكربلاء مدرسة للتحرر من العبودية ومقارعة الظالم والمساواة بين الناس كافة والعزة والكرامة.
ولذلك تغنى بالحسين عليه السلام وتعلم من مبادئه كل الناس بغض النظر عن دينهم او مذهبهم او اثنيتهم او حتى اتجاهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، لان الحسين السبط لم يكن لفئة دون اخرى او لدين دون آخر، انه التجسيد الحي للاسلام الذي بعثه الله تعالى للناس كافة.
ولقد بحث الناس في مختلف مجالات النهضة الحسينية، فكتبوا عن بعدها العاطفي وتحدثوا عن بعدها الفكري والثقافي ونظروا لبعدها الاجتماعي، الا ان واحدا من هذه الابعاد لم يتأمل فيه الناس كثيرا، الا وهو البعد النهضوي في ثورة الامام الحسين عليه السلام، واقصد به الشروط التي رسم معالمها الامام الحسين في حركته الاستشهادية لمن يريد ان يقود نهضة تنتهي بالانسان الى التحرر والكرامة والعزة والعدل.
ولان العالم، خاصة العالم الاسلامي، واخص بالذكر منه العالم العربي، مشغول اليوم بالنهضة، بعد فترة عبودية وقهر واذلال قل نظيرها، تسببت بها الانظمة الشمولية الاستبدادية البوليسية التي تحكم شعوبها بالحديد والنار، والتي صادرت حرية المواطن وسحقت حقوقه واستباحت كرامته، لذلك اعتقد ان البشرية اليوم بامس الحاجة الى ان تتعلم شروط النهضة من مدرسة الحسين السبط عليه السلام، فعاشوراء، برايي، حددت فقه النهضة، اية نهضة، وليست بالضرورة ان تكون دينية، لان النهضة عملية تخص الانسان كانسان، ولا تخصه كمسلم او مسيحي، شيعي او سني، عربي او غير عربي.
تعالوا اذن، ونحن نعيش ذكرى الطف العظيمة، نقرا بعض ملامح (فقه النهضة) الذي خطه ابو عبد الله الحسين عليه السلام بدمه الطاهر وتضحيته المباركة من اجل الانسان.
في البدء يجب ان ننتبه الى حقيقة في غاية الاهمية، الا وهي ان اول اسباب النهضة برايي الامام السبط، هو ان يكون الحكم في البلاد صالحا وسليما، وان من ابرز شروط صلاح النظام السياسي هو وجود المعارضة السياسية التي تؤدي دور الترشيد والرقابة والمحاسبة وتصحيح الاخطاء بشكل دستوري وسليم.
ان سلطة بلا معارضة، لهي سلطة تنتهي بالبلاد الى الاستبداد والديكتاتورية ان عاجلا ام آجلا، ولذلك سعى الامام امير المؤمنين عليه السلام، لحظة رحيل الرسول الاكرم (ص) وعندما تيقن بان قريش قد ازاحته عن مكانه المناسب والصحيح في السلطة الجديدة، وان الخلافة قد زويت عنه، ولاسباب عديدة، قرر ان يعمل جاهدا من اجل ان يؤدي دور المعارضة السياسية في الدولة الى جانب الحكم الذي كانت له عليه الكثير من المؤاخذات الشرعية والفكرية والسياسية وغير ذلك، عبر الترشيد والرقابة والنصح والتصحيح.
فكان يفرض نفسه كمعارضة فرضا، ليؤسس لمفهومها بشكل سليم، فكان ياخذ على يد الخليفة اذا اخطا، وكان لا يسكت على ظلم اذا اصاب مواطن، فمثلا، روي انه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر فاخذ منه الخليفة الثالث عثمان بن عفان ما حلى به بعض اهله، فاظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلموه فيه بكل كلام شديد حتى اغضبوه، فخطب فقال: (لناخذن حاجتنا من هذا الفئ وان رغمت به انوف اقوام) فقال له امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام {اذن، تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه}.
وعندما بايعه الناس حاكما اعلى في الدولة الاسلامية، بذل كل جهده من اجل ان يساهم في التاسيس لمعارضة دستورية من خلال افساح المجال لكل مواطن لان يدلي بدلوه في كل قضية من القضايا العامة التي تخص الناس، وليس المسلمين فقط، فكان يقول ويكرر {فلا تكفوا عن مقالة بحق، او مشورة بعدل} ولذلك، مثلا، نراه يؤسس لدولة المواطن وليس لدولة الدين او المذهب او الاثنية، ولهذا السبب، ربما نلاحظ ان جل خطابات الامام عليه السلام كان يبداها بقوله {ايها الناس} لاشعارهم بان سلطته السياسية هي للناس كافة وليست للمسلمين دون سواهم.
