حجم النص
الصورة الأولى: السيد سعيد زيني في مكتبته، مكتبة السعادة. الصورة الثانية: واجهة مكتبة السعادة. انا حاضر في هاتين الصورتين،مكتبة السعادة،للسيد سعيد زيني،بزيه الانيق،وكشيدته التي لا تغادر رأسه، وصفوف الكتب التي تجذبني خطوطها المذهبة،كم كنت اتوق الى الدخول للمسها،ولكن مكتبة السيد سعيد كانت معزولة بجامخانة تصل الى خصر الرجل الواقف وكنت عندما أقف واتفرج على الكتب يبرز رأسي فقط، في الايام الاولى كان السيد سعيد يرتاب من وقوفي وتأملي للكتب،سألني: ماذا تريد؟.قلت له: ممكن اتفرج على هذا العالم الساحر،عالم الكتب.استحسن اجابتي وادار وجهه عني وعاد للجلوس وراء مكتبه.ولم يعد وقوفي يضايقه بعد ذلك. كنت ادخر ما احصل عليه من عملي ميكانيكا لتصليح جميع الاجهزة المنزلية مع اولاد مفلس،تقي ومهدي.وقد وقع نظري في البداية على كتاب اللزوميات لأبي العلاء المعري.بطبعة رخيصة ولكن سعرها غال على ولد مثلي وهو 500 فلس،أي نصف دينار. كنت في حينها اذهب الى مكتبة صحن العباس أو مكتبة صحن الحسين او المكتبة العامة.وأقضي اوقاتي فراغي هناك خاصة في أيام العطل،اذ كان من فضائل تلك المكتبات انها تفتح ايام الجمع والعطل.ولا تغلق ابوابها مثل الآن. كنت أعرف القليل عن أبي العلاء،وقد قرأت بعضا من رسالة الغفران في صحن العباس،وأما ديوانه فلم يرق لي،اذ بدا لي شعره صعبا متكلفا. اشتريت اللزوميات من السيد سعيد،اخذ الدراهم العشرة مني ورمى لي نسخة من اللزميات على الجامخانة،تأكذ لي ان هذا السيد لا يتقن الابتسامة أبدا،ولكني شعرت انه يوليني الاهتمام من خلال تركه لي اتصفح رفوف المكتبة وأطيل الوقوف امام مكتبته،ولم يعد يترك مكتبه ليصرفني مهما وقفت. كانت اول قصيدة في اللزوميات،مطلعها: ملّ المقام فكم أعاشر أمةً أمرتْ بغير صلاحها أمراؤها قررت قراءة اللزوميات كلها لأعرف اسرار مهارة المعرّي في هذه التقفية الغريبة التي فرضها على قصيدته برويين لا روي واحد. حفظت ثلاثة أبيات فقط: في اللاذقية فتنةٌ مابين طه والمسيح هذا بناقوس يدقّ وذاك فوق مئذنة يصيح كلٌّ يناجي ربّه يا ليت شعري مالصحيح؟ لفت نظري من بين الكتب كتاب بمجلدين هو (العمدة) ولبعده عني لم استطع قراءة عنوانه الكامل،وكان ثمنه دينار وربع،أي أجرعمل 25 يوم، كنت ادخر من اجور عملي وأقرأ اللزوميات، حين قرأت الابيات السابقة لمعلم العربي،زجرني وقال كلمة غريبة جدا، وهي: لا تحفظ شعر هذا الاعمى الكافر.ولهذا قرأت جلّ أعمال المعري ولم أجد فيه كفرا لحد الآن.ولكني عرفته مفكرا لا شاعر،وهو يصرح بأفكاره بصدق وثقة ويعرف ان ليس على الاعمى حرج. بعد شهر اشتريت كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني.واستمتعت بالعقلية النقدية التي لم تترك شاردة وواردة تخص القصيدة ولم تمرّ بها،كان الكتاب جزأين بمجلد واحد.