- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أضواء على التدوين والكتابة قبل الإسلام
بقلم:م. م. مهدي نعمة علي الجنابي
اختلفت الروايات عن بدء الكتابة وتنوعت، فقد ذكر القلقشندي: " إن أوّل من وضع الخطوط والكتب كلّها آدم: كتبها في طين وطبخه؛ وذلك قبل موته بثلاثمائة سنة، فلما أظلّ الأرض الغرق أصاب كلّ قوم كتابهم. وقيل أخنوخ (إدريس)، وقيل إنها أنزلت على آدم في إحدى وعشرين صحيفة ... ".
وذكر الخطيب البغدادي: "عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن أبيه قال قلت لابن عباس معاشر قريش من أين أخذتم هذا الكتاب العربي قبل أن يبعث محمد (عليه السلام) تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام قال أخذناه من حرب بن أمية قال فممن أخذه حرب قال من عبد الله بن جدعان قال: فممن أخذه ابن جدعان قال من أهل الأنبار قال فممن أخذه أهل الأنبار قال من أهل الحيرة قال فممن أخذه أهل الحيرة قال من طارئ طرأ عليهم من اليمن من كندة قال فممن أخذه ذلك الطارئ قال من الخلنجان بن الوهم كاتب الوحي لهود النبي ". دلّت هذه الروايات عن كيفية تطور وانتقال الكتابة من مكان الى آخر.
ومر التدوين عند العرب بمراحل عديدة فغالبية المجتمع العربي ماعدا اليمن والحجاز معنيا بمعرفة الروابط التاريخية التي تربطها القبائل الاخرى وقد انتقلت التقاليد القبلية من جيل إلى جيل بالمشافهة؛ لان العربي في هذا العصر لم يتعد دور انشاء وهو نوع من الانشاء الشفهي او التعبير الفني الذي يسند فيه الخطيب او المنشد إلى عناصر حسية في الاذهان معتمدا على ذاكرته ثم على تأثير الحاضرين ودونت هذه التقاليد في وقت متأخر ومع هذا فهي المنبع الرئيسي لمعلوماتنا عند العرب قبل الاسلام.
لقد كانت دراسة الشعر العربي القديم من بين المحاولات التي اتخذت لتدوين حوادث التاريخ وهذا لا يعني ان الشاعر كان ينشد شعره ليسجل احداث التاريخ وانما قصائد الشاعر هي عبارة عن مضامين تاريخية لمواضيع عدة ولم تكن تواريخ تبحث عن الحوادث بشكل مفصل ومع ذلك فان الشعر العربي يعد مصدر مهم للعصر الجاهلي والاموي وقد التفت ابن خلدون إلى اهمية الشعر ودوره في احتواء المادة التاريخية بقوله (اعلم ان الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم واخبارهم وحكمهم). واورد ابن هشام طائفة كبيرة من الشعر في كتابه (السيرة) سجلت حوادث في الجاهلية والاسلام برغم اعتراض بعض المؤرخين على صحة جمع الشعر الذي اورده وسجل الطبري في تاريخه وكذلك ابن عبد ربه في (العقد الفريد) والجاحظ في (البيان والتبين) أشعاراً تضمنت حوادث تاريخية مهمة وبسبب قلة المدونات التاريخية عن هذه الفترة الجاهلية فضلا عن عدم اظهارها بذي قيمة تاريخية رغبة في اظهار هؤلاء المؤرخين للإسلام بانه يمثل القيمة التاريخية الاسمى فقد غدا الصحيح من الشعر الجاهلي افضل مصدر عن الجاهلية.
اما أيام العرب فهي لا تقل أهمية عن الشعر كمصدر لتاريخ العرب في تلك المرحلة، والايام عبارة عن قصص يرويها العرب عن غاراتهم وحروبهم قبل الاسلام اذ نقلت تلك القصص من جيل إلى جيل بحيث اصبحت جزءً من تاريخ القبائل الثقافي وجمعت ودونت في القرن الثاني للهجرة، وكان لغموض المعلومات وندرتها عن الماضي العربي الغابر، اثر في اهتمام الرواة بالقصص آنفة الذكر، فجمع هؤلاء هذه القصص ونشروها كجزء من شروح ايضاحات الشعر العربي القديم، رغم ما ظهر من اختلاف في مضمون بين الشعر الذي اورده الشاعر وبين ما تحتويه القصة التي تدور حول يوم من ايام العرب وكان كتاب العقيد الفريد لابن عبد ربه حافلا بمثل هذه الايام وحازت النقوش والكتابات بأهمية واضحة في تدوين تاريخ العرب قبل الاسلام. اما النقوش فتعد وثائق ذات شان بوصفها شاهد ناطق حي.
