كثيرون هم مَن كتب عنهم التاريخ، ولكن العترة المحمدية متمثلة بمحمد اله الاطهارتبقى هي الأوفر حظاً والأخلد ذكرا، وكذلك كل ما ارتبط بهم سواء كانوا أشخاصا أم غير ذلك.
وقد برز المنبر الحسيني كشاهد على ذلك الخلود، وتواكب مع كل العصور ليفرز لنا خداما برعوا في مجالسهم، وممن خلدهم التاريخ وتزين بشذا صوته وخدمتهِ، الرادود الكربلائي المرحوم حمزة الزغير.
[img]pictures/2010/03_10/more1269165154_1.jpg[/img][br]
ولد عام 1921 ميلادية في مدينة كربلاء محلة باب الطاق، واسمه حمزة عبود إسماعيل (السعدي)، واشتهر بــ (حمزة الزغير)؛ وذلك لوجود رادود آخر كان في كربلاء وبنفس الفترة، وهو المرحوم (حمزة السماك)، وكان أكبر منه سناً وأقدم منه في القراءة وأطول منه قامةً، وللتمييز بين الرادودين سُميَ بــ (حمزة الزغير).
نشأ المرحوم في كربلاء لينهل من تراثها الثر، حيث عاش يتيم الأب فأخذت أمه على عاتقها تربيته، علماً إنه الوحيد لأبويه، ودخل الكُتّاب حينذاك، وفي بدء حياته العملية أمتهن العِطارة، وبعدها مارس مهنة بيع الأواني الفافونية، ثم مارس مهنة صناعة الأحذية (قندرجي) فيما كانت آخر مهنة مارسها هي مهنة كيّ الملابس..
[img]pictures/2010/03_10/more1269165259_1.jpg[/img][br]
حدثنا الحاج حسن علوان الصباغ عما يميز ملا حمزة الزغير عن سائر الرواديد والمنشدين الحسينيين فقال: إنه كان مثالاً للتواضع والأخلاق الحسينية العالية المنبثقة من الإيمان، فبالرغم من شهرته الواسعة التي ملأت الآفاق، كان يقوم للصغير والكبير ولا يفرق بين الغني والفقير، فغدت جميع طبقات المجتمع تكنُّ له الاحترام والتقدير.
وتابع الصباغ حديثه قائلا: كما كان بعيداً عن التعامل المادي في قراءاته على المنبر، ولم نسمع يوماً أنه حدَد أو طلب مبلغاً لقراءته، ليس ذلك فحسب، بل كان مساهماً مادياً في بعض المجالس التي كانت تقام في مدينة كربلاء المقدسة.
[img]pictures/2010/03_10/more1269165259_2.jpg[/img][br]
الصباغ أكد إن الملا رحمه الله، برز في النصف الثاني من القرن العشرين وكان الرادود المرحوم حمزة الزغّير بأدائه المتفرد؛ قد سيطر على الساحة الحسينية، ليس في كربلاء وحسب، بل في عموم محافظات القطر، وبات علماً من أعلام المنبر الحسيني وأشهرهم استماعا.. حتى صار يضرب له البوق أو البرزان عند قراءته في صحن الإمام علي (عليه السلام).
وأشار الصباغ: إن أغلبية القصائد التي قرأها، كانت لأمير الشعراء كاظم المنظور الذي كان يمثل بمعيته، الثنائي الحسيني، ومن الشعراء الذين قرأ لهم أيضا الشاعر كاظم السلامي وعبود غفلة والشاعر هادي القصاب وسعيد الهر والسيد عبد الحسين الشرع ومهدي الأموي صاحب القصيدة المشهورة (أحنه غير حسين ما عدنه وسيلة) ومن المتأخرين الشاعر محمد حمزة والشاعر عبد الرسول الخفاجي وعزيز الكلكاوي وشعراء آخرون..
[img]pictures/2010/03_10/more1269165259_3.jpg[/img][br]
فيما قال الأستاذ نعمة مشعـل: لقد امتاز المرحوم بحسن اختيارهِ للقصائد التي كانت تعرض عليه، ولم يكن اختيارهِ بشكل عشوائي دون تمحيص، ولم يتقبل اقتناء أية قصيدة تصله، وقد كان الشعراء كل منهم يود، بل يتمنى أن يبعث إليه بقصيدة بل وحتى مقطعا شعريا لعله يستمع لقصيدته تتلى بالصوت الخالد؛ لأنه أي الشاعر- على يقين بأن (حمزة الزغير)، إذا قرأ قصيدة له على المنبر فإنه سوف يخلد مع قصيدته المقروءة، لذا كانت القصائد تنهال عليه من كل صوب وحدب من قبل الشعراء، بل هنالك من كان يضطر للتوسط ويتوسل بمن يمكن أن يوصله إلى (حمزة الزغير)، لكنه كان بارعاً في انتقاء نموذج شعري متميز، إذ أنه كان يتأمل القصيدة طويلاً ويدرس كل جوانبها دراسة عميقة وواعية، حتى لا يقع في فخ الفشل الذي لفّتْ شراكه الكثير ممن لم يحسنوا الاختيار بسبب التعجل وعدم التأني.