فمثلا عندما راى عليه السلام رجلا مسنا يفترش الرصيف على قارعة الطريق، تساءل عن الحالة بقوله {ما هذا؟} ولم يسال عن الشخص، فلم يقل (من هذا؟) وعندما اجابه اصحابه بقولهم (يا امير المؤمنين انه رجل نصراني كبر فلا يقوى على عمل) رد عليهم بالمعنى {استعملتموه عندما كان قويا، فلما ضعف تركتموه وشانه؟) ثم امر صاحب بيت المال، اي وزير المالية او الخزانة، بان يجري له ما يؤمن له حياة كريمة من ماكل وملبس ومسكن.
كذلك، عندما تناهت الى مسامعه اخبار الغارات المسلحة التي كان يبعثها معاوية بن ابي سفيان ضد اهالي المناطق التي يحكمها امير المؤمنين وما كان يفعله جنده وقطاع الطرق الذين كانت تبعثهم الشام الى اطرف العراق وغيره من الامصار، قال الامام قولته المشهورة والتي ساوى فيها بين كل المواطنين من دون تمييز {وهذا اخو غامد وقد وردت خيله الانبار، وقد قتل حسان بن حسان البكري، وازال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المراة المسلمة، والاخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها، بضم القاف، وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم، ولا اريق لهم دم، فلو ان امرا مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا}.
اكثر من هذا، ما رواه ابن ابي الحديد في شرح (نهج البلاغة) اذ يقول، قال علي:
{ثم جاءني احدهم فقال لي: اني قد خشيت ان يفسد عليك عبد الله بن وهب وزيد بن حصين الطائي، اني سمعتهما يذكرانك باشياء لو سمعتها لم تفارقهما حتى تقتلهما، او توثقهما فلا يزالان بمحبسك ابدا، فقلت له: اني مستشيرك فيهما، فماذا تامرني بهما؟ فقال الرجل: اني آمرك ان تدعو بهما فتضرب رقابهما، فعلمت انه لا ورع له ولا عقل، فقلت له: ما اظن لك ورعا ولا عقلا، لقد كان ينبغي ان تعلم اني لا اقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوته، ولقد كان ينبغي لك، لو اردت قتلهم، ان تقول لي: اتق الله، بم تستحل قتلهم ولم يقتلوا احدا؟}.
فهو، عليه السلام، رفض ان يكون في ظل حكومته سجناء راي او حتى عقيدة، فهو قد ضمن حرية التعبير وحرية الاعلام لكل المواطنين، بلا تمييز، لازالوا لم يشهروا السلاح بوجه السلطة السياسية المنتخبة، وبذلك يكون قد شرعن للمعارضة السياسية في البلاد، ومنحها كامل الحقوق الدستورية والقانونية.
ان بدء فساد النظام السياسي، برايي الامام، يتجلى بمن يلي امور الناس، صغيرا كان ام كبيرا، فاذا فسدت هذه الطبقة، فسد النظام السياسي، وبالتالي ضاعت مصالح الناس، والعكس هو الصحيح، فاذا صلحت هذه الطبقة صلحت مصالح الناس، فمثلا، لو لم يكن المسؤول فاسدا لما تجرا المواطن على تعاطي الرشوة، ولو لم يكن الوزير قد زور شهادته او تسنم مسؤوليته لقرابته من الحاكم، لما تجرا المواطن على تزوير شهاداته او التوسل بالوساطات لنيل ما يصبو اليه.
يقول عليه السلام {ينبغي لمن ولي امر قوم ان يبدا بتقويم نفسه قبل ان يشرع في تقويم رعيته، والا كان بمنزلة من رام استقامة ظل العود قبل ان يستقيم ذلك العود}.
