بقلم: ولاء قاسم العبادي
من بين أهم الأسباب التي تسبب تعاسة الانسان بل وقد تحيل حياته الى جحيم أحيانا هو فقده لأمر يعتبره غاية في الاهمية وركناً أساسياً من أركان سعادته. فالبعض يشكو فقدانه للصحة، وآخر يشكو فقدانه للذرية، وثالث يشكو فقدانه للمال...وهكذا، فيحزنون ويتذمرون بسبب ماديات افتقدوها يظنون أنها سبيلهم الى السعادة، وقد تكون كذلك أحياناً..
بيد أن السعادة لا تكمن فيما حولنا من ماديات بل هي شعور داخلي يحسه الإنسان يتمثل في سكينة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وراحة الضمير. وهذه لا يمكن أن تتأتى بالأمور المادية بتاتاً؛ ما لم يكن هناك شعور بالسعادة ينبع من داخل الانسان ؛ لأن السعادة هي بما الإنسان عليه من شعور لا بما تحيطه من ظروف. فالسعادة ليست في كثرة المال وإلا لسعد قارون، ولا في رفعة المناصب وإلا لسعد هامان وزير فرعون، ولا في متعة دنيوية زائلة بل السعادة الحقيقية في طاعة الله، والبعد عن معصيته، وراحة الضمير..
و مع ذلك فمن الصحيح أن يسعى الانسان بكل جهده للحصول على ما يشعره بالسعادة سواء كان مالاً أو ذرية أو زوجا* أو بيتاً واسعاً.. وما إلى ذلك فإن كان الله (تعالى) قد قدر الخير فيما يبتغيه منحه له فلا بخل في ساحة المولى (عز وجل)، وإلا منعه منه حرصا عليه. فقد ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك وأن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(1)
فإن بذل كل ما في وسعه وتعسّر عليه أن يجد ضالته ففي هذه الحال لا يجدي نفعا التحسر على ما يفقده مع كل نفس وفي كل حين. وإلا فسيعيش التعاسة بعينها بسبب شيء لم يقدر الله (تعالى) أن يكون من نصيبه يوماً، فقد روي عن الإمام علي (عليه السلام): "ما أعجب هذا الإنسان مسرور بدرك ما لم يكن ليفوته، محزون على فوت ما لم يكن ليدركه، ولو أنه فكر لأبصر، وعلم أنه مدبر، وأن الرزق عليه مقدر، ولاقتصر على ما تيسر ولم يتعرض لما تعسر"(2).
و لعل خير بلسم لجراحات كل فاقد ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو قوله: "السعيد من استهان بالمفقود"(3). وقد يتساءل البعض كيف يمكن أن يحقق مجرد (الاستهانة بالمفقود) السعادة؟
وللجواب على ذلك نقول: إن الاستهانة بالمفقود تعني أن يرضى الانسان بالحال التي هو عليها فلا يتذمر مما يعانيه بسبب فقده لبعض الاشياء..و هذا بحد ذاته يمثل:
أولاً: عبـــادة ؛
لأنه رضا بما قسم الله (تعالى)، والرضا كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "الرضى بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين"(4)، فضلاً عن الثواب العظيم الذي يرصده الله (تعالى) لمن يرضى كما روي عن الامام الصّادق (عليه السلام) أنه قال: "من رضي القضاء، أتى عليه القضاء وهو مأجور. ومن سخط القضاء، أتى عليه القضاء وأحبط الله أجره"(5). وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب الله تعالى يوم فقركم والإفلاس"(6).
وبالإضافة إلى ذلك يكون دعاء الراضي بما قسم الله مستجابا فقد روي عن الإمام الحسن (عليه السلام): "أنا الضامن لمن لا يهجس في قلبه إلا الرضا أن يدعو الله فيستجاب له"(7). بل وإن الرضا سبب لاصطفاء الله لعباده كما روي عنه (صلى الله عليه وآله): "إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه"(8).
