بقلم: ماهر عبد جودة
ما من نشاط مجتمعي مثمر وفعال، في أي قطاع وزاوية، إلا وقد ارتكز، على العقول الخبيرة النيرة، التي ازدانت وارتوت، علما ومعرفة، اكتسبتها في مراحل التعلم المختلفة، وبمساعدة الأهل والمجتمع والمدرسة، باعتبارها بيئة العلم ومختبر بناء الشخصية وتاهلها الكامل للبذل والعطاء.
ولو تسنى لنا الوقت للإطلاع على السياسات الحكومية للعديد من البلدان، التي أسرعت في تطورها في مختلف القطاعات، لوجدنا أنها أعطت قطاع التعليم الأولوية القصوى، واستثمرت فيه من الأموال، ما يفوق استثماراتها في القطاعات الأخرى، باعتباره الفاعل والمؤثر والداعم لكل النشاطات، وهو الوحيد القادر على صقل كل الطاقات وشحذها، يجعلها في ديمومة من الابتكار والاكتشاف والتطور والرقي، وهي لم تصل ذلك المستوى من الانضباط العالي المبدع والخلاق، الا بعد إدراكها حقيقية ودور العملية التعليمية والتربوية، فكان نصيب التعليم الابتدائي وما قبل الابتدائي الشيء الكثير من الاهتمام، وكذا الحال مع المراحل التعليمية الأخرى، اذ أصبحت الجامعات مراكز بحوث علمية رصينة، ومختبرات ضخمة لها قدرة إجراء التجارب الكبرى في الاستنساخ والهندسة الوراثية، وعلم النانو وغيرها.
تتبع واقع التعليم في بلدنا العراق، يكشف لنا انه مطعون في الصميم، وان التعليم الابتدائي هو الأكثر فشلا، منذ أن أخذ العراق ينحدر نحو الدكتاتورية والشمولية، وخوض الحروب العبثية المدمرة، عندما اعتلى البعث الصدامي كرسي الحكم، في نهاية السبعينيات فصاعدا، عندما لم يعد مرتب الأستاذ يرقى إلى تلبية أبسط مقومات العيش بكرامة، وأن السلطة وازلامها صارت تقتحم حرمة الجامعات والمدارس بأنواعها، وتوجه الإهانات للملاكات التعليمية، باساليبها البوليسية ومراقبتها الشديدة لتحركات الجميع والتجسس على آرائهم، وهناك الكثير منهم اضطر لترك المدرسة والدرس، والعمل في مجالات أخرى، بعيدة كل البعد عن الواقع التربوي والعلمي، واصبحت الشهادة ونيلها مجرد عبث لا طائل من ورائه، ويعني الفقر والكفاف وشظف العيش، وبذلك انطفئت آمال الموهوبين والمتميزين والمبدعين في مواصلة البحث والتنقيب ومراكمة الخبرة والتتبع.
مع شديد الأسف إن الحال استمر سيئا للغاية، حتى بعد زوال الدكتاتورية إلى غير رجعة، وانبثاق فجر الديمقراطية، وحرية التعبير وتعدد المنابر، ووصول خدمة الإنترنيت للجميع تقريبا.
هذه المرحلة حساسة للغاية، وهي تتطلب اهتماما مركزا وغير مسبوق، في إصلاح التعليم ليواكب التطور، فلم يعد العراق ذلك البلد الذي تديره طغمة حمقاء، والتي كانت سببا في عزله وسلخه عن العالم، وزرع قيم الطائفية والعشائرية، ومفاهيم التخلف والظلام بين ابنائه.
فالعراق اليوم جزء من العالم، يتأثر بكل ما يجري حوله، وليس هناك أي قيد على تتبع أي علم وأي حدث كبيرا أو صغيرا، من خلال الصحون اللاقطة أو من خلال الجهاز النقال.
وإذا ماتعمقنا في الذي أنجز نجد انفسنا في ذهول وحيره تامة، وإننا أمام فتوح في مختلف العلوم، فالوصول إلى الفضاء واقامة المحطات فيه وارتياد الكواكب، والهندسة الوراثية ودورها في الزراعة وتحسين الثروة الحيوانية، والأسمدة الكيميائية ذات الجزيئات المخلبية الطويلة، التي ترتبط بذرات التربة وتمكث في الأرض طويلا وتديم خصوبتها، بدلا من النماذج القديمة قليلة المكوث وسريعة الاغتسال مع مياه البزل، وفي مجال الخلايا الجزعية والطاقة والميكانيك والعديد العديد، التي لا يتسع المجال والوقت لذكرها.
فهل بعد ما يقرب العقدين، ونحن منفتحون على كل ما يجري ويحدث في العالم، نجحنا في إصلاح قطاع التعليم والتربية، وفكرنا في ذلك مليا، وبدأنا الخطوة الأولى مع التعليم الابتدائي، وحولنا مدارس طلبتنا إلى قلاع علم حصينة، ومختبرات للتأهل والإعداد، واكتشاف المواهب وصقلها وزودناها بكل مستلزمات النجاح من معدات وتكنولوجيا حديثه، واساليب مبتكرة في تذوق الفن والأدب والجمال. ومعسكر للعلم والنبوغ والتفوق، بعيدا عن تاثير المجتمع، وقيمه الفجة الواهية.
اعتقد إن قادتنا منشغلون في التجنيد الإلزامي، أكثر مما يفكرون بمأساة ما نحن عليه من تردي التعليم وتراجعه، والذي سيكون مشكلة حقيقية عندما نقيم مشاريع استثمارية لنهضة صناعية وزراعية كبيرة، ونكون بحاجة إلى مؤهلات علمية وادارية كفوءة، لإدارة تلك المشاريع وتشغيلها، وتطويرها وصيانة معداتها.
أقرأ ايضاً
- التسرب من التعليم
- كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟ (الحلقة 7) التجربة الكوبية
- لماذا أدعو إلى إصلاح التعليم العالي؟ ..اصلاح التعليم العالي الطريق السليم لاصلاح الدولة