[img]pictures/2010/03_10/more1269165259_4.jpg[/img][br]
وأكد مشعل، إن الملا حمزة كان يقرأ في شهريَّ محرم وصفر موسم المجالس الحسينية في العالم الإسلامي خارج العراق في العقد الخامس من القرن المنصرم، في الكويت لعدة سنين، وفي أشهر حسينياتها آنذاك، ويسبقه في القراءة المرحوم الشيخ الدكتور أحمد الوائلي (رحمه الله) في الأربعينيات من القرن الماضي، وكذلك قرأ الملا في البصرة وفي السماوة لعدة سنين، علماً إن في مدينة السماوة مواكب كثيرة كانت تستقطب أشهر رواديد العراق، وكان المرحوم حمزة الزغير هو المتميز لحلاوة صوته وأدائه وتجديده بالأوزان، واستمر بتجوالهِ الى مدينة النجف الأشرف، وبغداد جانب الكرخ، وبعد هذا المطاف الذي استمر إلى قيام ثورة عبد الكريم قاسم سنة 1958م، استقر حمزة الزغير في كربلاء، ولم يغادرها بعد ذلك.
وقال الأستاذ حسن كاظم الفتال: كان الملا حمزة بشكل فطري يرتبط ارتباطا روحياً بمبادئ الحسين (عليه السلام)، وكان يهمه أن تكون القصيدة بالمستوى المطلوب في تعريف مضمون القضية الحسينية التي هي قضية كل الخيرين، وفي جانب آخر فهو يحاول بأكبر قدر ممكن توصيل الأفكار إلى السامع بطريقة سريعة وسلسلة بنفس الوقت دون تعقيد، وبوزن يتماشى مع حرمة المنبر الحسيني، أضف إلى ذلك مراعاة الذوق العام دون الخروج عن المألوف..
[img]pictures/2010/03_10/more1269165443_1.jpg[/img][br]
وأكد الفتال: إن الملا كان من أبرز وأشهر المنشدين وقراء المنبر الحسيني فذاع صيته وملأ الآفاق بالرغم من وجود رواديد كبار يسبقونه عمراً وخبرة وشهرة فأصبح المتميز حقاً ورائد المنبر الحسيني ورادوده الأول، وأمسى مدرسة خاصة في القراءة الحسينية التي لم يكن بها مُقلداً لأحدٍ، بل قلّدهُ الكثير من الرواديد إلى وقتنا الحاضر...
الفتال قال: إن الملا حمزة أخذ يعتلي المنابر الحسينية ويتنقل بذلك الصوت الشجي ذو النبرة الحسينية، المعّبرة عن مأساة واقعة الطف تدريجياً إلى الشهرة التي استحقها بجدارته المتأصلة في قراءته وأسلوبه، ووصل أوج عظمته في الخمسينيات من القرن العشرين، علماً أنه لم تكن توجد في ذلك الوقت أجهزة صوتية متطورة كالموجودة في الوقت الحاضر، لتزيد من الجمال والحلاوة في الأداء.
ويقول الشاعر عبد الرسول الخفاجي وهو أحد الشعراء الذين قرأ لهم الملا حمزة: يعد الملا حمزة من أشهر الرواديد الحسينيين الذين أنجبتهم كربلاء المقدسة، حيث لا زالت أشهر قصائده تقرأ إلى الآن في المجالس الحسينية وبأصوات شابه بذات اللحن..
وتابع الخفاجي: بدء شبابه مولعاً بحفظ القصائد الحسينية التي كان يلقيها الرواديد آنذاك، ولولعه الشديد بحب القراءة، كان يردد تلك القصائد والأوزان التي كانت تقرأ أثناء عمله وفراغه وتجواله، ولم يُسمع أنه تتلمذ على أحد من قراء المنبر الحسيني آنذاك، وكان يرى في نفسه موهبة وقابلية تؤهله لارتقاء المنبر والقراءة..
وأشار الى إن الملا من شدة ولعه بالمجالس الحسينية والقراءة كان كثير الحضور في شبابه لتلك المجالس للاستماع لكافة رواديد كربلاء حينذاك، وقد أخذ بيده ووجهه صوب المنبر الحسيني والقراءة الشيخ عباس الصفار رحمه الله الذي كان الملا ملازما له فأولع بحفظ القصائد الحسينية والأوزان..
