برأيي، فان ملامح المشروع الوطني الذي يتحدث عنه ويبشر به الجميع اليوم، ترتسم عند عتبة صندوق الاقتراع، ولذلك، يجب ان يسن مجلس النواب العراقي قانونا للانتخابات يختلف جذريا عن القانون الحالي.
ان القانون الجديد يجب ان يحقق المبادئ التالية، التي تعتبر جوهر الديمقراطية:
اولا: مبدا (صوت واحد لمواطن واحد) لنقضي على قانوني التوافق والمحاصصة سيئا الصيت، واللذان كادا ان يدمرا العملية السياسية برمتها، فهما اللذان عرقلا الكثير من القوانين، وافشلا الكثير من المشاريع، عندما تحولا الى سبب مباشر لتكبيل الحكومة وبقية مؤسسات الدولة.
وبالمناسبة، فانا لست ضد (التوافق) و (المحاصصة) بالمطلق، وانما انا معهما في اطار محدود ومعقول، اما ان يتم العمل بهما نزولا الى ادنى درجات مؤسسات الدولة فهذا غير مقبول.
كما انهما مرفوضان عندما يعتديا على جوهر الديمقراطية التي تقوم على اساس (صوت واحد لمواطن واحد) فالتوافق والمحاصصة، الغتا صوت الناخب بطريقة لصوصية، عندما ساوت في عملية التصويت على اي قرار بين جميع الكتل النيابية، فاعطت كل مكون، على حد تعبير السياسيين، صوتا واحدا من ثلاثة اصوات، فاين صوت الناخب اذن؟ ولماذا ذهبنا الى صندوق الاقتراع؟ اذا كنا سنساوي بين الكتل، صغيرها وكبيرها؟.
كذلك، فان مبدا (صوت واحد لمواطن واحد) سيلغي المذهبية والاثنية، ويقدم الى الامام الوطنية بكل معانيها ومعاييرها.
فضلا عن انه سيقضي على المحاصصة التي قضت، وللاسف الشديد، على عناصر مهمة في التعيين وتولي المهام والمسؤوليات، مثل الخبرة والكفاءة النزاهة والتجربة وغير ذلك من القيم الوطنية الحضارية التي يحتاجها العراق اليوم، وهو يحاول ان ينهض من تحت ركام الديكتاتورية والنظام الشمولي.
ثانيا: ان يذهب صوت الناخب الى من يختاره من المرشحين في الورقة الانتخابية، حصرا.
فباية مناسبة، تمنح الاصوات الاضافية الى مرشح لم يحصل بنفسه الا على عدد من الاصوات لا تتجاوز عدد اصابع اليد؟ فيما يخسر آخر حصل على اعداد كبيرة جدا، الا انها دون ما يسمى بالقاسم الانتخابي؟.
ان في هذا النظام ظلم كبير، ضاق طعمه الكثير من المرشحين في انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة، ولذلك يجب ان لا يتكرر هذا الامر ابدا، لانه سيطعن بمصداقية الديمقراطية الوليدة في العراق.
اتمنى على مجلس النواب، ان لا يفصل قانونا للانتخابات بمقاسات الاحزاب الحاكمة، وانما بما يساهم في بناء نظام ديمقراطي حقيقي، من خلال النظر الى المستقبل، وتجاوز ارنبة انوف الاعضاء، فالعراق بحاجة الى رؤية استراتيجية، وليس الى رؤية ضيقة.
ان بالامكان تجاوز هذا الظلم من خلال:
ثالثا: ان يمنح القانون المزمع تشريعه، الناخب حق اختيار العدد المطلوب من المرشحين في دائرته، من دون ان يجبر على التصويت للقائمة، اذ يجب ان يمنح حق اختيار ما يعتقد انه الاصلح في كل قائمة.
فمثلا، اذا كانت حصة محافظة بابل من النواب في البرلمان، ستة، فلابد ان يمنح قانون الانتخابات الناخب الحق في ان يختار ستة اسماء من بين كل المرشحين سواء من قائمة واحدة او من عدة قوائم، فيدرج في الورقة الانتخابية اسماء ستة مرشحين، ثم عند الفرز سيفوز في الانتخابات من سيحصل على العدد الاكبر من الاصوات، بغض النظر عما اذا كانوا من قائمة واحدة او من عدة قوائم او حتى مستقلين، اي من قوائم منفردة.
