حجم النص
بقلم:محمد غازي الأخرس ممتع ان تجرب تأمل ظاهرة كظاهرة "السلفي"، أي التقاط صورة للنفس بيدك، لكن الأمتع أن تتمعن في فلسفة الصورة نفسها، مفرداتها، مجازاتها وما تعنيه ثقافيا وسيكولوجيا. خطر ذلك لي وأنا أرى قبل فترة ثلاثة شبان في الشارع يقفون فرحين ويلتقطون لأنفسهم "سلفي" باستخدام العصا العجيبة التي اخترعت لانجاز هذه المهمة. همست لنفسي - هنيالهم، طكو لارواحهم صورة، ثم قلبت العبارة وجها لبطن فإذا مصدرها مجازي وأصله "الطقة" التي ترافق التقاط الصور في الكاميرات الآلية القديمة. كانوا يقولون: طك لي صورة وأخذ لي صورة، بمعنى الالتقاط، أي أن العبارة تتطلب وجود مصور أو ملتقط لها. يقف صاحبنا، يضبط العدسة، ثم - جق، انتهى الموضوع. ذات مرة علق أحد الساخرين وقد انتهينا من أخذ صورة معا بالقول - أشو ما توجع! مستعيرا فعالية زرق الأبرة بيد المضمد. الاستعارة كانت دقيقة، فالعمليتان متشابهتان؛ هذا يضغط على زر وذاك يضغط على "سرنجه". مقابل عبارة: طك لي صورة، يقول الريفيون؛ كص لي صورة. والاستعارة هنا طريفة جدا وتوحي بالعقلية التي تفكّر بالصورة. فلربما ارتبطت الصورة لدى الريفي باستخراج الأوراق الرسمية فتعامل معها كما يتعامل مع قطع التذكرة والوصولات. المنظور الطبقي واضح، والكاميرا لدى الريفي تختلف عنها لدى البرجوازي المتمدن. الأول يحتاجها لاستخراج جنسية أو دفتر خدمة عسكرية بينما الثاني يتعامل معها كآلة جمالية توثق حياته ويومياته وترافقها أشياء كالألبومات الأنيقة. العملية، بالأحرى، تجسيد للأنا وهي تحاول تخليد رؤاها وتوثيق مشاهداتها. يقول آريك فروم أن التقاط الصور بديل عن الرؤية، ولابد لمن يراقب السياح أن يفهم ذلك، فهم يرون المكان ثم يصورون أنفسهم معه وكأنهم يحنطون المشهد لنقله معهم. لكن المشاهدة، كما يقول ليست هي الرؤية، "فالرؤية وظيفة إنسانية، موهبة تتطلب النشاط والانفتاح الداخلي والصبر والاهتمام والتركيز، واخذ لقطة خاطفة يعني تحويل الرؤية إلى شيء". هذا هو شأن الإنسان دائما، هاجسه الممض هو تحويل الرؤى إلى أشياء، والأفكار إلى أجساد، "السلفي" ربما ينتمي للفكرة ذاتها، أي تحويل رؤية الذات، حين تصل الأخيرة لمرحلة الاستغناء عن الآخر، إلى شيء مادي يرى. هي ذروة النرجسية التي نعيشها في عصر ما بعد الحداثة. الذات تكتفي بنفسها وتصنع صورتها عن ذاتها دون الحاجة لآخر، أعني المصور الذي كان ملازما للكاميرا الشخصية. أخذ الصور يحتاج أبدا إلى آخذ، مصور، فمن الصعب، بل من المستحيل أن يتلقط المرؤ لنفسه صورة إلا إذا وقف أمام المرآة، وأذا حدث ذلك فسوف يظهر بصفته مصورا يلتقط صورة وليس شخصا يريد توثيق لحظته النرجسية. في ما مضى، وجد نوع من الكاميرات التي يمكن أن تدير نفسها ذاتيا، "يكوكها" المرء لدقيقة، ثم يقف أمامها بعد أن يكون قد ضبط كادره واختار موقعه فيه وهي تتكفل بالمهمة. غير أن تلك كانت كاميرات غريبة عن منطق الفعالية، لذا لم تشع إلا على أضيق نطاق. انسوا تلك الكاميرات وتعالوا إلى "السلفي"، هو الحل المناسب لعصرنا. إنه تعبير بليغ عن إنسان ما بعد الحداثة. الإنسان الهائم بنفسه، المكتفي بتقنياته. وهنيئا لمن امتلك موبايلا حديثا وعصا كالتي رأيتها مع الشبان، وروح الهوا بظهرك!