من السابق لأوانه ترجمة هذا الكم الهائل من الشعارات والبرامج المطروحة على اللافتات واليافطات والملصقات والبوسترات وغير ذلك الى الواقع العملي فهذا مرهون بالبراغماتية الأدائية للمرشحين بعد نيلهم الاستحقاق الانتخابي عبر صناديق الاقتراع التي من المؤمل ان يدلي فيها (19 مليون ناخب عراقي) أصواتهم لـ\"إنتاج\" تشكيلة حكومية في إطار التجربة العراقية الجديدة بعد تغيير نيسان 2003 .. ومن السابق لأوانه أيضا التكهن بالملامح الأولى للتركيبة الحكومية الجديدة من خلال ميكانيكيات الفوز والخسارة في مضمار الماراثون الانتخابي الذي يبدو من تمظهراته وتجلياته المبكرة انه لن يكون حامي الوطيس فحسب وإنما هو في الأساس سباق فريد من نوعه ولا نظير له من جنسه في مقارباته ومآلاته ليس على مستوى التاريخ الوطني فقط بل على مستوى الفضاء الشرق الأوسطي والإقليمي إذا ما اعتبرنا إن التجربة الديمقراطية العراقية الوليدة أنموذجا قابلا للنجاح رغم التحديات الهائلة والشرسة التي واجهتها وما تزال تواجهها .
ونستشف من خلال هذه المقدمة البسيطة إننا عند استقرائنا للكثير من الدعايات الانتخابية المطروحة وعلى امتداد الجغرافيا العراقية التي تحولت بأكملها الى \"ساحة\" انتخابية شديدة التنافس، نستخلص منها بعض الملامح لسيميائيات بعض هذه الدعايات على اختلاف نماذجها التي ابتكرها وطرحها المرشحون ( 6218 مرشحا يتنافسون على 325 مقعدا ) من خلال برامجهم الانتخابية منها؛ إن أكثر تلك الدعايات تحمل ملامح هي اقرب الى الملامح السريالية خاصة الشعارات الفضفاضة ذات الأبعاد والقياسات الهلامية وهي اغلبها ذات نسق ثلاثي في إيحاءاتها ومدلولاتها ما يشبه الاقانيم الثالوثية التي تشير الى مفاهيم ربما تبدو اكبر من بناءاتها اللغوية وهياكلها البلاغية في منظومة برامجية قد يكون تحقيقها على الصعيد العملي مؤشرا حقيقيا على مصداقيتها او يكون عكس ذلك أي مجرد برامج انتخابية مرحلية تنتهي فاعليتها او صداها بعد انتهاء موسم الانتخابات ، فضلا عن التركيز على \"مكملات\" تلك الشعارات كديكورات لابد منها لإضفاء نوع من الأبهة والشخصنة الكاريزمية والتي عادة ما تصاحب اغلب الانتخابات التى تجرى في دول العالم الثالث كمعيار يستقطب اكبر شريحة ممكنة من الناس ، مثل الشهادة الأكاديمية للإيحاء بـ \"تكنوقراطية\" المرشح وللدلالة على مستواه العلمي والثقافي (ومنه وجاهته الاجتماعية ومستواه الطبقي وانتماؤه العشائري) كتوصيف (الدكتور \ المحامي\المهندس\ الأستاذ الجامعي\ الطبيب \ الخبير القانوني ...) تضاف الى ذلك الألقاب والتوصيفات التي توحي بالمستوى الديني او العقائدي للمرشح وفي بعض الأحيان الطائفي او المذهبي (الحاج \ الشيخ \ السيد\ ..) لتمتزج في اغلب الأحيان هاتان المجموعتان من الألقاب في توليفة القابية تقترن بقدر الإمكان فيها التوصيفات الأكاديمية مع العقائدية لتنتج توصيفات توحي بالرصانة العلمية والمنزلة الروحانية لتعطي في النهاية \"اطمئنانا\" سايكلوجيا للناخب ولاعبة دورا في جذبه و\"اقتناص\" صوته الثمين للغاية خاصة بعد تزايد الوعي الانتخابي في الممارسات الديمقراطية لدى عموم العراقيين ولم تعد تنطلي على أكثرهم الألقاب الرنانة او الشعارات الصارخة والطروحات التي تدغدغ المشاعر وتكثر من استيهامات الوعود الخلابة و\"البرامج\" التي تحول الواقع المرير الى فردوس عامر بالمنجزات والمشاريع وفرص العمل التي ستهطل كالغيث فوق رؤوس الفقراء والعاطلين عن العمل سيما إذا كانت الدعاية الانتخابية تحمل وجوها سياسية بارزة وألقابا طنانة مثل (الشيخ المهندس \ السيد الدكتور \ الحاج الأستاذ.....) وهي ذات الألقاب التي حملها بعض مرشحي الدورة البرلمانية السابقة !!!
