بقلم:صائب خليل
صدمتني نقطة في مقالة وصلتني على أنها "صوت كردي محايد" لشيوعي كردي مخضرم، يبدي رأيه المعارض لتوقيت الاستفتاء، لكنه يلقي باللوم على بغداد لأنها "قطعت رواتب الموظفين" في كردستان! ويبدو أنك لو سألت الناس عن الأمر في كردستان، اعتقد ان الإجابة ستكون واضحة ومتفق عليها بنسبة ربما تقارب الـ 95%: أنها حكومة بغداد، او المالكي بالتحديد! ولو سألت الناس في باقي العراق، فأن غالبية مماثلة من "المثقفين" العلمانيين ستقول بالشيء نفسه، بل لعل إحصاءاً عاما ًسيؤكد بأنها "حكومة بغداد"، لكن البعض يبرر ذلك بما فعله الكرد من إساءات وابتزاز للعراق الخ.
والحقيقة أن بغداد تساهم في نشر هذه الكذبة مثلما تفعل كردستان. فكما أوضحت في مقالة سابقة، ليس من مصلحة بغداد ان يعرف الناس ان كردستان تظلم بغداد، لأنه قد يطالب حكومته برد مناسب. لذلك تترك بغداد كردستان عمداً، لتكذب في اتهاماتها لها وتتصرف وكانها موافقة على تلك التهم. لهذا السبب، ومثل بقية ساسة كردستان بشكل عام، لا يجد مسعود البرزاني أي حرج في تكرار هذه العبارة وبحماس خطابي غاضب ومثير.
.
أما الحقيقة فهي مختلفة تماما: "كردستان هي من قطعت رواتب كردستان" وليس بغداد أو المالكي! وهو أمر موثق ولم يمض عليه سوى بضع سنين، وبالتحديد إلى فترتي تحديد الموازنة للعامين 2012 و2013، وكل موعد موازنة هو "موسم صيد" للابتزاز الكردستاني لبغداد. وقبل ان نناقش ما حدث في تلك الفترتين، علينا ان نراجع قليلا الخط العام للعلاقة بين كردستان وبغداد، والذي تمثله خطة السفير الأمريكي كالبريث، كما شرحها في كتاب له، وملخصها أنه علم الأكراد أن لا يبحثوا عن "الحل" في أية مشكلة لهم مع بغداد، بل عن الصدام، وأعلمهم كما يقول، بأن مثل هذا الصدام إن احسنت ادارته فسوف ينتهي دائما بكسب نقطة لصالحهم، كما كتب في كتابه: "نهاية العراق" وكما جاء في مقال سابق لي بعنوان "- من أين استوحى قادة كردستان السياسة العدوانية مع العراق"
وبشكل العام اتبع قادة ونواب الكرد هذه النصيحة بدقة متناهية (ولم يشذ عنهم إلا القليل جداً، منهم محمود عثمان) مما يوحي بوجود سياسة مركزية باتباعها. وقد حققت هذه السياسة نجاحات باهرة، بمساندة اكيدة من الضغط الأمريكي بمختلف انواعه، إضافة إلى التوجيه. وبلغ حجم هذا النجاح درجة اننا، من قد تنبه للأمر وتابعه وكتب عنه، صرنا في حالة شلل ويأس لوقفه أو حتى تنبيه الناس الى حجمه. لقد خصصت احدى صفحات الفيسبوك لهذا الموضوع بالذات، لكنها أغلقت من قبل إدارة الفيسبوك مؤخراً ولم تعاد. ولكثرة وكثافة الابتزاز وتفاصيله وحجم الإحباط الناتج عن متابعة حقائقه، فرض علينا الاكتفاء بملاحقة آخر مستجداته فقط، وبنقاط محددة، وترك الابتزازات السابقة، ولذلك نأخذ اليوم موضوع "قطع الرواتب" الذي ليس سوى جزء بسيط من أرشيف الابتزاز الكردستاني للعراق.
.
المالكي كان عليه ان يلعب بالأوراق الخطرة بحذر وخاصة أميركا وكردستان. لكن كردستان كانت لا تشبع ولا تكتفي ابدا، وترفق أي تنازل بالضغط من أجل التنازل التالي.
العام هو 2013، وكانت كردستان قد صدت آخر هجوم برلماني على ابتزازها الأول المتمثل بحصة الـ 17% التي تزيد حوالي 50% عن حصتها الحقيقية، إضافة الى ابتزازات الحدود وغيرها. وقبلها كانت كردستان قد ثبتت "حقها" في توقيع العقود واستخراج النفط والتعامل مع بغداد كجهة خارجية، مخالفة للدستور ولكل أصول الحكم في أي بلد كان. وتوصلت إلى اتفاق يفتقد الى المنطق بأن تسلم كردستان لبغداد كمية من النفط مقابل ان تعطي بغداد لكردستان "حصتها" الـ 17%. وكذلك تم تثبيت ابتزاز آخر بعيد تماما عن أي منطق، ان تقوم حكومة بغداد، وبدون ان تسلم كردستان أية وصولات، بتسديد ما سمي بـ "مستحقات الشركات" التي وقعت كردستان معها عقوداً غير معلنة، وبدون مشاركة بغداد او علمها او اطلاعها على العقود، وتلك قصة أخرى كتبنا عنها كثيرا.
.
وبعد تحقيق هذه "الإنجازات" من خلال الاصطدامات باتباع نصيحة كالبريث، كان الاتفاق في ميزانية 2012 أن تقدم كردستان ما لا يقل عن حد أدنى هو 175 ألف برميل في اليوم، على أن يرتفع إلى 250 الف برميل في السنة التالية، أي عام 2013، وأن تحصل كردستان مقابل ذلك على الـ 17% التي تزيد كثيرا عن قيمة النفط الذي تقدمه لبغداد.
