- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
شهر محرم نقطة الشروع إلى التحرر - الجزء الاول
بقلم: حسن كاظم الفتال
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)
الحج (32)
نافلة البدء
أوشكت المدرسة العاشورائية أن تشرع أبوابها على مصاريعها.
لتستقبل من يتوق حقا وفعلا وبكل صدق وإخلاص الانتماء إليها للتزود منها بمعالي الشرف والمجد والفخار وجاء في الحديث: إن (الله يحب معالي الامور وأشرفها، ويكره سفسافها).
صاحب هذه المدرسة العظيمة سائر برحلته لعله الآن بين الكوفة وكربلاء المقدسة أو على مشارف كربلاء يتقدم ركبَه المقدس وهجُ منهاج المدرسة العظيمة، وهل أجلُ وأنبلُ وأسمى شرف وعزة وجلالة من شرف الانتماء الى هذه المدرسة ؟
وهي مدرسة إصلاحية إنسانية ثقافية عقائدية أرسى قواعدها منقذ الإنسانية المبعوث رحمة للعالمين محمد رسول الله صلى الله عليه وآله ووضع ركائزها صنوه وعضدُه وخليفته من بعده علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
وثبت هذه الركائز ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله سيدُ شباب أهل الجنة الامام الحسين صلوات الله عليه
وحين نقرر بكل صدق وإخلاص وبرغبة جامحة الدخول إلى هذه المدرسة واتباع منهجَها يتحتم علينا أن نحسن التعاطي مع جوهر مضامين منهجها الاصلاحي ونتفاعلَ غاية التفاعل مع الصيغ العاشورائية الحقة ونعلن النصرةَ الحقيقية للمنهج الحسيني ولابد من تقديم البرهان على ذلك.
ولعل أبرز برهان ومصداق وبثبات ممارسة الشعائر الحسينية بشكلها وصيغها الصحيحة وما أرادها وأقرها وأكد عليها أهل البيت صلوات الله عليهم وحتى حين نسعى لإبراز الجانب العاطفي والمأساوي لا باس بذلك وبيان عِظَم المصيبة ومظلومية الامام الحسين صلوات الله عليه إنما بالصيغ الصحيحة وعلى أن نحسبها ظاهرة من الظواهر الحسينية الدينية .إنما بما ينسجم مع المدرسة العاشورائية الاصلاحية الأدبية الثقافية التي تستنير بها العقول والضمائر وتصدق كل الصدق حين تهتف برفيع الصوت لبيك يا حسين.
تمهيد
عند بداية كل عام هجري تصطف ومضات التاريخ ومناراته وقراطيسه ومكونات دواته ومشعشعات قيوده لتستقبل أشرف وأجل وأقدس شهر من الأشهر الحرم، ألا وهو شهر محرم الحرام.
وليس كثيرا على التاريخ أن تنحني كل قوائمه ومقوماته لمن صنع في هذا الشهر أعظم ملحمة تأريخية صنعها الأباة ليظل التأريخ يفخر بتدوينها وإدراجها بسجل بالمآثر الحافل والزاخر بالمفاخر وبالزهو والعنفوان الحسيني.
لقد دارت في هذا الشهر أعظم منازلة بين جوهر الحق ومكوناته وعظم كيانه وبين الباطل وخسته وارتكبت بذلك أعظم جريمة ارتكبتها بنو أمية بقتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله.
وكما يعرف البعض أن كل الأئمة الأطهار عليهم السلام تحدثوا عن هذا الشهر وكرسوا على استذكار واقعته ولا يغيب عن أحد قول الإمام الرضا عليه السلام المشهور: إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون القتال فيه فاستحلت فيه دماؤنا وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا واضرمت النيران في مضاربنا وانتهب ما فيها من ثقلنا. ولم تدع لرسول الله صلى الله عليه وآله حرمة فيه.
لعل الأمر سيكون طبيعيا حين يحظى هذا الشهر باستعداد بالغ الأهمية من قبل الناس لاستقباله وبشكل يختلف عن ما تحظى به بقية الشهور من استعدادات ولهم الحق في ذلك. إذ أنه كان مركز الشروع إلى ميدان استقلالية الإنسان وتحرره من هيمنة كادت تمسخ إنسانيته وتحوله إلى آلة تحركه أيدي المستعبدين كيف ما تشاء.
