- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
بُني علي.. كي لا تقع في المحتوى الهابط في النشر الألكتروني إليك هذه المعايير - الجزء الثاني
بقلم: نجاح بيعي
للأبناء حق على الآباء, ومن حق الآباء أن يعلموا بأن أبنائهم منهم ومضاف إليهم بالخير وبالشر في هذه الدنيا. وكما ورد عن الإمام زين العابدين (ع) أنه قال :(وأما حقّ ولدك فأن تعلم انّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وإنّك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربه عزّ وجلّ، والمعونة على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه).
وسعيا ً لإحراز الخير ودفع الشر, وأملا ً بالثواب الجزيل, أرجو التوفيق من الله تعالى بإبداء النصيحة الى ولدي (علي) بأمور شتى لله فيها رضا ولولدي له فيها الخير والصلاح في معترك هذه الحياة. فإن (الدين النصيحة) كما ورد عن النبي الأكرم (ص وآله), و(من أكبر التوفيق الأخذ بالنصيحة) كما ورد عن الإمام علي (ع) وهذا ما أرجوه لولدي.
بُني علي.. في عصرنا الراهن ربما لا تجد تقنية أو وسيلة إعلامية معينة, تنقل الحدث أو توصل المعلومة وتعرّف العلوم المتنوعة والمعارف المختلفة, وتتيح بنفس الوقت مساحة واسعة لتبادل الآراء وتلاقح الأفكار والمواقف لأكبر عدد ممكن من البشر, مثل ما تجده في تقنية وسائل التواصل الإجتماعي المتعارفة عليها الآن. فسعة وسرعة وسهولة حصول الفرد عليها وممارسته لتلك الوسائل المتنوعة, ليس فقط أدت الى انتشارها المذهل والمخيف, بل أخذت تحتل الصدارة و(السيادة والغلبة) في المجتمع متجاوزة بقية الوسائل الإعلامية والتعريفية التقليدية. بل تعدت الحدود أكثر فأكثر وانتقلت بالفرد من كونه مُخاطَب (بفتح الطاء) وهو ديدن الوسائل التقليدية على الأغلب, وجعله مُخاطِب (بكسر الطاء) فصار من خلالها هو(الحدث) وهو(البطل) وهو(الموقف) وهو(الرأي) حقا ً كان ذلك أم باطلا ً, فهنا الطامة الكبرى حتى اكتسح (الفرد) بلا حريجة جميع الميادين, وكاد أن يملأ جميع المساحات ويسد جميع الآفاق, لما لهذه الوسائل والمنظومات من (قدرات عجيبة على إقناع الآخرين) كما ترى وتلمس.
ولدي.. (إن مِن نعم الله تعالى وآلائه علينا في العصر الحاضر, هو أن يسّر لنا تسخير بعض القوانين المودعة في المادة لخدمة الفرد والمجتمع الإنساني) ومنها منظومات التواصل الإجتماعي. وهذه النعمة الإلهيّة لا تختلف عن أي نعمة أخرى, فهي تخضع كغيرها لقوانين منها قانون (الشكر والكفر) الإلهي. فالنعمة (نعمة) وكنز إن شكرتها وأحسنت استخدامها, والنعمة تصبح (نقمة) إن كفرت بها وأسأت استخدامها. وهذا المعنى هو ما أشار إليه مولانا ومقتدانا الإمام الحسن المجتبى (ع) في قوله: (النعمة محنة، فإنْ شُكِرتْ كانتْ كنزاً وإنْ كُفِرتْ صارتْ نقمة)(1).
لذلك أوصيك بُني.. حينما تستخدم منظومات التواصل الإجتماعي لنشر أمر ما أو الحصول على معلومة ما, أن تستخدمها بلا إفراط أو تفريط, أي دون تجاوز الحدّ في الزيادة أو النقصان, واعلم أن لكلا الإفراط والتفريط تداعيات شرعية وأخلاقية وقانونية ونفسية وخيمة على مستوى الفرد والمجتمع. وقد أرجع أهل الإختصاص منشأهما الى: الجهل واتباع الهوى والشيطان, الثالوث الذي طبع سيرة أعداء الله تعالى كوسم في التعامل مع نعم الله تعالى في مختلف الأمور الحياتية, وهذا ما أشار إليه الإمام الحسين (ع) إلى هذا المعنى حينما خاطب معاوية لعنه الله قائلاً: (ولقد فضلت حتّى أفرطت، واستأثرت حتّى أجحفت، ومنعت حتّى محلت، وجزت حتّى جاوزت ما بذلت لذي حقٍّ من اسم حقّه بنصيب، حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل)(2).