ولم استغن عنه حتى في رسالتي للماجستير. توطدت علاقتي بالسيد سعيد زيني،صرت أقف اكثر من قبل وأساله عن الكتب التي تلفت نظري وأسعارها،وكنت كلما عجزت عن شراء كتاب ذهبت الى المكتبة المركزية أو احدى مكتبات الصحنين لقراءته. لأول مرة ألمح اسم وكتب العقاد في هذه المكتبة،كان السيد قد صف كتب العبقريات في الجامخانة،اعجبتني الصورة التخطيطية للعقاد.واشتريت كتاب (مطالعات بين الكتب والحياة).ثم صرت أقضي أيام عطلي في المكتبة المركزية أقرأ العبقريات العقادية وسحرني أسلوبه السلس وحيويته في السرد والجدل والتعليق على قضايا كثيرة.وقادني مقاله (الوجودية فلسفة انسانية) الى قراءة اللامنتمي لكولن ولسن ومن بعدها صرت اجمع كتب هذا الاخير بشراهة وحرص. كان الطريق الى مكتبة سعيد زيني يبدأ من زقاقنا (زقاق كده علي) وسمّي في منتصف السبعينيات بزقاق (شريف العلماء) حيث اصل بعد عشرين مترا الى مكتبة نينوى المقابلة لباب القبلة ومنها اشتريت ديوان الجواهري الجزء الرابع.واحببت فيها قصيدة يا ام عوف وقصيدة أطبق دجى.ثم بعد خطوات انعطف الى اليمين لأسير خطوات وأصل الى الحسينية الطهرانية،ذلك البناء الراقي الذي تلمع اعمدته المرمرية البيضاء وتحمل شرفة راقية التكوين لم أر مثلها الا في افلام القرون الوسطى.وفي قاعة هذه الحسينية كان يقام مهرجان ميلاد الامام علي،الذي كان يشهد جلسات شعرية تنقلها مكبرات الصوت الى اطراف المدينة،وقد أصبح هذا المهرجان فيما بعد مأزقا لكثير من الشعراء بسبب حضور خير الله طلفاح وهو يحلل العقلية القيادية العسكرية للامام علي.ولا يتوقف عن اللعب بأنفه أمام الحاضرين وحتى كاميرات التلفزيون.وكنت في صغري قد تعلمت ان المتكبرين والمزيفين تفضحهم حركاتهم واستخفافهم بالناس. بعد ذلك امرّ بسوق الدرجات وهو سوق بائعي الاحذية ونسميه (سوق النعلجية) ثم بعده اعبر (سوق العرب) الذي ما زال قائما حتى اليوم،وفي مدخله جلست تحت منبر عبد الزهرة الكعبي وهو يتلو مقتل الحسين قبل أن اذهب الى المدرسة وبسببه سحرتني اللغة بجمالها. وقبل ان انعطف نحو مكتبة السعادة، أقف أمام محل صغير هو عبارة عن درجات للبناية التي تطلع منها مكتبة السعادة ومحل حلويات حميد الشكرجي،هو محل للسيد علي الرسام، كان يعرض لوحة كبيرة للعباس وهو يعبر المشرعة على جواده الابيض ويحمل قربة ورمحا وراية مكتوب عليها نصر من الله وفتح قريب،كنت أطلع مجرى الالوان الدقيق في غرة الحصان وقطرات الماء التي تتناثر تحت سنابكه،تأملت وجه العباس في اللوحة،مقطبا،كزموم الحاجبين،تنظر عيناه لي بغضب،ولشدة انسجامي مع اللوحة بدأت أبتسم للعباس،وتلبسني الوجه بتجهمه وظللت عدة مرات انتظر منه ابتسامة،حتى وقع نظري على وجه سيد علي الرسام،فوجدته ينظر لي بنفس التجهم،وشارباه الكثان الطويلان يزيدانه صرامة،عرفت أنه متضايق جدا من وقوفي الطويل أمام باب محله.