وبهذه الطريقة، سيكون الناخب فقط، دون سواه، هو من يحدد الفائز، او الفائزين، من المرشحين.
ان هذا هو القانون المعمول به في جل دول العالم التي يحكمها النظام السياسي الديمقراطي، اما بالطريقة التي رايناها في انتخابات مجالس المحافظات، فليس لها مثيل في العالم، لانها عندما تخير الناخب بين الارنب والغزال، تفرض عليه الارنب في نهاية المطاف، مهما كان خياره.
ان هذه الطريقة، سيفوز بها المرشح برصيده الشخصي مشفوعا برصيد القائمة او الحزب الذي رشحه، وبذلك سيكون ذا شخصية قوية تحت قبة البرلمان، ينحاز الى مصالح الناخب اذا ما تعارضت احيانا مع مصالح قائمته او حزبه، اما اذا فاز الناخب برصيد القائمة فقط، فسيظل متبوعا لها لا يقدر على مخالفة قرارها مهما تعارض او تناقض مع مصالح الناخب.
ان الكثير من الناخبين، بل جلهم، يودون لو يدلون باصواتهم الى مرشحهم المفضل، وليس الى قائمة ما، او حزب ما، فلماذا يسلب الناخب مثل هذا الحق؟ وهذا ما حصل في الانتخابات المحلية السابقة، لعدد من المرشحين، كما هو الحال بالنسبة الى الاسم الاول في قائمة ائتلاف دولة القانون في العاصمة بغداد، والذي حصد من الاصوات ما لم تحصده القائمة برمتها في كل المحافظات، او كما حصل في كربلاء المقدسة، وغيرها من المحافظات.
ان ذلك مصدر قوة للبرلمان، فسيتربع على مقعده وتحت قبته اعضاء فائزون بثقة الناخب لرصيدهم الشخصي، ما يزيد من فرص البرلمان لتحسين ادائه في التشريع والرقابة والمحاسبة.
رابعا: وان يمنحه، القانون، القدرة على التعرف على المرشح الذي ينوي منحه ثقته، ليختاره عن معرفة وتشخيص ووعي وادراك، ولا يكون ذلك الا بما اسلفنا للتو.
خامسا: ان يمنح مجلس النواب الجديد، القدرة اللازمة لممارسة مهامه في الرقابة والمحاسبة.
ان الاحزاب السياسية الحالية غير مؤهلة لقيادة او التبشير بالمشروع الوطني، لانها احزاب اما قومية او مذهبية، ولا اقول طائفية، فليس بالضرورة كل مذهبي هو طائفي، وبقراءة متانية ومحايدة للخارطة الحزبية، تتضح لنا هذه الحقيقة بشكل واضح.
مثلا، على صعيد الساحة الشيعية، فان المجلس الاعلى بمسمياته وحزب الدعوة الاسلامية بمسمياته وحزب الفضيلة الاسلامي، تاسست على اسس (مذهبية) ولذلك لا تجد في صفوفها عنصرا غير شيعيا ابدا، بل لا تجد في صفوفها من لا يقلد المرجع الديني الذي يهتدي الحزب بهداه وتوجهاته (الفقهية) على الاقل، ولقد نقل لي احد المواطنين العراقيين ان طلبه بالتعيين، كسائق، في احدى دوائر المجلس الاعلى رفض، عندما اجاب على سؤال في قسيمة التعيين عن المرجع الديني الذي يقلده، فتبين انه ليس من المراجع المدرجة اسماءهم في اللائحة.
ولذلك، يرى كثيرون، ان هذه الاحزاب فشلت حتى في ضمان حقوق الشرائح (المذهبية) التي تقول بانها تمثلهم، لانها فشلت في تمثيلهم اساسا، كما فشلت في استيعابهم، عندما قولبت نفسها بـ (مرجعية) محددة، او اسرة معينة، وهذا ما ينطبق على جميع الاحزاب السياسية العراقية تقريبا، وما تجربة الاحزاب الكردية اليوم عنا ببعيد.
