حجم النص
قد يُفاجأ المرء للوهلة الأولى وهو يجلس أمام رجل في الخمسين من عمره، قضى أكثر من 20 سنة في قبوٍ لا يزيد عرضه عن نصف متر وطوله عن المترين. حين بدأ جواد الشمري نشاطه السياسي المعارض ضد النظام السابق، كان شارباه بالكاد قد بزغا، وفي العام 1979،
ونتيجة لعمله المعارض للنظام وانتمائه لحزب الدعوة الإسلامية، صدر بحقه من المحاكم العراقية حكم غيابي بالإعدام.
ترك الشاب دراسته التي كان قد بدأها للتو في كلية الإدارة والاقتصاد بجامعة بغداد، وقرر التواري عن الأنظار والعودة إلى داره في قرية نائية جنوب شرق الكوت.
هناك، كان لديه متسع قليل من الوقت للإفلات من حبل المشنقة، السفر برا عبر خطوط التهريب المعتادة نحو شمال العراق أو إلى إيران يتطلب نفقات لم يكن بوسع العائلة تحمّلها، كما أن التخفي لدى الأقارب ليس مضمون النتائج وسيكتشف رجال الأمن مكان تواجده اليوم أو غدا.
وأخيرا، وبعد أكثر من سنة من التخفي، قرر الشاب حفر حجرة صغيرة تحت الأرض مع والدته، ليعيش فيها أكثر من 22 عاما.
ويقول جواد الشمري لموقع "نقاش ويكلي": "الأجهزة الأمنية جندت كل شيء لمتابعة تحركاتي بما في ذلك نسوة الحي الذي أسكن فيه، لكن إرادة الله أرادت أن تكتب لي الحياة".
وبينما كانت أصوات القصف والقنابل والصراخ والأناشيد الحربية تختلط في كل مكان، كان الشمري، طوال فترة الحرب الإيرانية - العراقية يعيش مع مذياعه الصغير في عالمه الخاص، وحيدا يؤنسه صوت مذيعة نشرة أخبار (بي بي سي العربية)، فحتى أمه وأخوته لم يكونوا يجرؤون على زيارته إلا قليلا كي لا يفتضح أمره، وكان يخرج في الليل لساعات قليلة من غرفة مظلمة إلى الظلام الأوسع.
واضاف "لم أكن أتوقع أنني سأظهر مجدداً وأمارس حياتي بشكل طبيعي، أحيانا كنت أظن نفسي ميتا، فكل شيء بدا سوداويا، كنت أسلي نفسي طيلة هذه الفترة بالصلاة وقراءة القرآن والاستماع إلى المذياع عبر لاقطات صوتية وضعتها بإذني خشية انكشاف أمري، فيما أقضي بعضا من الوقت بتحضير طعامي الذي لا يحتاج بالغالب إلى كثير من الوقت".
ويتألف القبو الذي عاش فيه جواد الشمري من سجادة متهرئة وحصيرة لونهما بلون الأرض، وتتوزع حولها أغراض متواضعة، أواني طبخ بسيطة ومذياع ونسخة من القرآن الكريم وقنينة غاز صغيرة.
ويتابع الشمري بالقول: "وضعت لي أمي أنبوبا بلاستيكيا يمتد إلى الخارج واخفت نافذته الخارجية، استنشق من خلاله هواء نقيا وهو كان عاملا مساعدا لي على البقاء فترة أطول". السجين الفريد من نوعه، عايش لحظات مؤلمة وظروفا معيشية صعبة ما زالت ذاكرته تحتفظ بها، أقساها حسب قوله، عند تنفيذ عقوبة الإعدام بحق أخيه الذي يعمل موظفا حكوميا دون أن يتمكن من حضور مراسيم العزاء التي كانت العائلة تجريها بشكل سري.
وفي السنوات الأخيرة من محبسه اكتملت مأساة العائلة بإصابة والدته بمرض عضال اثر سلبا على تمكنها من إيصال مؤونة العيش إليه بشكل دوري.
وأضاف "الموت المتربص بي وبأهلي كان يمنحني شعورا بالتضحية في سبيل الخلاص من الظالمين". وبعد محاولات "نقاش" المتكررة إجراء مقابلة مقتضبة مع والدة الرجل، قالت الأم أنها تحاول نسيان تلك المرحلة.
وأردفت بصوت ضعيف، "قاسيت أنواعا من المعاناة من اجل المحافظة على ولدي لم تقاسها أمّ". مبينة ان "الإجابة عن محاولات استفسار الأهل والأقرباء عن مصير ولدي هي ما أرهقني بشكل كبير".