وعلى الرغم من كون الدراسات المشار اليها كانت من عمل المحدثين وانها مقتصرة بالدرجة الاولى على دراسة الحديث فإنها كانت ذات علاقة وثيقة بالتاريخ بوصف دراسة المتن والاسناد تتعلق من صميم علم الجرح والتعديل، كما اهتموا بالمرويات وعدوا كل نقص فيها بموجب ضعف الحديث.
واختلفت الروايات عن انتقال الكتابة العربية، فقد ذكر البلاذري: "عن عباس بن هشام بن محمّد السائب الكلبي عن أبيه عن جده وعن الشرقي بن القطامي، قال: اجتمع ثلاثة نفر من طي، هم مرار بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة، فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية عَلَى هجاء السريانية، فتعلمه منهم قوم من أهل الأنبار، ثم تعلمه أهل الحيرة من أهل الأنبار، وكان بشر بن عبد الملك خو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي ثمّ السكوني صاحب دومة الجندل يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، وكان نصرانيا فتعلم بشر الخط العربي من أهل الحيرة، ثُمّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن أمية بن عبد شمس، وأبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلمهما الخط فعلمهما الهجاء، ثمّ أراهما الخط، فكتبا، ثم ان بشرا وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلم الخط منهم وفارقهم بشر ومضى إِلَى ديار مضر، فتعلم الخط منه عمرو بن زرارة ابن عدس فسمى عَمْرو الكاتب، ثُمَّ أتى بشر الشام فتعلم الخط منه ناس هناك وتعلم الخط منَ الثلاثة الطائيين أيضا رجل من طابخة كلب فعلمه رجلا من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلم الخط قوما من أهلها ".
وفي رواية اخرى منسوبة لابن الكلبي، تناقض الرواية أعلاه للراوي نفسه ولو كان تناقضا بسيطا، مفادها: ان الخط العربي انتقل من دومة الجندل في شرقي نجد الى مكة، ولاشك ان هذه المعلومات معرضة للشك، الّا انها تدل على ان الناس في العراق في القرن السابع كانوا يعتقدون ان الخط العربي اختراع مصدره بلاد ما بين النهرين، وان اكتشافات علم قراءة الخطوط القديمة طوال الخمسين سنة الماضية تدعو الى دراسة المسألة من زاوية جديدة.
غير أن للدكتور شوقي ضيف رأي مفاده: " ان هذه الروايات لا تتفق ووثائق النقوش التي كشفت في الحجاز ودرسها علماء اللغات السامية، فقد وجدوا نقوشا حجازية وغير حجازية تصور انتقال الخط الارامي الى خط نبطي، ثم انتقال هذا الخط الى الخط العربي والمعروف ان الحيرة قبيل الاسلام كانت نصرانية وكانت تزخر بالثقافة السريانية، كما كانت تكتب بالخط السرياني قلم المسيحيين، في هذه الانحاء، ولا يعقل ان يكونوا هم الذين تطوروا بالخط النبطي، واشتقوا نه الخط العربي؛ لأنه لم يشع في ديارهم؛ ولأنه كان خط الوثنيين في شمالي الحجاز، وقد يكون مرجع هذا الوهم في روايات المؤرخين الاسلاميين ان الخط الكوفي نما وازدهر في الكوفة، فظنوا ان هذه البيئة هي التي ابتكرت الخط العربي، وانه نما وتطور في الكوفة ".
ويعتقد بعض المستشرقين الذين درسوا واقع العرب واحوالهم، ان الخط العربي أخذ عن خطوط اخرى، دونت في وقت غير بعيد عن البعثة النبوية، ويستدلون في رأيهم هذا، انهم لم يعثروا على اثار مدونه بهذا الخط قبل البعثة إلا ما ندر؛ لأنه كان في اطواره الاولى، ومبدأ نموه في بلاد العرب، ويرجحون ان اغلب حروفه مقتبسة من الخط النبطي.
وعليه ان البحث في الموضوع هذا لم يكن وليد اليوم فقد درس كثيرا من قبل المعنيين بهذا المجال وتباينت الآراء واختلفت في تحديد نشأة الكتابة العربية، وكما مر أعلاه، ومن جهتنا فإننا نظن ان الكتابة هي وليدة الحاجة، كما للشعوب لغات وكتابة تميزها من غيرها، فان العرب اهتدوا الى كتابة تميزهم من غيرهم من الشعوب افرزتها الحاجة اليها.
أقرأ ايضاً
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- مواجهة الخطر قبل وصوله