وبالمناسبة، فلقد تذكرت للتو قصة ظريفة حصلت لاحد المواطنين، عندما اراد ان يتعين في وظيفة في الدولة، فقيل له ان عليك ان تجتاز امتحانا في شتى المواضيع ومنها الدينية، فلجا صاحبنا الى صديق له متخصص في قضايا الدين ليتعلم (الدين) على يديه.
بعد ايام من الدراسة والجد والاجتهاد، ذهب صاحبنا الى الامتحان، فكان اول سؤال ساله المسؤول عن الامتحان، هو ؛ كم عدد ركعات صلاة الفجر؟ فاجاب صاحبنا؛ اربع ركعات، فرد عليه المشرف، الجواب خطا، وانت سقطت في الامتحان، اذهب، مع السلامة.
خرج صاحبنا وكان بانتظاره على احر من الجمر، خارج قاعة الامتحان، صديقه الذي تعلم على يديه (الدين) فبادره بالسؤال؛ ابشر، هل اجبت على كل الاسئلة؟ هل نجحت؟ هل ستباشر العمل في الدائرة؟ فرد عليه، لا لم اجب على اي سؤال فقد اخطات في الاجابة على السؤال الاول، فطردت.
ساله صديقه، وما هو السؤال الاول الذي لم تستطع الاجابة عليه؟ قال، لقد سالني عن عدد ركعات صلاة الفجر، فاجبته اربعة، فلم يقبل مني فطردني، فرد عليه صديقه، الم اعلمك ان عدد ركعات صلاة الفجر اثنتان؟ فلماذا اخطات في الاجابة؟ فرد عليه صاحبنا بقوله، لقد اجبته اربعة فلم يقبل مني، فكيف تريده ان يقبل مني اذا كنت قد اجبته اثنتان؟ ظنا منه ان السائل قد يقبل منه الجواب اذا زاد في العدد.
اما على صعيد الساحة السنية، فان الحزب الاسلامي هو الاخر تاسس على اسس (مذهبية) ولذلك لم ينتم اليه شيعيا واحدا، ما يعني بعبارة اخرى، ان هذه الاحزاب ليست دينية (اسلامية) بالمعنى الاعم والاشمل والادق للكلمة، وانما هي (مذهبية) بامتياز، والا فلو كانت (دينية) كما هي اسماءها لقبلت ان ينتمي اليها كل (اسلامي) عراقي، اليس كذلك؟.
على صعيد الساحات الكردية والتركمانية والكلدوآشورية، فان الاحزاب، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني والجبهة التركمانية والاتحاد الاسلامي لتركمان العراق والحركة الديمقراطية الاشورية، وغيرها، كلها احزاب تاسست على اسس قومية بحتة، ولذلك لم تجد في الاحزاب الكردية اي منتم تركماني، كما لم تجد في الاحزاب التركمانية اي عنصر عربي، وهكذا في الاحزاب الاشورية، لم تجد مسلما او كرديا في صفوفها.
طبعا هذا لا يعني اننا نريد هنا ان ننتقص من هذه الاحزاب ومن مكانتها في الساحة العراقية وفي تاريخ العراق الحديث، وفي دورها في مقارعة الديكتاتورية والاستبداد، ابدا، انما اردت ان اقول فقط ان كل هذه الاحزاب هي (مؤدلجة) في اطار ديني مذهبي او قومي، وهذا من حقها، وهي حرة في طريقة تفكيرها واختيارها لشروط الانتماء، الا ان ذلك مؤشر على عجزها في ان تحتضن المشروع الوطني العام.
نعم، هناك بعض الاحزاب العراقية، التي لا تشترط الانتماء الديني او القومي في صفوفها، كالحزب الشيوعي مثلا، الا انه لم يعد يمتلك في الساحة العراقية رصيدا يذكر ليحمل لواء المشروع الوطني، ربما لانه فشل في تطوير خطابه بما ينسجم والمرحلة الجديدة، خاصة وان العديد من مخلفاته المهترئة لازالت تستعدي الدين وكل ما يرتبط به، ما يعتبره العراقيون تعديا على ثوابتهم واخلاقهم ومقدساتهم، ولذلك لم يحقق الحزب نتيجة تذكر في انتخابات المحافظات الاخيرة.