أما الجزء الذي لا ترغب المرأة الطاعنة في السن في الحديث عنه، فكان تلك التحقيقات التي أجريت معها سواء عن طريق استدعائها، أو التجسس على حياتها.
وتقول: "لم يبق منتسبو الأمن والمخابرات نوعا من التحقيق إلا وأخضعوني إليه، حاولوا تجنيد كل ما يحيط بي من جيران وحتى الأقارب لمحاولة جمع معلومات تتعلق بوجود ولدي من خلالي".
من جهته، يقول حامد وهو ابن عم جواد الشمري انه لم يصدق حتى الآن كيف تمكن جواد من العيش طيلة هذه الفترة في هذا القبو الذي لا يزيد عرضه على نصف متر، مضيفا أنه يؤمن بأن تجربته لا تخلو من "توفيق رباني"، بحسب وصفه.
ويردف: "أنا احد الأشخاص الذي كنت اعتقد أن ابن عمي القي القبض عليه واعدم واختفت جثته كما اختفت جثث الآلاف من المعارضين".
بعد سقوط نظام البعث عام 2003، خرج الشمري إلى الضوء، وكان أول ما فعله أن بنى غرفة للضيافة تحيط بالحجرة، بحيث يتعرف كل زائريه على التجربة المريرة التي قاساها.
ويوضح علي صادق (35) عاما وهو أحد جيران الشمري بأنه حاول متقصداً النزول إلى الحجرة ومحاولة المكوث فيها لمدة نصف ساعة، مبينا "لم أتمكن البتة من البقاء أكثر من دقائق معدودة بسب ضيق المكان وارتفاع درجات الحرارة الذي جعلني في غاية الدهشة والاستغراب من صبر هذا الرجل".
ورغم الحرية التي يختبرها اليوم، إلا أن نهاية قصة الشمري لا تبدو سعيدة على الإطلاق.
فالرجل ومنذ خروجه من السرداب لم يحظ بالدعم والرعاية اللازمين من قبل من يسميهم "رجال السلطة الحالية" من رفاق الدرب والمصنفين ضمن خطه السياسي نفسه.
في العام 2005 إبان حكومة الجعفري التقى جواد الشمري أحد المسؤولين الكبار في الحكومة وشرح له وضعه، مشيرا إلى أن ذلك المسؤول أعطاه خمسة ملايين دينار، "وكانت تلك آخر مساعدة تلقيتها، وبفضلها تمكنت من الزواج". وقد حاول الشمري الحصول على وظيفة منذ ست سنوات، بمساعدة أحد المسؤولين في وزارة الهجرة والمهجرين إلا أن أوراقه رفضت في نهاية المطاف، موضحا أن "الحكومة لا تعترف بي كسجين سياسي".
ولكي يحصل الشمري على تعويض أو وظيفة يحتاج إلى ما يثبت أنه سجن، وليس بمقدور والدته منحه هكذا ورقة.
وبحسب علي صادق، فأن أهالي القرية التي يسكن فيها وأهالي عشيرته يقدمون له العون الذي يساعده على الاستمرار في الحياة. ويقول: "من المضحك المبكي أن الرجل لم يحصل إلى الآن على فرصة عمل تلائم تضحيته".
وبينما يتحدث، يستمع الشمري إلى كلام زائره ويبلع غصة في الحلق، سرعان ما يغير الموضوع ويعود إلى روي قصة طريفة حدثت معه أثناء فترة التخفي:
"ذات يوم حاولت الخروج من السرداب ليلا للراحة وصادف خروج أحد أبناء أخوتي الذي لم يبلغ من العمر سوى أربع سنوات، لم يكن من هذا الطفل بعد أن شاهدني وقد احدودب ظهري وطالت لحيتي، إلا أن سقط مغشيا عليه، الأمر الذي اضطر العائلة فيما بعد إلى إقناع الطفل بأن الرجل الذي رآه لم يكن بشريا، بل كان من الجان".
واسط / محمد الزيدي
أقرأ ايضاً
- انطلق برجل واحد يمثل دور السجاد: موكب سبايا يسير من البصرة الى كربلاء الشهادة لمدة (18) يوما
- مصور محترف يتحدث عن المشهد الفوتوغرافي في عاشوراء :روحية الصورة واحساسها يكون مختلفا(فيديو)
- تزور العتبات في كربلاء المقدسة على مدار السنة: مواكب الامارات حاضرة في العاشر من المحرم