إن بعض الملصقات الدعائية أشارت بوضوح الى \"منجزات\" حققها بعض المسؤولين المرشحين الذين ما يزالون في الخدمة الآن في أعمال البنى التحتية او الأمنية او الاقتصادية في محاولة لإبراز تلك \"المنجزات\" كمكتسبات من الممكن إن تتكرر في المستقبل في حال تكرار فوزهم ثانية في محاولة لاستثمار المنجزات الوطنية التي تحققت بسواعد العراقيين لأسباب انتخابية شخصية .. والبعض الآخر حاول استغلال الكثير من السلبيات والمآسي وحالات البؤس والفقر ومظاهر التردي الأمني كمرتكزات شعاراتية وإعادة صياغة الحلول على شكل وعود يبدو اغلبها وعودا رومانسية لان من المعروف وعلى الصعيد العالمي وفي تجارب مماثلة انه ليس من المعقول ترميم واعمار ما هدمته الديكتاتوريات والحكومات المستبدة والتوتاليتاريات الشمولية بين ليلة وضحاها او في سنين عجاف كانت اشد على العراقيين من سني يوسف لأسباب لم تعد تخفى عن احد، لكن بعض المرشحين (كتل او كيانات او أشخاص) حاول أن يظهر كل حالات الدمار والخراب والفقر على انه بسبب الأداء الحكومي لما بعد التغيير دون تحميل الفترة المظلمة التي عاشها العراق طيلة عقود مأزومة وحبلى بكل أنواع الخراب بأي سبب وهؤلاء يحاولون من خلال دعاياتهم \"البرهنة\" على إنهم سيكونون البدائل الأكثر \"وطنية \" ونزاهة\" وعدالة وسيكون المستقبل معهم أكثر إشراقا وبهجة واستقرارا وضمانا دون أن يوضحوا كيف سيكون ذلك ؟؟؟!! والكثير من الدعايات الانتخابية ما يحمل طروحات من هذا القبيل بل إن بعضها يحاول أن يرسم صورة مخملية للناخب يبدو فيها العراق، وبمجرد وصول العتبة الانتخابية واستكمال الاستحقاق الانتخابي، جنة الله في الأرض ويصير الواقع الحالي مجرد كابوس بعد ان كانت الأمنيات بالعيش الكريم أضغاث أحلام !!!! .
إن من أهم الملامح السيميائيةـ كعلامات وإشارات ودلالات ـ التي حفلت بها الكثير من الدعايات الانتخابية ، تلك الابتسامة العريضة التي تنمُّ عن \"ثقة\" عالية بإمكانية الفوز مع التركيز على حضور الصورة وأبعادها الكاريزمية لتتناسق جميع الأبعاد الصورية مع الدلالات اللغوية الشعاراتية والرقمية (رقم القائمة وتسلسل المرشح) مع الخلفيات الدراماتيكية التي حاولت الكثير منها أن تظهر المرشح على انه الأجدر بحمل المسؤولية وإزاحة الحالة القاتمة بجرة قلم، فضلا عن حجوم تكاليف الدعايات التي دفعت من اجلها ومستوى تمويلها وإستراتيجية المواقع التي وضعت فيها تلك الدعايات مع التسهيلات اللوجستية والإعلامية والإعلانية .
إن الناخب العراقي يأمل من هذه البانوراما التي امتدت على امتداد خارطة الوطن أن ينتقل بقفزة نوعية نحو مستقبل أفضل وأحلام (ليست وردية) تتحقق طاردة كوابيس الماضي المزعجة وتخرجه من مطبات المحاصصة ومآزق الطائفية ومشاكل الفساد الإداري والمالي التي نخرت في جسد الدولة \ الامة العراقية إضافة الى تحسن \"واضح\" في مستوى المعيشة والخدمات والأمن وكل ذلك استحقاقات تمليها مبادئ المواطنة على من سيتحمل المسؤولية ...إنها بانوراما تستحق التأمل والوقوف على ما ستؤول إليه صناديق الاقتراع كما تستحق أن \"ينتقي\" المواطن العراقي الذي لم يعد \"غشيما\" ، من يمثله تمثيلا صحيحا ويترجم مصالحه الوطنية الى واقع معاش وليس مجرد شعارات تتمزق مصداقيتها قبل أن تتمزق يافطاتها والفاعل يبقى \"مجهولا\" دائما.
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء
- تكرار أخطاء الدورات الانتخابية السابقة
- "طشة" انتخابية