فبالإفراط والتفريط يكون محور حصول أية معلومة أو أي نشر كان عبر منظومات التواصل الإجتماعي هو(الجهل والهوى والشيطان) وهو ما يُعرف اليوم بـ(المحتوى الهابط) والمنتشر بشكل مُريب الى حد الغثيان. وبه يكون وللأسف إزاحة غطاء قماقم كل الشرور والرذائل والمفاسد والأكاذيب وإطلاقها في الفضاء المجتمعي, من غلو, وتعصب وتشدد, وتسطيح الدين, ومحق الشريعة, وتسقيط العلماء, والإنتقاص من المراجع, وضرب الأخلاق, وتشويه الفضائل, وتمزيق عرى الأسرة, والإخلال بالحياء والآداب العامة, وتفكيك الروابط الإجتماعية, والهزء بالقانون, وطمس هيبة الدولة وووو.. والأمر لا يمكن أن يكون على هذه السعة الهائلة والإنتشار الغامر, لولا وجود إيادي خفية مغرضة في (الداخل والخارج) تُحرك ذلك الكم من (الأدعياء والأشباه والإمّعات) وغيرهم, وتبذل لهم المال وتخلع عليهم الحصانة والرعاية وعدم المسائلة القانونية لأهداف تدميرية مفضوحة.
بُني ما عليك والحال هذا إلا أن تسلك الطريق الوسطي المعتدل, في استخدامك لمنظومات التواصل الاجتماعي، والحرص كل الحرص على عدم الميل نحو أحد طرفي الإفراط والتفريط الخطيرة.
وإليك يا ولدي.. (أهم الضوابط الدينية والأخلاقية للإستعمال الحَسن والنافع لمنظومات النشر الالكتروني) كما بينتها المرجعية الدينية العليا(3):
ـ أولاً : فكِّر بهدوء وتدبر بروية عاقبة ما تريد نشره. ولابد لك وأنت الإنسان الواعي العاقل المتدين أن تفكر وتسأل نفسك قبل نشر ما تريد نشره من رأي أو فكر أو موقف أو صورة أو فيلم أو مقال أو أو .. الأسئلة التالية:
هل هو حق أم باطل؟ هل هو علم أم جهل؟ هل فيه هداية أم ضلالة؟ هل هو صدق ام كذب؟ هل فيه فائدة أو ضرر؟ هل فيه إساءة للفرد أو لمكون أو عشيرة أو مجتمع أو أصحاب طائفة أو أصحاب دين أو أصحاب قومية أو أو..؟ هل سيهدر كرامة إنسان ويُسقطه اجتماعياً عند الآخرين؟ هل سيُشعل فتنة أو كراهية؟ هل يحمل مضامين أخلاقية أم يحمل مضامين غير أخلاقية؟
ثم اعرض بعدها ما تريد نشره يا ولدي على موازين: العقل, والشرع, والأخلاق, والضمير الإنساني. ولا تتعجل بنشر كل ما يجول بخاطرك أو تعجب به, واعلم أن بينك وبين إصابة الحق والفوز بالرضا وبين الإنغماس بالباطل ضغطة (زرّ) فقط بأحد أناملك, وينطلق نشرك عبر الفضاء الألكتروني ليصل الى المئات بل الآلاف بل ربما الى الملايين. لذلك فكّر وتدبر في عاقبة ما تريد نشره جيدا ً, لضمان سلامتك وسلامة مجتمعك وسلامة الآخرين في الدين والدنيا والآخرة. وإلا سيكون نشرك له عواقبه الضارة عليك وعلى الجميع, وستندم وتشتد حسرتك ولات حين مندم, لأن حينها لا يسعك أن تعيد ما تم نشره في ذلك الفضاء وترجعه. وبه يكون نشرك كالرصاصة الطائشة أو القنبلة التي أخطأت الهدف, وأنك كرامٍ لم تفلح في التدقيق والتصويب, وربما تقتل الصديق وتقتل الأخ وتقتل المُحب وتقتل الأهل وربما تقتل امّة. ولذلك ورد عن رسول الله (ص وآله) أنه قال: (اذا هممت بأمر فتدبّر عاقبته فإن يك رشداً فامضهِ، وإن يك غياً فانته عنه) (4).
ـ ثانياً: تثبّت وتبيّن من المعلومة قبل نشرها. وهذه الضابطة تعطيك حصانة تعينك على التقاط المعلومة الدقيقة الصادقة والحصول عليها أو لإعادة نشرها, وأنت تتجول عبر الفضاء الألكتروني المليء بالآراء والمقالات والتحليلات والأخبار, والتي ربما تكون مجهولة المصدر, أو مصدرها وهمي أو بعناوين براقة زائفة, أو من ذوي نوايا سيئة, أو يكون من أناس ضالين وجاهلين وفاسدين, وحينئذ يستلزم الأمر وفق الموازين القرآنية والعُقلائية التروي والتدقيق قبل النشر، لذلك حذرتنا الآية القرآنية: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)(5).