ولقد كان بامكان الامام امير المؤمنين عليه السلام ان يترك الامة وشانها مع الطبقة السياسية الحاكمة الفاسدة، الا ان مسؤوليته في عملية الاصلاح هي التي دفعته لان يلح في حث الناس على الاصلاح، وتحميلهم مسؤولية التغيير، يقول عليه السلام:
{اني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الارض كلها ما باليت وما استوحشت، واني من ضلالهم الذي هم فيه والهدى الذي انا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي، واني الى لقاء الله لمشتاق، وحسن ثوابه لمنتظر راج، ولكنني آسى ان يلي امر هذه الامة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا، فان منهم الذي شرب فيكم الحرام، وجلد حدا في الاسلام، وان منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الاسلام الرضائخ، فلولا ذلك ما اكثرت تاليبكم، وجمعكم وتحريضكم، وتركتكم اذ ابيتم وونيتم}.
بهذا الكتاب الذي بعثه الامام الى اهل مصر، مع مالك الاشتر لما ولاه امارتها، يحدد عليه السلام معالم المسؤولية العينية التي تقع على كاهل كل مواطن في الدولة، فلقد كان بامكان الامام ان يتحمل المسؤولية لوحده، او كان بامكانه ان يترك حبل الامور على غاربها، على حد وصفه، الا ان حرص الامام على تحميل المواطن ــ الفرد مسؤولية الاصلاح والتغيير، من اجل تحقيق النهضة الاجتماعية المطلوبة من خلال الاصلاح السياسي، هو الذي دفع به الى ان يحث ويحرض ويثير ويؤلب ويؤنب.
على ذات النهج سار الامام الحسن السبط عليه السلام ومن بعده الامام الحسين السبط عليه اليلام، فلو كان النظام السياسي الجديد الذي خلف معاوية في السلطة باعتلاء ابنه يزيد السلطة في الشام، قد منح حرية التعبير للناس، ولم ياخذهم غصبا على البيعة له، ولو انه كان قد ترك الناس وشانها تقول ما تعتقد به صحيحا وتنتقد ما تراه خاطئا ومنحرفا، فلم ياخذهم بالتهمة ولم يكمم افواههم ويسكت اصواتهم، لكان الامام الحسين عليه السلام قد اتخذ موقفا آخر من السلطة، ولاختار جانب المعارضة السياسية للكشف عن انحرافات النظام السياسي الجديد، واصلاح الامور، وهذا امر يعتقد الامام الحسين عليه السلام انه من حقه ومن حق كل مواطن في ظل الدولة، اية دولة، اما ان ينزو على السلطة حاكم ارعن فاسد فاسق فاجر قاتل النفس المحترمة كيزيد بن معاوية، ثم يامر الناس بان يبايعوه تحت حد السيف ويطيعوه على كل حال، ثم يفرض عليهم السكوت والخضوع والخنوع لسلطته، من خلال مصادرة الحريات وتكميم الافواه والغاء المعارضة، وكل ذلك باسم الله تعالى وباسم الدين وباسم القران وباسم خلافة رسول الله (ص) فهذا ما لا يمكن السكوت عنه، لانه يتناقض جملة وتفصيلا مع اول شروط النهضة لاي بلد، وهو شرط النظام السياسي الصالح، او على الاقل وجود المعارضة السياسية السليمة، والا ارايتم او سمعتم او قراتم عن بلد شهد نهضة وعمرانا وتطورا وتقدما، وعلى اي صعيد من الاصعدة، في ظل نظام سياسي فاسد؟ الا ان تكون مثل هذه النهضة كمساحيق النساء التي يضعنها على وجوههن، ما ان يلامسها الماء حتى تزول عن بكرة ابيها.
اقول بان اول شروط النهضة هو وجود النظام السياسي الصالح، لان النظام السياسي الفاسد يفسد معه كل شئ، الاجتماع والاقتصاد والعلم والثقافة وكل شئ، ولذلك قال الامام الحسين عليه السلام في وصيته التي تركها عند اخيه محمد بن الحنفية:
{الا واني لم اخرج اشر ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر واسير بسيرة جدي رسول الله وابي علي بن ابي طالب}.