وبما أن هذا الشهر يرتبط ارتباطا مباشرا بحياة وجهاد أهل البيت عليهم السلام فلا غرابة في أن يكون أوانا لإختبار أتباعهم ويمحصون به ليبرزوا من خلاله أمارات إنتمائهم لمنهجية ذلك الجهاد. ويباركوا التحول الذي أنشأه في حياة الأجيال. وهو نقطة إنطلاق الثورة الإنسانية داخل النفوس ضد كل باطل وبغي وطغيان.
إذ أن في هذا الشهر تفوح نفحات الرحمة الإلهية وتتجلى صور العدل المشرقة والمساواة والتضحية والفداء والإباء والدفاع عن شرف الإنسان وحريته وجلالة قدره وكرامته. فالثورة الحسينية العظيمة استنطقت الضمائر قبل الألسن ونازعت السبات وتحدته قبل مريديه وأبعدته عن الألباب.
في مثل هذا الشهر وقف أعز وأجل وأكرم خليفة من خلفاء الله في الأرض بعد جده وأبيه وأخيه. ورسم صورا تشاهدها الأجيال الواعية بالعقول المتفتحة وبعيون البصائر وتتفاعل مع إشعاعاتها المباركة لأنها تنسجم تمام الإنسجام مع فطرة الإنسان التي فطرها الله تعالى عليها عكس ما طرح ويطرح من نظريات تتعارض وتتصادم مع سلامة الفطرة ونقائها. وقف عليه السلام ليمثل جبل المبادئ والقيم السامية والمثل العليا.
جبل أشم لا تزعزعه عواصف الطغيان والبطش والأرهاب وبلَّغ ورسخ مفهوم رسالة جده دون أن يخشى في الله لومة لائم ودون خشية أو خوف أو أي شكل من أشكال الميل عن طريق الحق لينطبق عليه قول الله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) ـ الأحزاب/ 39
فيض التسامح الحسيني
اعتادت الشعوب والمجتمعات على أن لا تفلت أية فرصة منها دون أن تغتنمها أفضل اغتنام لا لشيء إلا لتستلهم منها الدروس وتعيد ما فاتها منها وتعلن أنها ما زالت مرتبطة بموروثها الحضاري عقائديا أو تأريخيا كان أو إنسانيا بحتا. وإن الإعتداد والإعتزاز بالموروث بكل ما يحتوي ويتضمن دليل واضح على التمسك التام بالهوية التي تميز كل مجتمع عن سواه.
هذا الهاجس هو الذي دفع الأجيال إلى أن تكرس جل اهتمامها على اكتساب العبرة والعظة وتستلهم أبلغ الدروس وأعظم العبر في التضحية والفداء والإباء والعفو والتسامح وغير ذلك. إذ أن كل موقف من المواقف التي وقف فيها سيد الشهداء عليه السلام هو منهج يستلهم منه دروس في التعامل الإنساني والأخلاقي.
ومسيرته عليه السلام حافلة بالمواقف الإنسانية التي لو قسمت على أهل الأرض لَسادَ الوئام والحب وعم السلام ولما عرفت المجتمعات غير التسامح والتحابب. ولو أردنا أن نتجاوز كل المواقف ونتوقف في محطة وادي (ذي حسم) ذلك الوادي الذي التقى فيه الحسين عليه السلام بجيش الحر الذي جهزه ابن زياد لقتال الحسين عليه السلام لأخذنا من مدلولات التسامح إضاءات من ذلك الإشعاع المنبعث من روح سيد الشهداء عليه السلام الطاهرة بومضات لا تعد ولا تحصى.
يتوقف جيش الحر وهم في أسوأ حالة قد أنهكهم العطش مما أصبح ذلك عاملا من أهم عوامل القضاء عليهم من قبل الإمام الحسين عليه السلام. إنما لم يستخدم الإمام عليه السلام تلك العناصر بل تصرف تماما عكس ما كان يمكن أن يتصرفه أعداؤه ووقف بنفسه يسقى جيشا عرمرما جاء ليقاتله ويقتله أو ليأسره ويأخذه مأسورا إلى ابن زياد لكن طهارة روحه ونقاوة نفسه الزكية عكست الصورة الحقيقية الحية لشخصه الشريف حيث وقف ليسقي العطشى بنفسه.