ـ ثالثاً: أن لا يؤدي نشرك الى الإضرار بالآخرين. وهذه الضابطة تجعلك في حصانة عن تتبع (عورات) و(زلاّت) و(سقطات) الآخرين, وتجعلك تترفع عن مَن همّه نشر أسرار الغير الخاصة والتي تكون قطعا ً مشتملة على غيبة مُحرمة أو انتقاص أو نميمة أو كذب أو تلفيق أو تسقيط لشخصية اعتبارية ما, أو لرمزية دينية أو إجتماعية معينة, أو هدر لكرامة الآخرين, أو في النشر ما يثير المشاحنة والبغضاء والكراهية والعداء والفتنة بين الناس, خصوصاً إذا اشتمل النشر على فتنة دينية أو مذهبية او قومية خطيرة بأبعادها المجتمعية, أو تفكيك أواصر أسرية واجتماعية وغيرها.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن البعض ربما (يغلف) ما يرتكبه من إفتراء وتدليس على من يخالفه, في الفكر والعقيدة بغلاف ديني في نشره الألكتروني, بزعم أن بعض روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) رخصت له فيذلك, في معرض الرد على أهل البدع في الدين لتسقيطهم اجتماعياً حتى لا يؤثر كلامهم في الناس، كما في قضية البهتان بعبارة (باهتوهم) الورادة في نص حديث رسول الله (ص وآله) الذي يرويه الإمام الصادق (ع) وهو: (إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطغوا في الفساد في الإسلام..)(6), وهذا الأمر ليس صحيحاً والصواب هو أن المقصود بقول المعصوم (ع) بـ(باهتوهم) هو مقابلة أهل البدع في الدين والضلالة بأدلة واضحة تصيبهم بـ(البهت) و(التحيّر) كما ورد في الحوار بين النبيّ إبراهيم (ع) والنمرود (لعنه الله) قال الله تبارك وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(7). وما ذلك إلا لأن الإفتراء والبهتان ليس من الوسائل المشروعة في المناقشات الفكرية والعقدية, بل لابد فيها من مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل.
والملاحظة المهمة هنا بُنيّ.. هو انه حتى لو كانت بعض (المعلومات) و(الصور الفيديوية) و(الوثائق) و(البيانات) صحيحة, عليك أن تتنبه جيدا ً إن كان في نشرها ما يؤدي الى شيء من تلك المفاسد, فلابد من التوقف عن النشر صوناً للفرد والمجتمع من هذه الأضرار المتعددة التي ذكرناها, فإن (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). فاحرص يا ولدي أن تكون عضواً نافعاً في (مجتمع) التواصل الجتماعي لا عضواً ضاراً مريضاً يعدي بمرضه الآخرين..
ـ رابعاً: إحذر مِن أن تحوّل صفحات التواصل الى صفحات سبّ, وشتم, وبذاءة باللسان, وفحش, ونشر للفساد, ومذام الصفات. واعلم أن (القلم والكتابة) لسان ثانٍ لك هنا، والمسلم الحقيقي من سلم المسلمون من لسانه وقلمه وكتابه ويده.
ـ خامساً: إحذر ظاهرة الإبتزاز الألكتروني.
البعض بُني.. وتحت ستار الحرية وحق إستخدامه للفضاء الألكتروني, يوظّف ذلك وكل همه إشباع نزعاته الشريرة, وأهوائه الشيطانية, وشهواته وغرائزه المحرمة, مما يدفعه ذلك الى اختراق مواقع الآخرين وهتك الخصوصية والقرصنة لما ينشر فيها, بالأخص ما يتعلق بأعراض الناس وخصوصياتهم الإجتماعية, ليستخدمها للإبتزاز والهتك والفضح, ونشرها لغرض تسقيط أولئك الأشخاص أو لابتزازهم مالياً أو أخلاقياً. وبهذا يضطر ممن وقع عليهم الحيف والحرج من عدم مزاولة عمله, أو البقاء في مدينته, أو يُحرِم من زرقه ومنزله وأهله وأرحامه, أو يضطر للهجرة والمغادرة لمكان آخر, أعاذنا الله تعالى وإياكم منهم.
ـ سادساً: إحذر مِن أن تُعطي الذريعة والمسوّغ لاؤلئك الذين يحملون هذه (الدوافع الشيطانية) أن يستغلوا خصوصياتك لنشرها, مما يؤدي الى الاضرار الكبير بك اجتماعياً وأخلاقياً. فعليك وعلى كل مؤمن حريص وكل فرد واع, الحذر كل الحذر من إتاحة الفرصة للسيئين واصحاب الاغراض الشيطانية للنيل منكم وتهديد استقراركم النفسي والأسري والإجتماعي.
ـ وفي الختام..
ـ ألفت نظرك بُني أولاً.. الى أن ما تقدم من كلام هو منقول بـ(تصرف) من خطبة جمعة كربلاء الثانية في 12نيسان 2019م وهي على الرابط التالي:
https://www.alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=435
ـ وأنصحك ثانياً.. بمطالعة ومراجعة خطبة جمعة كربلاء الثانية في 18 كانون الثاني 2019م لأهميتها ولصلتها بالموضوع المتقدم وهي على الرابط التالي:
https://www.alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=422
وآخر دعوانا إن الحمد لله ربّ العالمين
ـــــــــــــ
الهوامش
ـ(1) المصدر: بحار الأنوار ج25 ص113
ـ(2) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص208
ـ(3) خطبة جمعة كربلاء الثانية في 12نيسان 2019م
ـ(4) الكافي ج ٨ ص ١٥٠
ـ(5) الحجرات آية 6
ـ(6) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ج 10 ص 424
ـ(7) البقرة آية 258