مقاربة أشك أنها لم ترد على ذهن أي متابع للشأن العراقي، هي مقارنة الانتخابات البريطانية التي أنتجت هي أيضا برلمانا معلقا، لم يحظ أي حزب فيه على الأغلبية المطلقة المؤهلة لتشكيل حكومة، لذا فكان لا بد أن تكون هناك حكومة ائتلافية بين حزبين، وجهة المقارنة اللافتة أنها عندهم لم تأخذ إلا خمسة أيام ما بين الانتخابات وتشكيل الحكومة، في حين أنه للآن وبعد مضي شهرين ونصف الشهر على الانتخابات عندنا ونحن لم ندخل بعد في فترة المصادقة على النتائج الانتخابية ولا ما سيعقبها من سجالات تشكيل الحكومة، حيث أقدر بأن ذلك لن يتم في أحسن الفروض قبل مضي أربعة أشهر على الانتخابات.. وجه المقاربة اللافت أنه في بريطانيا كان هناك هواجس وترقب للأسواق والجمهور لتشكيل الحكومة للخروج مما سموه عدم اليقينية السياسية! يوازيها عندنا جدل مرتاح ومتمدد وبالونات اختبار ومناورات طويلة وأخرى ممجوجة وبرقيات تتطاير باتجاهات مختلفة، وأخطرها تلك التي استخدمت رسائل الموت لتودعها في صندوق بريد الخصوم.
موطن الغرابة من المقارنة أن خمسة أيام ما بين الانتخابات وإنتاج الحكومة في بريطانيا اعتبرت طويلة وفترة «عدم يقينية سياسية»، في حين أن سياسيينا صموا آذانهم ووطنوا ضمائرهم على عدم الاكتراث لمشهد القتل اليومي، الذي يطال الأبرياء رغم معرفتهم وإجماعهم على أن فترة الفراغ السياسية هي البيئة الخصبة والمثلى لازدهار العنف، ما يفاقم من هذه الغرابة ويستجلب المقارنة أن أغلب سياسيينا المتسيدين على المشهد السياسي والماسكين بمفاتيحه عاشوا وقضوا فترة المنفى السياسي في بريطانيا. ألا يبدو أنهم لم يتشربوا هذه الثقافة الديمقراطية، لكونهم إما عاشوا على هامش المجتمع أو انتقلوا إليه انتقالا مكانيا لم يتعرفوا إلا على الجانب المظهري من ديمقراطية الغرب، أو كما قالت العرب إن الطبع يغلب التطبع.
وفوق ذلك أنهم حتى في اختيارهم لشكل النظام السياسي اختاروا النظام البرلماني متأثرين بالنظام الإنجليزي، مخالفين بذلك مقولة ابن خلدون بأن المغلوب مولع بتقليد الغالب، حيث لم يأخذوا بالنظام الرئاسي تأثرا بالغالب الأميركي كما فعلت دول أميركا اللاتينية التي أخذت غالبيتها به. إنهم فضلوا النظام البرلماني، لكونه أكثر تمثيلا للمكونات ويجعلها مقتسمة للسلطة ومالكة في الوقت نفسه للنقض والتعطيل، حيث تيسر ذلك لهم عندما «عرقنوا» النظام البرلماني. وهذه العرقنة للمؤسسات الديمقراطية تشابه مثالا طريفا أورده أحد الكتّاب عن الاختلاف في التعاطي مع المؤسسات، فقربها من خلال قصة عن المستوطن الأبيض في أفريقيا عندما شرع في بناء بيت ليحميه وكان يراقبه ويقلده قرد أفريقي ويبني له بيتا أيضا، لكن عندما انتهى المستوطن من إقامة البيت وجاء الليل نام بداخله في حين عندما أنهى القرد بناء بيته نام فوقه، فيقارب بأن الغربي يبني مؤسسات ويخضع لها، والسياسي في العالم الثالث يبني مؤسسات ولكن لكي يركب عليها ويجعل من نفسه فوقها.
