من الظاهر لكل ذي عقل ان من الفوائد التي تعطيها الديمقراطية خاصة في الانظمة الليبرالية في العالم المتطور انها تكون العمل المساعد الاول في الوصول الى نتائج مرضية للجميع عن طريق التمثيل الصحيح لعموم شرائح الشعب او عن طريق الوصول الى نتائج توافقية ترضي الاغلبية قدر المستطاع ..هذا في حالة وجود ديمقراطية حقيقية او اية نسبة منها ولو كانت على هامشها وفي حالة وجود تمثيل سياسي صحيح ...وفي حالة وجود بلد مثل العراق تعرض للكبت السياسي آلاف السنين منذ فجر الحضارات وحتى آخر نظام ديكتاتوري فاشستي فيه... وتعرض للاحباط الحضاري مرات عديدة ولم ياخذ دوره الحقيقي سواء أكان ذلك من تلقاء ذاته او لظروف خارجية قاهرة ..وفي وقت خطا غيره ممن لا يمتلك حتى جزءا يسيرا من ارشيفه القومي العملاق الذي يشكل لوحده اكبر علامة فارقة في التاريخ ..اقول في هكذا بلد وبعد ان عاش رغما عنه في اسوأ مجال يمكن ان يعيشه اي شعب آخر في العالم كان الاستبداد البصمة الاكثر وضوحا في مسيرته التي عمدت بدماء ابنائه واشلاء ضحاياه وحين اتت الديمقراطية من عليائها وهبطت على هذا الشعب من سماواتها وبعد ان كانت لا تاتي حتى في أحلام اليقظة وان اتت على خجل فهي مجرد اضغاث احلام وعندما عبرت القارات و\"جاءت\" الينا وصارت بمتناول الايدي لم تكن بالشكل الحضاري المتعارف عليه بل كانت بالشكل الذي اساء الى العمق الحضاري للبلد والى مجمل العملية السياسية التي يفترض انها اقيمت على الاسس الديمقراطية الصحيحة ..
وقد تابعنا وتابع العالم \"الجر والعر\" لاغلب الكتل السياسية اضافة الى من يمثلها في الشارع بخصوص انتخابات مجالس الانتخابات التي تحولت الى مضمار للاستعداء وتخوين الاطراف الاخرى والاحتراب حسب المصالح الفئوية الضيقة على حساب المصلحة العليا للشعب فكان تجسيدا للمبدأ القائل \"كل حزب بما لدهم فرحون \" و\"كل يجر النار الى قرصته\" وكل يتصرف بحسب \"رؤيته\" الخاصة وليس بمقتضى الرؤية الوطنية ونتيجة للسباقات الماراثونية التي انتهت بتوقيع ذلك القانون الذي اعتبر \"نصرا\" وطنيا على غرار الانتصارات \"الباهرة\" التي كنا نسمع بها ايام زمان وكأن الحد الادنى من التوافق السياسي او البرلماني او الشعبي وايضا الوصول ايضا الى حد ادنى من الاجماع حول قانون ــ قانون مجالس المحافظات انموذجا ــ يعد انتصارا \"تاريخيا\" لهذا الشعب المظلوم وان كان البعض قد انتشى بحلاوة هذا النصر فإن البعض الاخر مازال يلعق مرارة الخيبة ...
وعلى هذا المنوال وفي نفس المضمار تاتي القضية الاكثر اهمية وخطورة وهي الاتفاقية الامنية المفترض توقيعها بين العراق والولايات المتحدة الاميركية لتدخل الحلبة الماراثونية ذاتها دون التوصل الى نتيجة مرضية معقولة وبالتعكز على الهوس الشعاراتي والمزايدة على الثوابت الوطنية التي تمس السيادة والاستقلال والاطار القانوني لتواجد القوات المحتلة في العراق الذي مازال خاضعا تحت وصاية البند السابع للقرار الاممي الذي اعتبر العراق بلدا معتديا وعليه تقع كافة الالتزامات القانونية التي يفرضها عليه المجتمع الدولي وذلك ابان المغامرة الصدامية في غزوه للكويت..وليس هنالك من مفر امام العراقيين فالاتفاقية الامنية امامكم والبند السابع من ورائكم فاما الرجوع الى الوراء وتحمل عواقب ذلك واما التقدم نحو الامام بخطى مدروسة مئة في المئة مع الاخذ بنظر الاعتبار ان العراق بلد محتل بموجب قرار من الامم المتحدة ولابد من مخرج قانوني يسهل عملية التحرر بالاساليب العقلانية وعن طريق الحوار واتخاذ موقف وطني ان كان غير موحد وفي بعض الاحيان غير منطقي فعليه ان يكون متماسكا في ادنى حد من الموقف المطلوب ...اما المواقف غير المدروسة او المواقف المرتجلة او المواقف القاطعة قطعا تاما برفضها او قبولها او المواقف التي تعبر عن رؤية سياسية غير ناضجة فهذا مرفوض تماما ولا يتناسب مع خطورة القضية او المسؤولية التاريخية والمصيرية المناطة بها ... وهناك مواقف تعبر عن مصالحها الخاصة او تعبر عن مراوغة او مجاملة او مداهنة او مساسية او مجاراة او \"رغبة\" خاصة اكثر مما تحمل من توجه نحو ارساء موقف مسؤول تجاه دولة \"عظمى\" محتلة لدولة اخرى من دول العالم الثالث \"على قد حالها\" والدولة المحتلة لديها الكثير من الذرائع التي تتحجج بها لتجعلها باقية في هذا البلد الى اجل غير مسمىً اقلها الوضع الامني واقصاها او اكثرها براغماتية هو الثمن الذي يجب ان يدفعه العراق من \"جيبه\" ومن حاضره ومستقبله ومن ارواح ابنائه للمحتل الذي جاء من اقصى الدنيا \"محررا\" الشعب العراقي من النظام الديكتاتوري الوحشي الذي كان في يوم ما احد نتاج المطابخ السرية لاولئك \"المحررين\" وكان احد ابشع خطيئاتهم واخطائهم في المنطقة ...