ومن هذه الوصية يمكن ان نتلمس شروط النهضة بما يلي:
ان الذي يفكر بتغيير النظام السياسي الفاسد يجب عليه ان يتميز عنه في كل شئ، فلا يكون خروجه على الظالم شرا على الناس، فيمارس القتل والذبح والتفجير والتدمير بحجة الجهاد والنضال والمقاومة، او انه يخرج على الطاغوت بما يملك من اموال او اعلام فحسب، من دون ان يكون صاحب مشروع نهضوي تغييري حقيقي، او ان يفسد اكثر مما يصلح في حركته النهضوية، فلقد راينا الكثير من (الثورات) وحركات (التحرر) عندما تصل الى السلطة بعد نضال طويل ضد الحكم السياسي الفاسد، والذي تعمده بالتضحيات الكثيرة والكبيرة، اذا بها تمارس نفس سياسات النظام المباد وكانها كانت تسعى بنضالها ضد السلطة الجائرة، الى ان تستبدلها بسلطتها فحسب من دون اي تغيير، او ان تكون الحركة (النهضوية) ظالمة بدلا من ان تكون مظلومة، تارة للنظام السياسي القائم عندما تفشل في تشخيص المرحلة السياسية ومتطلباتها، واخرى عندما تظلم من معها في خندق النضال، بسبب الحزبية الضيقة والانانيات التي تثير الخلافات والضغائن بين (المناضلين) بعضهم ضد البعض الاخر.
ان كل هذه الحالات مرفوضة في فقه النهضة عند الحسين السبط، لان الحركة النهضوية التي دعا اليها وقادها حتى النهاية كانت سليمة من مثل هذه الامراض التي تصيب (حركات التحرر) غير المبدئية والتي تركز نظرها على السلطة اكثر من اي شئ آخر.
اما الحسين السبط، فلم يكن هدفه السلطة من اجل السلطة، ابدا، وانما استهدف السلطة الظالمة من اجل التغيير نحو الافضل والاحسن، فهو عليه السلام اراد بنهضته ان يغير المفاهيم السياسية من خلال فضح السلطة الجائرة اولا، ليتسنى له ممارسة التغيير الجذري على بقية الاصعدة، وهو الذي حدد معالم طريقة التغيير السياسي، والتي لخصها بالتغيير الذاتي الذي يجب ان يسبق اي تغيير آخر، لان الانسان الفاسد لا ينتج شيئا صالحا ابدا.
لقد سعى الحسين السبط الى اطلاق حرية الانسان التي صادرها النظام السياسي الحاكم، بنوعين من الاستبداد، الاول هو الاستبداد الديني والثاني هو الاستبداد السياسي، ما انتج امة بلا كرامة، لان كرامة الانسان من حريته، فالعبد ليس له كرامة، وان امة بلا حرية لهي امة بلا كرامة، ولذلك ضحى الحسين السبط عليه السلام من اجل اطلاق الحرية من اسر النظام الاموي الشمولي الوراثي.
فالنهضة عند الحسين السبط تبدا من الانسان، الذي يجب ان يكون حرا قادرا على الاختيار، ولذلك نلاحظه عليه السلام كان يحرض على السلطة من مقاتلها، يقول عليه السلام:
{ايها الناس ان رسول الله (ص) قال؛ من رأى سلطانا جائرا، مستحلا لحرام الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله.
الا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستاثروا بالفئ، واحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وانا احق من غير}.
وفي هذا النص:
يثير الامام المسؤولية العينية عند كل مواطن في الدولة الاسلامية، بغض النظر عن هويته الدينية واتجاهاته الفكرية، لان السلطة في الدولة، اية دولة، شان عام يتاثر بها، سلبا او ايجابا، المؤمن وغير المؤمن، الكبير والصغير، المراة والرجل، العالم والمتعلم، ولذلك ينبغي ان يتحمل الجميع مسؤولية الاصلاح والتصحيح والاخذ على يد السلطة اذا ظلمت وانحرفت وطغت، لان طغيان السلطة لا حدود له وان ظلمها لا يقف عند حد، ولقد راينا كيف ان طغيان النظام الشمولي البائد الذي حكم العراق بالحديد والنار طيلة قرابة اربعة عقود من الزمن، شمل الجميع، بعد ان بدا ضد فئة معينة فاستهدف شريحة دون اخرى، فظن الاخرون بانه لا يستهدف الا من يواجه سياساته، فاختاروا السكوت والمداهنة كاسلوب لاتقاء شر السلطة، اذا بها تدير وجهها لهم بعد ان اكملت مشوارها مع غيرهم، لتبدا بتصفيتهم الواحد تلو الاخر.
هكذا هي تجارب التاريخ، فلقد ظن البعض ان الطاغية يزيد لا يريد الا ان ياخذ الحسين السبط بالشدة، فاذا تمكن منه ترك الباقين وشانهم، اذا بهم يتحولون بمرور الوقت الى وقود لنيران السلطة الظالمة والغاشمة، ليس في العراق فحسب، بل حتى عند البيت العتيق في مكة المكرمة وفي مدينة رسول الله (ص).