نعود لاستحقاقات الزمن العراقي.. فقد انتهت مرحلة إعادة العد والفرز لنتائج الانتخابات التي حبست حراك المشهد السياسي من دون أحداث تغيير. بعدها سندخل في المرحلة الضاغطة وهي مرحلة الاستحقاقات الدستورية المقيدة زمنيا، أي مرحلة المصادقة على النتائج، ثم بعدها دعوة رئيس الجمهورية البرلمان للانعقاد، ثم سنقف بمواجهة الخانق الخلافي الأخير والأهم، وهو التكليف لرئاسة الوزراء، في ظل تمسك القائمة العراقية الأولى انتخابيا بما تراه استحقاقا انتخابيا ودستوريا بأن يذهب التكليف بتشكيل الحكومة إليها، ورأي آخر استند إلى قرار للمحكمة الاتحادية فسر المادة 76 من الدستور بأن الكتلة النيابية الأكبر هي أكبرهما، سواء التي فازت في الانتخابات أو التي ستتشكل عند انعقاد المجلس، وهذه العقدة أثارت جدلا كبيرا منذ ظهور النتائج، وهو ما ستشهده الأيام اللاحقة، بل أقدر أنها ستظل طوال عمر الحكومة القادمة، رغم إدراك القائمة العراقية، وإن هي فازت إلا أنه ومن خلال المعطيات الراهنة فإن إمكانية تشكيلها للحكومة بالتحالف مع كتلة كبيرة أو كتل هي أقرب إلى الاستحالة في ظل جمود وإعادة تثبيت التخندقات السياسية - الطائفية، وأن أي اختراق لها سيعتبر بمثابة انقلاب لن تقبل به القوى السياسية الكبيرة الممثلة للمكونات، إلا أن القائمة العراقية تعول على مسألتين؛ الأولى قريبة وهي أن من يمتلك التكليف سيحوز سلة حوافز كبيرة يستطيع أن يستميل بها أجنحة من كتل بإغرائها بوزارات ومناصب سيادية وأخرى مهمة، والثانية أبعد وهي توظيفها للتشكيك في شرعية الحكومة القادمة وسيعاونها بذلك القوى الإقليمية الداعمة لها.
وإن هذا الجدل من الناحية الواقعية لا يعدو أن يكون جدلا نظريا لسببين: الأول أن الكتلة النيابية الأكبر إن تشكلت فإنها ستكون الفيصل، فإن كلفت فإنها ستقدر على تشكيل الحكومة لما تمتلكه من أغلبية ابتداء، وإن كلف غيرها فإنها بعدم تعاونها ستعيق وتفشل التشكيل وسيعود التكليف لها، وثانيا من الذي سيقوم بواجب التكليف؟ إنه رئيس الجمهورية الجديد، وهذا سينتخب بعد اختيار رئيس البرلمان بالأغلبية المطلقة المستوجبة لتوافق الكتل، ثم اختيار رئيس الجمهورية الذي سيحتاج في الجولة الأولى إلى توافق أكبر؛ أي ثلثي البرلمان، ثم ثالثا وبعد التوافق واجتياز هاتين العقبتين تأتي مرحلة تكليف رئيس الحكومة، لذا فمن غير المتوقع ولا المنطقي ولا وفقا للعرف الذي تواترت عليه السوابق العراقية بعد التغيير أن يتم حل هذه العقد فرادى، بل حتما ستحل بصيغة الصفقة الواحدة، لذا سيعود اختيار رئيس الوزراء محسوما قبل الذهاب للبرلمان والتئامه، وقبل الدخول بالجدل الخلافي حول الآليات الدستورية للتكليف، أو سيلجأ إلى تكتيك جعل الجلسة الأولى مفتوحة - كما سبق - وتعليق الانتخاب للمناصب السيادية الثلاثة لمارثون آخر من المفاوضات والمساومات والجدل.. إنه جدل سيطول في ظل تصاعد إيقاع طاحونة الموت، وأخيرا إذا كان من درس مؤلم يستنتج من المقارنة بين الحالتين البريطانية والعراقية فهو أن المؤسسات تستورد ولكن ماذا عن رجالها والفكر الذي ورائها؟
أقرأ ايضاً
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري
- قل فتمنوا الموت إن كنتم صادقين... رعب اليهود مثالاً