ان الذي رفض توقيع المعاهدة رفضا تاما وحرمها تحريما قاطعا لم يضع البديل المناسب لها سوى المطالبة بطرد المحتل او وضع جولة لانسحابه والمسألة لاتؤخذ على عواهنها بهذه السهولة المفرطة ولا يخرج المحتل بهذه الصورة السلسة او عن طريق الكفاح المسلح غير المتكافئ تماما او ماشابه ويجب ـ كما اسلفناـ النظر بواقعية الى الاحداث على الارض وليس عن طريق التنظيرات الحماسية او الاندفاع الوطني الذي قد يحيل العراق بين ليلة وضحاها الى رماد وتكون النتائج اقسى واخطر بكثير مما هي عليه الان .. وهناك من يرى ان المصلحة تقتضي بتوقيعها باعتبارها الحل الافضل البديل عن احتكار البند السابع لمقدرات ومقادير العراق منذ مايقرب العقدين من الزمن واعتبارها كذلك الوجه الاكثر \"قبولا\" من بشاعة الاحتلال ومن وصمة العيش تحت الآلية المباشرة التي يعيش تحت نيرها الشعب العراقي منذ تغيير نيسان 2003 وبمعنى آخر ان هذه الاتفاقية هي تنظيم مقنن واصولي للاحتلال وليس تبريرا عشوائيا لوجوده وصولا الى صيغة قد تفضي الى جلائه في اخر المطاف عن صدر الوطن ..وهناك مواقف متباينة بين واقع الحال وبين ما يفترض ان يكون كمحاولة منها ان تمزج مابين هذين الامرين وكلاهما مر وذلك من خلال التفاوض التي اتخذ الصيغة الماراثونية للوصول الى النتيجة التي تحقق آمال الجميع، وقد كان المفاوض العراقي حائرا بين مطرقة الاملاءات الاميركية وبين السندان الشعبي متعدد الالوان والاتجاهات والمصالح والرؤى فلم يتسن الوصول الى رؤية وطنية موحدة وفق الصيغة الديمقراطية التي اسيء فهمها وتطبيقها في احايين كثيرة .. هذه الديمقراطية التي اتاح هامشها \"الهش\" الفرصة للبعض للمتاجرة بالثوابت الوطنية والتعكز على المفاهيم الثورية التي اكل الدهر عليها وشرب وصارت تحت هامش التاريخ ...ولو كان الموقف السياسي اكثر نضجا وتوحدا وانسجاما ـ في رأينا ـ لما كان الوقف الامريكي اكثر تصلبا ولكان اكثر مرونة وأقل استعلاء وتمريرا لـ\"ثوابته\" ومصالحه ورؤاه التي تنبع من مصالحه القومية العليا ومن رؤيته الاستعمارية كونه لم يات محررا للعراقيين \"على سواد عيونهم\"..
ومن هنا جاءت الاشارات التي تنم عن تهديد مبطن تارة وتهديد صريح تارة اخرى حيال رفض العراقيين التوقيع على هذه الاتفاقية التي يأمل منها المحتل ان تكون \"الثمرة\" التي حان قطافها من غزوه لهذا البلد ..البعض يدعي \"توحد\" مواقف العراقيين تجاه الاتفاقية والبعض يعتبر ان الجانب الامريكي قد سلم الراية واعلن هزيمته النكراء امام دهاء وحنكة المفاوض العراقي والبعض اعتبرها غير ماسة بسيادة البلد في حال توقيعها وووو ...والبعض يطالب بتعديل بند كذا منها او الغاء بند كذا وماكان احرى بالبعض الذي طالب بترقيع الاتفاقية حتى تتناسب مع المطالب الوطنية و\"ثوابتها\" ومصالحها ..ماكان احراه بان يطالب بترقيع العملية السياسية قبل التوقيع على الاتفاقية الامنية التي نظر الكثير منهم من زاويته الخاصة وليس من المنظار الوطني كما يدعون ...
أقرأ ايضاً
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- مواجهة الخطر قبل وصوله
- مستقبل البترول في ظل الظروف الراهنة