ان النهضة في قاموس الحسين السبط تبدا من الانسان ــ الفرد لتنتهي بالانسان ــ الامة او الجماعة، ويخطئ من يظن انه لا دور له في النهضة وان على الاخرين ان يتحملوا مسؤولياتهم ازاءه، ابدا.
والمنطلق من هذا الفهم، هو ان الانسان ــ الفرد يتضرر بالسلطة الفاسدة كما ان الانسان ــ المجتمع يتضرر هو الاخر، فالحاكم عادة يمارس سلطته على مستويين، الاول هو الفرد والثاني هو المجتمع، فمثلا، اذا استاثر الحاكم بالفيء، اي باموال الناس، او ما يسمى اليوم ببيت المال، او بالميزانية العامة، فان ذلك سيلحق الضرر بالفرد وبالمجتمع على حد سواء، بالفرد لانه سيحرم حقه الشخصي من بيت المال، فيظل يعيش فقيرا يتحول بسبب العوز والحاجة الى عبد عند الحاكم يعمل بالسخرة ويقتات على فتات موائد اللئام، وبالمجتمع لانه سيحرم فرص النهوض والتقدم والتطور، بعد ان يكون الحاكم الظالم قد صادر حقوقه في بيت المال، فلم يعد يصرف على المشاريع العامة التي تساهم في بناء البلد وتنمية قدرات اهله، فتضيع فرص التعليم والصحة والعمل وتحسين المعاش وغير ذلك.
نقطة اخرى مهمة جدا بهذا الخصوص، وهي ان فساد النظام السياسي سبب للفساد الاداري، والاخير عادة ما يعتمد على الرشوة والمحسوبية والقربى والواسطة في توزيع المناصب والمسؤوليات ومراكز الدولة، في اطار ما بات يعرف اليوم، في العراق تحديدا، بالمحاصصة والحزبية الضيقة، وان مثل هذا الفساد الاداري يهدر الطاقات الخلاقة والكفاءات والخبرات في البلد، ويلغي مبادئ اساسية لعملية النهوض مثل النزاهة والحرص وروح المسؤولية والكفاءة والخبرة، ولذلك استهدف الحسين السبط تغيير النظام السياسي ليعيد ميزان العدل في ادارة البلاد الى نصابه.
لقد ذكر القران الكريم هذا المعنى في آية كريمة بقوله عز وجل {ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين} وان من اشياء الناس كفاءاتهم وخبراتهم ونزاهتهم واحساسهم بالمسؤولية، وان النظام السياسي الفاسد يبخس هذه الاشياء، فلا يعطي الناس حقهم في ذلك، لانه يعتمد الفساد الاداري، الذي ميزانه المحاصصة كما قلنا والولاء للحزب او الزعيم، والاخيرة لا تعتمد على (الاشياء) التي ذكرناها للتو، وانما تعتمد قواعد اخرى هي فاسدة كالنظام، ولهذا السبب فان النظام السياسي الفاسد يبخس الناس اشياءهم، ولذلك استهدفه الحسين السبط، من اجل ان يعمل على تطبيق هذه القاعدة القرانية العظيمة.
والملفت للنظر في الاية الكريمة هو انها تنهى عن بخس اشياء (الناس) وليس المؤمنين، لان (اشياء) الناس كالخبرة والكفاءة والنزاهة والامانة والقدرة على النجاح، محترمة ليس بسبب الدين او المذهب او الاثنية او بسبب قرب المرء من الحاكم او بسبب ولائه له وتملقه للسلطة السياسية، ابدا، وانما هي (اشياء) محترمة لذاتها، يحترمها العقل والمنطق وقبل وبعد كل ذلك الدين، فالانسان، ايا كان، لا زال يمتلك من هذه الاشياء ما لا يمتلكها غيره، وان لم يكن صواما قواما، فيجب على الدولة ان تقدمه وتؤخر الاخر الصوام القوام، الا اذا ارادت الدولة ان تختار اماما لمسجد، فان عليها ان تبحث عن الصوام القوام المتقي، اما لشؤون الدولة ولامور الحكم فان الاولوية للاشياء التي يحتاجها الموقع، وليس لاي شئ يرد في ذهننا.