الخفاجي قال: يعد الملا حمزة من أشهر الرواديد الحسينيين الذي أنجبتهم كربلاء، وما زالت أشهر قصائده تقرأ إلى الآن في المجالس الحسينية بأصوات شابة ومواكبة للإبداع، معبرين عن استمرارهم على هذه الأطوار والقصائد قائلين أنها اشتهرت لتوفر عناصر عدة ومنها: جمال الصوت الذي يمثله الملا رحمة الله عليه وعذوبة كلمات القصيدة والوزن أو الطور الذي تنشد به.
[img]pictures/2010/03_10/more1269165443_2.jpg[/img][br]
وأوضح الخفاجي إن الملا حمزة الزغير رحمه الله وجد ضالته التي كان يبحث عنها، بل وربما عثر على كنز كبيرٍ وثمين يحوي على نفائس الشعر الشعبي، وهو الشاعر الشعبي (كاظم المنظور)؛ ولأن حمزة الزغير يكاد أن لا يمر يوم من أيام السنة دون أن يقرأ فيه قصيدة لعزاء أو موكب أو هيئة، فكان بحاجةٍ ماسة لعدد كبير من القصائد، فوجد الشاعر المنظور الذي لم تتوقف قريحته أبداً، فالتقى العملاقان وكان أول لقاء بينهما سنة 1958حسب ما قيل.
وعن مرضه حدثنا الحاج حسن علوان الصباغ خلال فترة وجيزة ساءت حالت الملا حمزة الصحية، وتقرر إرساله إلى بغداد للعلاج، وكُلفَ الرادود محمد حمزة بالتفرغ من عمله ومرافقته إلى بغداد، وعرض على الطبيب (حكمت حبيب) المتخصص في أمراض الدم، وأحاله بدوره إلى مستشفى اليرموك، ورقد فيها لأجراء الفحوصات والعلاج، لمدة 10 أيام تقريباً وخلال فترة مكوث ملا حمزة الزغير في المستشفى ببغداد كان حال الحسينيين في كربلاء متشنجا ويهفو لاستماع أخبار حسنة عنه .
فيما قال الحاج الملا محمد حمزة الكربلائي: في بدايات 1976 أُصيب الملا حمزة بمرض السرطان الخبيث، دون أن يعلم؛ وذلك أثر ظهور ورم في أنفه، وكانت هذه البداية حيث أخذ يراجع الأطباء في مدينة كربلاء المقدسة، الذين لم يشخصوا السبب وراء هذا الورم، وأخذوا باعطائه الكثير من العلاجات والعقاقير الطبية، ولكن ورمه أخذ بالتزايد دون معرفة السبب.
بعدها فضلَ الطبيب أن يراجع الملا حمزة مركز الإشعاع الذري لعرضه على الأطباء المختصين، الذين قرروا حينها أن يبقى لـ 15 جلسة (كيّ) وعند انتهاء هذا العلاج عَرجَ الملا حمزة مع مرافقيه الى الطبيب في بغداد لمراجعة حالته الصحية، ومعرفة نتائج الفحوصات الطبية، فهمس الطبيب في أذن مرافقيه قائلا: عُد به إلى البيت؛ فلا يعيش أكثر من شهر واحد.. وبعد انتهاء الشهر ساءت حالته لأقصى الحدود، ونقله الحسينيون على وجه السرعة إلى مستشفى كربلاء، ثم وافاه الأجل في اليوم الثاني يوم الثلاثاء 23 من شوال 1396.
واصفا نبأ وفاته بوقعٌ مؤلم في نفوس الجماهير، حيث أقيم له في كربلاء تشييع حسيني يليق به وبمكانته وكانت مدينة كربلاء عصر ذلك اليوم المؤلم في حزن وأسى، إذ تعطلت جميع المحلات وتعتم ضياؤها في تلك الليلة، وأخذ موكب التشييع طريقه صَوْبَ مرقَد الإمام الحسين (عليه السلام) وبعد انتهاء مراسيم الزيارة في مرقد سيدنا العباس (عليه السلام)، حمل الى مثواه الأخير.. في وادي كربلاء..
ووصل أهالي كربلاء الى ساعة التوديع وتلون التوديع بالبكاء والنحيب واعتلت مكبرات الصوت بقصيدة الملا المحروم وهو يقرأ (شلون ليلة توادع حسين العقيلة)
ومما قيل في رثائه ما أرخه الأديب محمد زمان بهذا البيت الذي جاء فيه:
أرختُ يا طفُّ واساكِ الحسينيُّ
قد مات حمزةُ لكنْ صوتهُ حيُّ
تحقيق /حسين النعمة
أقرأ ايضاً
- شاهد عيان: جيش الكيان الاسرا..ئيلي قصف الانسان والحيوان والشجر والحجر
- بدعم كامل من العتبة الحسينية المقدسة اجراء (1701) عملية جراحية خاصة ضمن برنامج الاستقدام والاخلاء الطبي
- بدعم متواصل من العتبة الحسينية مستشفى السفير يجرى (10) الاف و(800)عملية جراحية في تسعة اشهر