وليس أبرز شاهد من شهادة على بن الطعان المحاربي الذي روى روايته بنفسه وأخبر كيف أن الحسين عليه السلام سقاه بنفسه إذ يقول: كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين عليه السلام ما بي وبفرسي من العطش قال: أنخ الراوية ـ والراوية عندي السقاء، ثم قال: يا ابن أخي أنخ الجمل فأنخته فقال: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين عليه السلام: أخنث السقاء ـ أي أعطفه ـ فلم أدر كيف أفعل، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي.
وليس بعيدا أن يكون هذا الموقف من أهم أسباب عودة الحر إلى جادة الصواب. حتى وإن لم يعلن الحر توبته ونيته في الحال إنما من المحتم إنه من أهم الأسباب. ومن البداهة أن يكون موقف الحر دعوة لأن يجعل كل منا من نفسه حرا ويتحرر من كل أهوائه ويحارب كل النزوات ويتغلب عليها وينتمي إلى صف الحق والثبات وتكون توبته توبة نصوحة حيث أن الحر حين أعلن أمام الإمام الحسين عليه السلام توبته ذهب إلى ربه وهو خالٍ من أية سيئة أو خطيئة بل مضى نقيا منزها من كل ذنب أو معصية.
عاشوراء وكربلاء
ثمة نصوص أو شعارات أو أقوال مأثورة ينسب بعضها إلى الأولياء الصالحين يمكن أن تنتهج مضامينها المجتمعات لكنها تحجم عن ذلك ولا تتعامل معها تطبيقيا إما بسبب ما تفرضه المرحلة إما عدم وجود دليل يوثق صحتها ويؤكد مصداقيتها.
وكم أهمل الناس أحاديثا ومقولات يعتقد أنها موضوعة لا تستند إلى متن رصين عكس ذلك كم حدث أن يبني مجتمع معين بناء بحسن ظن على نصوص أو أمثال أو عبارات حكمية تنسب إلى أشخاص هم بعيدون كل البعد عن تلفظها وإتيانها، ورغم ذاك استند إليها المجتمع وتفاعل معها والأسباب كثيرة ولا ابتعد عن الجوهر حين أدرج مقولة تعضد قولي ألا وهي: (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء) إذ أخذت المجتمعات من هذه المقولة منطلقا تنطلق منه لتهذيب النفوس وتكتسب ما يمكن اكتسابه باستذكار عاشوراء وجعله نقطة شروع للتطبيق باتخاذ مفاهيمه ومعطياته وإفرازاته الإنسانية عنصرا من عناصر الذوبان الروحي ومنهجا من مناهج الاستقامة التي يعتصم بها المجتمع الواعي ومن ثم يتخذه صراطا مستقيما لا يحيد عنه.
يوم عاشوراء موعد انطلاق الثورة بقيمها ومعطياتها وجوهر مفاهيمها التي تتناسب معطياتها مع تطلعات كل عصر وتنسجم مع كل التبلورات الفكرية وتطورها في كل مرحلة وتتناسب مع إرادات الشعوب التي تتوق إلى التحرر ويمكن أن تكون دستورا لكل مجتمع يتطلع إلى إشراقات الكرامة لأن جوهر هدف النهضة هو إبلاغ رسالة إنسانية حضارية شاملة مثلما لا تقتصر على حد لا يحدها حد في إمتدادها. وبما أن كربلاء مقدسة فمن يقف على أديمها يستحضر المبادئ والنوايا الحسينية الصادقة وخلوصها ويتفاعل معها تفاعلا حسيا، والسير على أديمها ينتج عند المرء إدراكا خلاصته أن لا يليق بقداستها إلا ما هو مقدس أو ما يمت بصلة للقداسة فيأنف في أن يأتي بغير ذلك.
إذن الإستذكار واستلهام الدرس والتقديس يكوِّن قاعدة (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء) ويوجب التطبيق في الوقت نفسه.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول