- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
ظاهرة الصياح في الممارسات الدينية.. وما يحصل في المراقد المقدسة أنموذجاً
بقلم: علي الراضي الخفاجي
قبل الحديث عن ظاهرة الصياح في الممارسات الدينية، إنْ كانت في العتبات والمراقد المقدسة وهي أنموذج لما يحصل، أو في غيرها من أماكن العبادة والتجمعات الدينية، لابد من التعرف على آراء الفقهاء في مسألة الجهر والإخفات في الصوت؛ لأن الصياح فرعٌ من الجهر ولكنه خروج عن الذوق والمألوف أو المتعارف.
فالمشهور بين فقهائنا وجوب الجهر في القراءة في صلاة الصبح وأوليي المغرب والعشاء، والإخفات في الظهرين والجهر بالبسملة في جميعها، ومن خالف ذلك أفتوا بوجوب إعادته للصلاة.
وتحدث المفسرين منهم في مورد الآية الكريمة:((ولاتجهر بصلاتك ولا تُخافتْ بها وابتغ بين ذلك سبيلاً))الإسراء/110، كالشيخ الطوسي حيث قال في ذيلها:(نهي من الله تعالى عن الجهر العظيم في حال الصلاة، وعن المخافتة الشديدة وأمر بأن يتخذ بين ذلك سبيلاً)، وذكر اختلافهم في الصلاة التي عنى بها تعالى في الآية:((ولا تجهر بصلاتك))فقال بعضهم:لا تجهر بإشاعتها عند من يؤذيك ولا تخافت بها عند من يلتمسها منك، وقال قوم:لا تجهر بدعائك ولا تخافت، ولكن بين ذلك، وقال آخرون: والمراد بالصلاة الدعاء، وقال آخرون غير ذلك) .
فطلب سبحانه وتعالى ابتغاء السبيل بين الجهر والإخفات، ويفسره ما رواه إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال:(الجهر بها رفع الصوت شديداً، والمخافتة ما لم تسمع أذنيك، واقرأ قراءة وسطاً ما بين ذلك) .
ويمكن أن يسري هذا الحكم حتى في غير الصلاة كقراءة الدعاء، استفادة من الآية الكريمة:((واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولاتكن من الغافلين))الأعراف/ 205.
وهذا الاعتدال في استعمال الصوت أسس له النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، كما ورد في أحاديث له كثيرة، منها قوله:(إنَّ الله يحبُّ الصوتَ الخفيض ويبغضُ الصوتَ الرفيع) .
وحكي عنه أنه:(كان يكرهُ رفعَ الصوتِ عند ثلاث:عند الجنازة، وإذا التقى الزحفان، وعند قراءة القرآن).
وهذا تأسيسٌ لآداب في بعض الممارسات التي تستوجب وقاراً واطمئناناً يثبت فيه الجَنان وتستقرُّ معه هيئةُ الإنسان ليكون فيها متدبراً مستعبراً ناضجاً في أفكاره وأفعاله ومواقفه.
وبخلاف ذلك تظهر في ممارسات الإنسان ما يستنكره الذوق العام والعقل السليم والعرف الراجح، ومنها في الممارسات الدينية ظاهرة تكاد تكون شائعة تحصل في التلاوة والدعاء والرثاء، وحتى في أداء مراسيم الزيارة، وفي الصلاة على النبي الأعظم وأهل بيته صلوات الله عليهم، وهي الجهر المفرط في الصوت إلى الحد الذي يخرج به عن الذوق وينفر منه السامعون، وقد يسبب التشويش في عبادات الناس، ويسلبهم الخشوع في صلاتهم ودعائهم، خصوصاً في الأماكن المقدسة، والتجمعات الدينية التي تقام في المناسبات الإسلامية.
وبعدما تحدثنا عن الجهر والإخفات ومستواهما، فما هو الصياح، وهل يعني الجهر، وما هو موقف الشارع المقدس منه؟
إنَّ الصياح في التلاوة والأذكار ظاهرة مخالفة للذوق، فقد يقوم به البعض بتأثير جمعي، فيقلد به الآخرين دون أن يلتفت إلى أضراره، ويكون عرضة لأن يوصف من يقوم به بالرياء، وكذلك لا ينجو من هذا الوصف أصحاب الأصوات كالقراء والمنشدين، فقد تسمع من بعضهم وهو يبرر صياحه من خلال مكبرات الصوت أنه لابد أن يعلو صوت القرآن على جميع الأصوات؛ لأن القرآن يعلو ولا يُعلى عليه معتقداً أنَّ هذا العلو يتمثل في ارتفاع الصوت، غافلاً عن أنَّ علو القرآن ليس في هذا، إنما في محتواه العظيم وهيمنته على كل الأفكار والنظريات والدساتير والشرائع، وهو صامت ينتظر من يستنطقه بعقله وإيمانه، وهو الذي:((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد))فصلت/42.
حتى أنَّ بعض القراء في المحافل القرآنية تذهب أوتارهم الصوتية ضحية هذا الصياح لتكلفهم في الأداء، وركوبهم الموج الصعب لبلوغ أعلى الطبقات الصوتية لنيل إعجاب السامعين، وقد لا يملك البعض تلك المساحة للمباراة كما يمتلكها الآخرون، فيهبطُ مستواه ويقلُّ قدره عند أصحاب الفن، فيقع في معرض نقدهم فضلاً عن العامة من الناس الذين يقارنون ما يسمعون عن تجربة سمعية بسيطة.
ولا يكون الأذان بمنأى عن هذه الظاهرة، ففي هدأة الليل التي ينتظر فيها المسلم صوت المؤذن ليجهر بكلمات تقشعر لها الأبدان، وتدغدغ القلوب قبل الآذان، بخشوع ملائكي يستنهض جوارحه قبل أطرافه، قد يكون سبباً في نفور بعض الناس منه بسبب الصياح المفرط حينما يسيء استعمال مكبرات الصوت إلى الحد الذي يضيع معه الإحساس بما توحيه كلمات الأذان.
ولا نلوم من يبدي محبته أو عدمها لبعض القراء أوالمؤذنين أو قراء الأدعية والرثاء من طريقة أدائهم إلى الحد الذي يصل إلى مقارنتهم بمن يُحسنُ، فهذا أمر طبيعي لا يُخرجُ من ينتقد من دائرة الإيمان، لأنَّ الإنسان بحد ذاته فنان، يُحسنُ الأداء والاستماع، ويُميِّزُ عناصر الجمال فيما يسمع، كما يُحسنُ التعبير عما يعتقد أو يتصور، وبهذا الخصوص أدبنا سبحانه في محكم كتابه بقوله:((واغضض من صوتك))لقمان/19.
وروي عنه صلى الله عليه وآله نهيه عن رفع الصوت في المساجد في معرض ذكره لظواهر نهى عنها:(جنبوا مساجدكم مجانينكم، وصبيانكم، ورفع أصواتكم..) .
وقد أدلى الفقهاء بدلوهم في هذا المقام وعبروا - بذوقهم الفقهي- عن هذه الظاهرة واصفين بعض الممارسات العبادية التي تخالف الوظيفة كالإفراط بالجهر أو التي تخلو من الاستقرار والطمأنينة بالخروج عن الهيأة والصورة المطلوبة في العمل.
وقد يفهم البعض حديثه صلى الله عليه وآله:(ارفعوا أصواتكم بالصلاة عليَّ فإنها تُذهبُ بالنفاق) مبرراً للصياح المفرط دون الاكتراث لما يترتب من ضرر على من يؤدي صلاته أو يتلو القرآن أو يقرأ الدعاء، وفي هذا الحال لابد من الرجوع إلى أنَّ الجهر له مستويات تخضع لطبقات صوتية تدرُّجية لسنا بحاجة إلى أن نستعملها دائماً في التجمعات التي تتعدد أغراضها في العبادات، فكلُّ صوتٍ له مُستقبِلْ، كما أنَّ هناك أحكاماً فقهية تحدد مستوى الصوت لإمام الجماعة أو لمأمومه، ولمن يُكبِّر له وهو داخل الصف أو كان خارجاً عنه، وكلُّ هذه المستويات من الجهر لاتستدعي دائماً الخروج عنها إلى الصياح.
وأما في مسألة السلام والجهر به وهو تحية الإسلام التي لابد أن يجهر بها المسلم قد يخضع للنقد في بعض الموارد إذا خرج عن الذوق، منها أنَّ البعض يدخل المسجد رافعاً صوته بالسلام ومكرراً له تماماً كالطريقة التي يسلم بها وهو يدخل إلى مجلس إجتماعي، نعم هو جائزٌ وليس واجباً، ولا يجب إفشاؤه على المصلين فرداً فرداً، وقد يقيس البعض الأمور بنفس المستوى من رفع الصوت في الأذان، ويؤسس عليه بقية الأداءات أنها يمكن أن تكون بصوت عالٍ غافلاً عن أنَّ الأذان إعلام للمسلمين بوقت الصلاة، وحينئذ لابد للمؤذن من أن يحاول تذكير وإعلام الناس قدر ما يستطيع، ولكن ليس فوق ما أعطاه الله سبحانه من قدرة صوتية.
وفي نهيه عن الجهر بالقراءة الجماعية في المساجد بالشكل الذي يضر المصلي روي أنه صلى الله عليه وآله خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال:(إنَّ المصلي يناجي ربه فلينظر ماذا يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض في القرآن).
ولايغفل المؤمن أنَّ رفع الصوت منافٍ للآداب التي ينبغي رعايتها في مراقد المعصومين عليهم السلام، وأنَّ حرمتهم أمواتاً كحرمتهم أحياءً((ولاتجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض))الحجرات/2.
وعلى العموم لم تبعد ظاهرة الصياح عن دائرة التحليل النفسي، فمن خلال هذه الظاهرة نتعرف على أحوال بعضنا، بل تُعدُّ أحد مقاييس ثقافة الشعوب، فالصوت العالي - في الغالب- يُعدُّ مؤشراً على أنه أثرٌ لردة فعل أو خوف أو قلق، وقد يقوم به البعض لأجل السيادة على الآخرين أو تحقيق انتصار أو تغطية لأخطاء ونواقص فاضحة، وقد يكون دالة على الذعر والجبن في المواقف الصعبة، فقد مرَّ في الحديث الشريف عنه صلى الله عليه وآله في ضمن نواهيه المحمولة على الكراهة:(..وإذا التقى الزحفان).
كما يغلب على الشخصية ذات الصوت العالي بضع صفات، منها أنه ثرثار وعنيد ومتصيد للأخطاء، أو أنه مدعي المعرفة وجدلي، ونحو ذلك.
ولعلَّ سبب انتشار ظاهرة الصياح في العتبات والمراقد المقدسة أنها تستوعب برامج دينية متعددة على مستوى الزائر الفرد وعلى مستوى المجاميع القادمة من داخل العراق وخارجه، وما تقوم به من أعمال عبادية جماعية كقراءة الزيارة وتلاوة القرآن وقراءة الأدعية أو الرثاء أو الإنشاد والذكر وغير ذلك، وهذه الممارسات تتطلب حساً إيمانياً واعياً للمكان والمكين، وما يقتضيه من خشوع ووقار واستذكار، مع رعاية حقوق الآخرين على مختلف أغراضهم التي جاءوا من أجل إقامتها في الروضات المقدسة والمشاهد المشرفة، خصوصاً إذا تزاحمت البرامج في زمن واحد واستعمل معها مكبرات الصوت التي تضيع معها الأغراض والكلمات والمعاني.
أقرأ ايضاً
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً
- مكانة المرأة في التشريع الإسلامي (إرث المرأة أنموذجاً)
- دوري نجوم العراق.. ما له وما عليه