لذا كان الرضا بالقضاء مطلبا للأئمة (عليهم السلام) والصالحين فقد ورد في الزيارة الخامسة من زيارات الجامعة: "واجعل الارشاد في عملي،... والرضا بقضائك وقدرك أقصى عزمي ونهايتي وأبعد همي وغايتي، حتى لا أتقي أحداً من خلقك بديني ولا أطلب به غير آخرتي"(9)
ثانياً: راحة نفسية:
فالإنسان الراضي بما قسمه الله (تعالى) له يعيش في راحة نفسية وهدوء لا يمكن أن يصل إليهما من شغل باله بالهم و قلبه بالحزن وصدره بالضيق بسبب ما يفتقده وبالتالي ينعكس ذلك على سلوكه فلا ينفكَّ يتذمر ساخطاً على قدره متشنج السلوك مما يدخله ذلك في سلسلة من المشاكل و الخصومات مع غيره والتي تزيد من وضعه تأزماً وتعقيداً. لذا فقد روي عن الامام الصادق (عليه السلام): "الروح والراحة في الرضا واليقين، والهم والحزن في الشك والسخط"(10). وعنه (عليه السلام): "ارضَ تسترح "(11). وعنه (عليه السلام) أيضاً: "من رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته"(12). وعنه (عليه السلام): "الرضا ينفي الحزن" (13). وعنه (عليه السلام): "نعم الطارد للهم، الرضا بالقضاء"(14). وعنه (عليه السلام): "إن أهنأ الناس عيشا من كان بما قسم الله له راضيا"(15)
ثالثاً: طريق الى السعادة:
فقد أثبت خبراء الطاقة الحيوية اليوم أن الإنسان يبث ذبذبات تشبه ما هو عليه من تفكير ومشاعر وتجذب هذه الطاقة بدورها ما يشابهها من ظروف وأحداث إليه عبر قانون الجذب. وبما أن الذي يعاني من الفقد لا تصدر منه إلا ذبذبات الفقر والسلبية فإنه لا يجذب اليه سوى المزيد من الفقر في الأحداث والسلبية في الظروف.
وبالتالي يعيش في سلسلة من الأحداث المؤلمة والظروف القاسية والتي لا تنتهي إلا بانتهاء تفكيره السلبي وشعوره العالي بالفقد وذلك لايمكن الا من خلال الاستهانة بالمفقود.
وبما إن الاستهانة بالمفقود والقناعة بالموجود غنى في حد ذاته كما روي عن الامام علي (عليه السلام): "من قنع بما قسم الله له فهو من أغنى الناس"(16)، وهي كذلك تبعث من الإنسان طاقة الغنى والإيجابية فإنها بالتالي ستجذب إليه المزيد من الأحداث المفرحة والإيجابية والسعادة بحسب قانون الجذب. وقد ورد في الروايات ما يعاضد هذا المعنى: "إن الله تعالى أوحى إلى داود (عليه السلام): تريد وأريد وإنما يكون ما أريد فإن سلّمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد " (17).
الهوامش
أريج النبوة
(1) عوالي اللآلي ج2 ص29
(2) التحف في مناقب السلف ص 54
(3) غرر الحكم و درر الكلم ج1 ص108
(4) بحار الانوار ج75 ص135
(5) ميزان الحكمة ج4 ص101
(6) بحار الأنوار ج 79 ص 143
(7) مشكاة الأنوار ص 74
(8) بحارالأنوار ج 26 ص 142
(9)المصدر السابق ج4 ص99
(10) ميزان الحكمة ج4 ص100
(11) غرر الحكم ص 104
(12) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد، ج19 ص355
(13) غرر الحكم، ص 31
(14) عيون الحكم والمواعظ ص 494
(15) نفس المصدر السابق ص 143
(16)بحار الانوار ج75 ص158
(17)ميزان الحكمة ج4 ص101