لكن كردستان لم تلتزم. وعقدت الحكومة اتفاق ترضية آخر لها في الثلاثة أشهر الأخيرة من العام لتعويض جزء من النقص بأن تقدم كردستان 200 ألف في اليوم. ولم تقدم كردستان شيئا تقريباً! وفي نهاية 2012 لم تكن كردستان قد قدمت من الـ 64 مليون برميل المتفق عليها، سوى 6 ملايين فقط!
ورغم ذلك دفعت الحكومة على أساس الاتفاق حصص كردستان كاملة، ودفعت كذلك من ما يسمى "مستحقات الشركات" دفعتين بلغ مجموعهما مليار و55 مليون دولار، وانتظرت وصولاتها ولكن كردستان لم تقدم أية وصولات عن تلك المبالغ! فأوقف ديوان الرقابة الدفعة الثالثة المقررة.
.
وجاءت لحظة تقرير الميزانية لعام 2013، نبه الأستاذ فؤاد الأمير بضرورة أن يثبت في قانون ميزانية 2013، الحصة التي يجب أن تقدمها كردستان من النفط، وأن يستقطع الفرق من حصتها في الميزانية إن لم تلتزم. وبضغط من الشهرستاني ووزارة النفط، تم ذلك بالفعل، فجن جنون كردستان وإعلامها الذي اخترع لذلك اسم "معاقبة كردستان"! تم التصويت على الميزانية التي تضمنت بأن تقدم كردستان يومياً 250 ألف برميل للتصدير العراقي، مع شرط أن يستقطع الفرق من حصتها من الميزانية إن لم تلتزم. وتم تخصيص مبلغ 625 مليون دولار من الميزانية لمستحقات شركات كردستان يقدم لها فور تقديمها الوصولات عن الدفعات السابقة، وهو ما اعتبره الأمير "مبلغاً كبيراً جداً" لأية مستحقات ممكنة.
.
ما حصل هو أن كردستان لم تقدم للحكومة في بغداد طيلة عام 2013 برميلا واحداً للنفط! ولم يتم استقطاع دولار واحد من ميزانيتها! وهو ما يعادل مبلغ 9,5 مليار دولار استقطعت من فقراء العراق لتصب في جيوب ساسة كردستان! وكل نوابكم عدا عدد قليل جدا ممن كان يصرخ، سكت عن الموضوع وسكت الشعب العراقي عن أمواله واهانته من قبل حكومته ولصوص كردستان. وفي وقتها حسبت أن كل عائلة عربية كانت تدفع 200 دولار شهريا للبارزاني. ولو أن البارزاني وزع أموال السرقة فقط، دون حصة الإقليم، لحصلت كل عائلة كردية على 900 دولار في الشهر من "الغنائم".
.
لكن لصوص كردستان لم تسلم تلك الدولارات لشعبها. فقد وجدوا من هو أكثر استعداداً للبذخ وبدون أية معارضة. ووصفوا المالكي رغم كل تنازلاته بالدكتاتور والكاره للشعب الكردي، وغيرها من العبارات المقلوبة، ولكن المفهومة الهدف. إنها تحضير لابتزاز جديد، وتخويف للحكومة الحالية ولإعطائها مبرر للتنازل بإيهام الشعب العراقي بأن ما حصل كان "ظلم" للشعب الكردي، واستثارة الشعب الكردي على ان بغداد ظلمته ولم تقدم له حصته!
.
والحقيقة، كما كشفت التقارير فأن حكومات بغداد المتتالية بضمنها حكومة المالكي والعبادي، قد دفعت ما يعادل 36 مليار دولار زائدة، وبأشكال مختلفة كما حددها تقريري ديوان الرقابة المالية في اذار وتموز 2014
.
وهذا لا يشمل التصدير السري وضرائب الكمارك وغيرها من القائمة الطويلة جدا من الابتزاز والسرقات والتلاعب بالحسابات، بل يمثل فقط مبالغ مثبتة ورسمية وصلت بطريقة او بأخرى إلى الأقليم، زيادة عن حصته الابتزازية! لكن 36 مليار لا تكفي.. لا شيء يكفي...وعلى الحكومة ان تستمر بدفع حصة الإقليم وجيشه المعادي، ودون ان تقدم كردستان برميل من النفط، بل تصدره إلى إسرائيل نكاية بالعرب! ويستمر الصراخ بأن الحكومة "قطعت رواتب الإقليم" ويشارك في هذا الصراخ القذرالكثير من الجهلة الذين يسمون "مثقفين" إضافة إلى من تم دفع أجور اقلامهم لهم.
كل ذلك كان بتوجيه أميركي لتسليم كردستان كل شيء، والقضية لم تنته بعد. لذلك لا تصدق، ولا تتعجب حينما تسمع البارزاني يهتف بأن المالكي "أسوأ من صدام"! وأن حكومة بغداد الحالية لم تختلف عن مجرمي الأنفال إلا بالوجوه وكل هذا الهراء يدمي القلب، فانت تسمع صوت كالبريث ينطلق من حنجرة مسعود البارزاني، وهو يهيء للضربة التالية.
أقرأ ايضاً
- سُلّم الرواتب بين إرث بريمر وعراقيل البيروقراطيَّة
- ماهي الدلالة والرسالة في بث مقطع فيديوي للقاء المرجع الاعلى بالشيخ الكربلائي
- حرب عالمية من أجل توطين الرواتب