وللانصاف، فان هناك شخصيات من بين صفوف هذه الاحزاب، تتمتع بشخصية مستقلة لدرجة كبيرة، تحاول ان تتميز في صفوف حزبها لتساهم في رسم معالم المشروع الوطني، الا انها ستبقى عاجزة عن ذلك ما لم تدعم من الشارع العراقي، وتؤيد من قبل الناخب العراقي، والاخير لا يمكن ان يقدم لها الدعم المطلوب اذا لم يتغير قانون الانتخابات، ما يسمح له بتشخيص مثل هذه العناصر.
من كل ذلك يمكن ان نستنتج ان الاحزاب العراقية الحالية، لا تستطيع ان تحمل لواء المشروع الوطني باي حال من الاحوال، لانها لا تجد نفسها في مثل هذا المشروع، بل انها وجدت، وتجد، نفسها في الاطر (المذهبية) او (القومية) وهي عندما تدرج بعض الاسماء غير المتجانسة مع نسيجها الحزبي في قائمة ما، فانما ذلك من باب اسقاط الواجب او سد الذرائع او (عن الحرام والحلال) كما يقولون.
يبقى المواطن العراقي وحده هو القادر على ان يفرض المشروع الوطني بارادته، ولا يمكنه ذلك الا من خلال صندوق الاقتراع، شريطة ان تكون الخيارات مفتوحة امامه، ومتعددة، ولذلك فانا ضد نظام القائمة المغلقة جملة وتفصيلا، كما انني ضد نظام اعتبار العراق دائرة واحدة، كما انني ضد نظام القوائم الانتخابية الواسعة والعريضة، لانها تحدد من خيارات الناخب وتقلص خياراته، ما يعيق سعيه لرسم معالم المشروع الوطني، كما ان هذه الطريقة ستضطر الناجح الى ان يربط مصيره بالفاشل، بحجة المصلحة العليا وما شابهها من العناوين والشعارات المخادعة، وهو، والناخب، في غنى عن كل ذلك.
ان جوهر الديمقراطية، هو ان يمنح قانون الانتخابات كل الفرقاء القدرة على التنافس خارج قبة البرلمان، في مرحلة ما قبل الانتخابات، ثم بعد ذلك، لكل منهم الحق في ان يتحالف مع من يريد تحت قبة البرلمان، لتشكيل الحكومة او لتشكيل جبهة المعارضة البرلمانية، ولقد كان الدستور العراقي دقيقا في تحديد المؤهل لتسميته من قبل رئيس الجمهورية لتشكيل الحكومة، فلقد قال في اولا، من المادة (76) ما نصه (يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الاكثر عددا، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية).
ان تشكل البرلمان من قوائم معدودة جدا، لا يؤهله للقيام بمهام الرقابة، بل ستعود طريقة (شيخ العشيرة) تحكم عمله من جديد، كما هو حاله اليوم، لولا ان انشقت القوائم البرلمانية الى كتل عديدة، اذ لولا ذلك لما شهدنا، مثلا، عملية استجواب وزير التجارة، فلو بقي حزب الفضيلة في صفوف الائتلاف لما تجرا احد عناصره من الالحاح تحت قبة البرلمان لاستجواب الوزير المذكور، بغض النظر عن الدوافع والنوايا.
كما ان الشخص الذي سيترشح من اية قائمة ليشكل الحكومة، سيكون مثقلا جدا بالاتفاقيات المسبقة في صفوف قائمته الانتخابية، وهذا ما يعقد مهمته كثيرا.
ان الحكومة يجب ان تتكشل باقل عدد ممكن من الكتل النيابية، والاحزاب السياسية، لنحافظ على فاعليتها وديناميكيتها، من جانب، ونحافظ على عملية تقاسم الادوار تحت قبة البرلمان، بين كتلة الحكومة وكتلة المعارضة، من جانب آخر، وبذلك سنضمن بناء برلمان قوي قادر على مراقبة الحكومة ومساءلتها، من دون خوف او تردد او صفقات سياسية مشبوهة، كما يحصل اليوم.
أقرأ ايضاً
- القتل الرحيم للشركات النفطية الوطنية
- العراق في المونديال.. الحلم المشروع
- العراق وأزمة الدولة الوطنية