وقد حدثته بذلك عام 2006،فهو كان سبب الغائي لرغبتي في تعلم الرسم على يديه، فقد كان عندي شغف كبير في ان اتعلم منه كيف رسم العباس بمثل هذه القوة،وبسبب نظراته الزاجرة الغيت الفكرة تماما،وصببت اهتمامي على الكتب،وسحر اللغة. وبعد محل السيد علي وفي الركن القادم هناك محل خياط نسيت اسمه الان.احيانا اجتاز مكتبة السعادة،اذا رأيت السيد مشغولا بترتيب الكتب فهو في هذه اللحظات يكون عصبي المزاج ويصعد درجا خشبيا صغير ليصل الى الرفوف،وادنى سؤال مني يصيح بي بجفاوة: (تعال بعدين).لذلك اضطر الى دخول سوق السراجين الذي يهتم بالصناعات الشعبية الجلدية،حقائب،وحمالات بنادق،وبيوت خراطيش وطلقات.وقرابات مسدسات،كان يشغلني في كل هذا، القطع النحاسية التي تحيط بالمصنوعات على شكل ازرار،وسيور الجلد التي تتدلى منها. على أن مدخل السوق كان يضم بعض العجائز اللائي يبعن للناس حاجياتهن،فمحلات الكماليات لم تكن ظهرت بعد الا القليل منها،وكنت اشعر بالخجل وأمرّ سريعا وانا اتحاشى النظر الى قطع ملابس النساء الداخلية المعروضة، وادوات الزينة والاستحمام مثل الديرم وطين الخاوة وانواع الصوابين والزخمات،ثم اعبر ساحة ابي ذر الغفاري وسوق الصفارين وأهم بشرب قدح من شراب الآلوبالو(وهو عصير المشمش القيسي) من رجل يجلس على الرصيف ويغرف من سطلة كتلك التي كنا نراها في المستشفى،ولكني في كل مرة اسير الى الشارع الذي يربط بين شارع علي الأكبر وشارع العباس لأمر على مرطبات ركن الفرات.وأشتري منه الاسكيمو كما كنا نسمي المرطبات،واتمتع بالتفرج على كرة زجاجية دوارة في أقصى المحل،تدور ببطء لذيذ بينما تتوالد منها الأضواء الملونة بسبب تغليفها بالزجاج الملون والمصباح الذي في بطنها. أعود الى السيد سعيد زيني، لأجده قد انشغل بنفض التراب عن جبته بينما ظلت كشيدته المزنرة بالشريط الأخضر على رأسه ولم يخلعها.كنت قد اتفقت معه على ان اشتري الكتب منه بالتسديد،ولم يظل من قسط كتاب العمدة سوى بعض الاقساط القليلة،وعندما سلمته القسط،قال لي: انتهى العمدة خلصت فلوسه. قلت له: حسابي مضبوط وما زال عليّ بعض الاقساط.أجابني: انتهى قلت لك. لاحظت وجود كتاب (دروس في الماركسية) لمحي الدين فارس.سالته عن سعره: فقال لي: ما يفيدك. لكني اخذت نسخة ووضعت الدراهم الخمسة على زجاج الجامخانة ومضيت دون ان أودعه. ذات يوم كنت اسأل السيد عن بعض الكتب،وقد حفظت كثيرا من العناوين منها،بل وصرت اعرف مكان الكتب على الرفوف لكثرة التحديق فيها، وعندما اشتريت ديوان الحسن بن هانئ (ابو نؤاس) طبعة دار صادر،سألني أحد ضيوف السيد،وهو الذي كان شاهدا على شرائي كتاب دروس في الماركسية: هل أبوك شيوعي؟ قلت له: والدي رجل أميّ وسمّاك. قال: لمن تشتري هذه الكتب؟ قلت: لي.لمكتبتي الخاصة. قال: في أي صفّ انت؟ قلت في السادس الابتدائي، كنت في مدرسة المخيم وانتقلت الى مدرسة الامام الحسن المسائية في نفس البناية لكي اعمل وأعين والدي. قال لي: لا تخلط في القراءة، هذه الكتب تؤذيك بهذا العمر،انزعجت من نصيحته وقلت له: أنا منذ سنتين مدمن على قراءة نهج البلاغة. قال: استمر عليه. قلت: ولكنه علمني ان اقرأ أي شئ،فهو يقول العلم المستقر جهل مستقر. قال: ها..........وانصرف عني. كان السيد سعيد يرمقني وانا احادث الرجل، ولأول مرة اراه يبتسم ربع ابتسامه. عندما اكملت الابتدائية ونجحت الى المتوسطة،جاءت مكتبة المدرسة لترفدني بكتب كثيرة،ومن حسن حظي أن الطلبة كانوا يكرهون المطالعة،فصرت مساعدا لأمينها الطيب الاستاذ ابي باسم ولم اعرف غير كنيته لحد الآن.وقد توفي رحمه الله في نهاية الثمانينيات كما اخبرني زميل لي في الدراسة. كنت مبهورا بالكتب التي تبرز ارقام اجزائها،وخاصة كتاب الاغاني. ومن حسن حظي اني وجدته في مكتبة صحن العباس،وصار أمينها صديقا لي وكان يفرد لي مكانا خاصا بالقرب منه لأقرأ ما طاب لي،وبهرني كتاب الاغاني كثيرا وقد قرأته لا على الترتيب،وكان هو محط استراحتي.على ان هذه المكتبة دمّرها الجنود خلال انتفاضة آذار 1991 ورأيـت بأم عيني كيف نصبوا ثلاث اسياخ في باحة الصحن العباسي وعلقوا بها قوري شاي كبير والحطب كان مخطوطات وكتب من هذه المكتبة. ظل السيد سعيد زيني بمكتبته الانيقة ووجهه المورد ملاذا معرفيا،وفي الثمانينات،شغلتني الدراسة في بغداد ومن بعدها ذهابي الى الجبهة عن المرور على السيد سعيد.وعندما عدت من الحرب لم اجد المكتبة فقد هدمت البناية وقام بدلا عنها فندق ومحلات.لكني كلما مررت بهذا المكان،اترحم على السيد سعيد الذي لم يكن بائع كتب،بل كان من مثقفي المدينة،وما زالت نظراته لي ترتسم في قلبي،وعندما كبرت صرت اعرف ان المحبة التي كانت في قلبه لي كانت تأتي من خلال اعفائي من اقساط الكتب المتبقية علي،والتي كان من خلالها يريد تشجيعي على القراءة أكثر. ومثله كان أمين مكتبة صحن الحسين شيخ شاكر الذي شجعني على قراءة أعمال ديستوفسكي كلها ثم تولستويوروايات نجيب محفوظ ودواوين شعرية كثيرة،وقد كان بابها مشرعا من داخل الصحن على باب الشهداء،ولكن تم تحويلها فيما بعد الى جهة شارع الشهداء. لحد الان لم يغب عن بالي ذلك الاهتمام من رجال لا يعرفونني عدا الشيخ شاكر الذي كان يعرف والدي من مبيته الدائم في فندق الخيام في شارع القبلة الذي كان ملكا للسيد الفاضل فاضل آل طعمة. ولم تفارق مخيلتي رائحة الكتب النفاذة التي تعبق بأسرار الزمان وحوادثه،حتى تحولت كربلاء عندي الى كتاب متنوع مفتوح لا يضمه مجلد ولا أوراق،بل هي كتاب حياة تستمر باتجاه المدنية والفن والكتابة بكل صنوفها،لكربلاء رائحة الكتب التي أحب، وللكتب رائحة كربلاء الطيبة.
أقرأ ايضاً
- الكاظمي يزور دار الكتب والوثائق ويفتتح قاعة "أحمد الجلبي"
- "كربلاء والكتب التي الفت عنها" .. كتاب جديد للمؤلف سعيد رشيد زميزم