ولقد وصفت الاية الكريمة من يتغاضى عن هذه الحقيقة الحضارية، بانه يعثوا في الارض فسادا، وهذا ما نلاحظه اليوم في بلداننا العربية تحديدا والتي قدمت فيها الانظمة الحاكمة صفات مثل المحسوبية والمحاصصة والولاء للسلطة على قيم حقيقية مثل النزاهة والخبرة والتجربة والكفاءة، ولذلك عم الفساد في هذه البلدان، خاصة على الصعيد السياسي والاداري، لان الاية ربطت بين بخس اشياء الناس والفساد.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فلقد اشار الحسين السبط في خطابه هذا مع الناس الذين تحشدوا لقتاله، الى نقطة اخرى في غاية الاهمية كذلك، لا ينبغي لمصلح او زعيم نهضة ان يتغافل عنها او يتنكر لها، الا وهي ضرورة بل وجوب ان يربط المصلح مصيره مع مصير الناس في كل الاحوال لينال ثقتهم، والا فهم قد يعتبرونه دجالا او وصوليا يسعى للوصول الى السلطة على اكتاف الناس بعد ان يحول تضحياتهم الى جسر طويل ينتهي به الى السلطة، ثم يدير ظهره للناس الذين كانوا وقود (نهضته) كما هو الحال بالنسبة الى كثيرين ممن وصلوا الى السلطة بدماء الابرياء وتضحيات المستضعفين وانات الثكالى والارامل والايتام، اذا بهم يتنكرون لكل شئ وكانهم تسلقوا السلطة بعضلاتهم او انهم نزوا عليها من السماء.
لقد سعى الامام السبط ان يطمئن الناس الى حقيقة حركته ونهضته، فسعى الى اقناعهم بانه قد ربط مصيره بمصيرهم، من اجل ان يغلق كل ابواب التبرير المفترضة، فقال لهم بعد ان بين لهم هويته بشكل صحيح وليس كما صورته الدعاية الاموية التضليلية؛
{فاني الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (ص) نفسي مع انفسكم، واهلي مع اهليكم، فلكم في اسوة}.
ترى ما الذي ابقاه السبط للعصبة الضالة من حجج واعذار بعد هذا الخطاب؟ الا ان تكون قد قررت ان تقود نفسها الى ذل الدنيا وخزي الاخرة، وهذا ما حصل بالفعل.
ثم بين الامام في نهاية خطابه هذا حقيقة مهمة اخرى الا وهي ان من لا يساعد نفسه على التخلص من الظلم فليس هناك احد يساعده على ذلك، فكل واحد في المجتمع هو الاصل في عملية التغيير، اما الاخرون فهم عوامل مساعدة، ولذلك خاطبهم السبط بقوله، فيما اذا قررت العصابة ان لا تساعد نفسها على الانعتاق من ظلم وتجبر وجبروت النظام السياسي الفاسد، بقوله:
{فحظكم اخطاتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فانما ينكث على نفسه}.
انهم اخطاوا الطريق بمثل هذا القرار الخاطئ، كما انهم ضيعوا به نصيبهم بالحياة الحرة السعيدة الفارهة.
هذا هو حال الماضين، وهو اليوم حال الكثير من الشعوب التي ترتجف من اتخاذ قرار التحرر والانعتاق من ربقة الطاغوت، والانكى من ذلك، هو حال الشعوب التي يقيض لها الله تعالى اسباب الانعتاق والتحرر ثم تصر على العودة الى عهد الجبروت والذل والخنوع والاستكانة، لماذا؟ لانها لم تميز بعد بين مصلحتها وضررها، وكانها ابسلت على التعايش مع الظلم والقهر والذل والعبودية.
وصدق امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام عندما قال {من لا يعرف الخير من الشر فهو بمنزلة البهيمة}.
واحد فقط من بين تلك العصابة قرر ان يساعد نفسه فبادر السبط لمساعدته، ذلك هو الحر بن يزيد الرياحي الذي خير نفسه في اللحظة الحاسمة بين الجنة والنار، فابى الا ان يختار الجنة، من خلال اتخاذه القرار الصحيح والموقف السليم، في اللحظة المناسبة، عندما قرر فك ارتباطه بجيش الشام الذي بعثه الطاغية يزيد لقتل السبط، والالتحاق بقوات الحق التي كان يمثلها آنئذ الحسين واهل بيته واصحابه، وصدق سيد الشهداء عندما وقف على جسده الطاهر بعد استشهاده مخاطبا اياه بقوله عليه السلام {انت حر في الدنيا وسعيد في الاخرة}.
5 كانون الاول 2010