صلاة الجمعة من أهم الممارسات العبادية والاجتماعات الدينية في عموم بلدان المسلمين. وهي من الواجبات التخييرية في حال غيبة المعصوم، بمعنى أن المصلي يوم الجمعة مخير بينها وبين صلاة الظهر. وينتفي التخيير في زمان حضور المعصوم ويصبح وجوبها عينياً على جميع الأفراد. وهي في كلا الحالين ـ الحضور والغياب ـ تجزئ عن الظهر.
ولا تقام صلاة الجمعة، فرادى بل جماعة. وهي ركعتان تسبقهما خطبتان. في الأولى يركز الإمام على نشر التعاليم الدينية والتوجيهات الأخلاقية وشرح قواعدها مع التذكير بالثواب والعقاب والتواصي بين المؤمنين بالتقوى والورع والاجتهاد في تطبيق أوامر الشريعة. وفي الخطبة الثانية يتناول الشأن السياسي وسائر الأمور الدنيوية وتنظيمها وفقاً للرؤية الإسلامية الشاملة للكون والحياة والإنسان.
ولهذه الصلاة آداب وسنن تسبق إقامتها وترافقها أيضاً كالغسل والتعطر ولبس أفخر الثياب والتبكير لها وإفشاء السلام وتبادل الدعاء والإنصات للخطيب وغيرها.
ومتى نودي للجمعة ـ كما نصّ القرآن الكريم ـ وتمت شرائطها، حرم البيع والشراء على من تجب عليه تعييناً ضمن شروط وتفاصيل أوضحها الفقهاء في رسائلهم العملية.
ومع أن الجانب الشرعي مهم جداً بالنسبة للناس في كربلاء المقدسة بل عموم المسلمين، إلا أن هناك أبعاداً أخرى تعكسها فريضة من هذا النوع، أبرزها البعد الإجتماعي والنفسي والآثار الروحية والتربوية لصلاة الجمعة التي تقام في الصحن الحسيني الشريف منذ سقوط الصنم وحتى الآن.
وكالة "نون الخبرية" تجولت بين صفوف المصلين وسجلت آراءهم لتضع الصورة كاملة أمام قرائها في سياق التحقيق التالي:
كانت البداية مع سماحة السيد أحمد الصافي، إمام جمعة كربلاء المقدسة، والذي بيّن أن لصلاة الجمعة أبعاداً اجتماعية وتربوية ذات زخم روحي كبير، فهي تساعد من خلال طرحها خصوصاً في الخطبة الأولى على حل مجموعة من الإشكاليات التي ينوء بها المجتمع مثل: الغفلة، المال الحرام، سوء تربية الأولاد، قلة الوعي بالنسبة إلى الأحكام الفقهية في العبادات والمعاملات، الابتعاد عن تراث أهل البيت (عليهم السلام)".
وأكد سماحته: "إن هذه الشعيرة المباركة لها دور فعال في حل هذه الإشكاليات بعضاً أو كلاً وبحسب استفادة المستمع(للخطبة) وانتباهه ومدى تفاعله ولعل هذا الارتباط يساعد كثيراً على أن يعيش المصلي أجواء روحية خاصة".
وأضاف: "عندما يستمع المصلي إلى آية من القرآن الكريم يسلط عليها الضوء أو رواية عن النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) يحاول الخطيب أن يشرح بعض مفرداتها مما ينعكس ذلك وبشكل واضح على تفكير المستمع بشكل إيجابي، ولقد لمسنا ذلك عند كثير من الأخوة المصلين من خلال متابعاتهم".
أما الشيخ حيدر الخفاجي، فقد وصف اجتماع المؤمنين بأنه عيد وكرنفال قلما تجد له نظيرا في الأديان والحضارات غير الإسلامية وقال: "إن لصلاة الجمعة آثارا عظيمة وكثيرة على الفرد والمجتمع وعلى عالم التكوين أو البيئة باصطلاح العصر الحديث. فإن الفرد الذي يحضر الجمعة يزداد إيماناً بلا شك لأن العمل الصالح يجر إلى الإيمان والهداية تتبع التقوى وهي تتبع العمل الصالح فكلما عمل الانسان صالحاً ازداد هداية على الأقل في ظرف حضوره إلى الصلاة ثم أنه يزداد علما بوجود الخطبتين التي يقوم بها عادة خطباء الجمعة فيزداد علما واطلاعا على أمر دينه ودنياه أيضا في هذا المجال. كما يستفيد من ناحية دنيوية من العلاقات والاطلاع على أحوال الناس والتعارف بينه وبينهم".
ويبين آثار الجمعة على المجتمع فيقول: "صلاة الجمعة عمل عبادي جمعي كالحج مشروط بالجماعة بحضور عدد من خمسة فما فوق وأحيانا يحضر المئات بل الآلاف. هذا العمل الجماعي فيه آثار جميلة جداً على المجتمع من قبيل حصول الترابط بين أفراد المجتمع الترابط والتعارف وهذا هدف قرآني (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) فالتعارف والترابط مطلوب قرآنياٌ مطلوب إلهياً. هذا المجتمع الذي يتعارف بعضه مع بعض يستطيع من خلال هذا التعارف ان ينطلق الى مشاريع عظيمة جدا. فالعلاقات بين الأفراد والتوجيه الصادر عن خطباء وأئمة الجمعات يساعد على أن المجتمع يسير في نهج موحد باتجاه أهداف سامية يبينها الخطباء بتعليم من المرجعيات العليا وبالتالي فهذا المسير يمثل هدفاً قرآنياً يصب في مصلحة المجتمع".
ويضيف الخفاجي: "إن صلاة الجمعة إذا أقيمت في مرقد الإمام الحسين عليه السلام يضاعف الأجر بلا شك لأن الصلاة في المسجد تعدل أربعة وعشرين صلاة في غيره وفي رواية أن الصلاة في مرقد الإمام الحسين عليه السلام تضاعف بالمئات بل الآلاف. ويعني هذا مضاعفة المسير العمودي لمعنى المعراجية.. مضاعفة هذا المسير مضاعفة مدياته. فالصلاة في الحديث الشريف معراج المؤمن يصعد بها روحيا ومعنويا وعلميا وشعوريا إلى الأعلى. أي إلى المطالب والأهداف الإلهية والمنازل الروحية العالية. هذا إذا كان في مكان مقدس فكيف بمرقد الإمام الحسين عليه السلام؟! يعني يعد في ذروة القداسة والسمو".
ويرى السيد علاء الدين الحسني أن صلاة الجمعة تتميز بالوعاء الزمكاني الذي يحتويها فهي تكون في يوم عده الإسلام عيدا من الأعياد وفي مكان هو الأفضل والأشرف ويعني به المسجد بشكل عام والصحن الحسيني على وجه الخصوص. وقال: إن يوم الجمعة كفارة لما بين الجمعتين من الذنوب وروي عن النبي صلى الله عليه وآله: "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه" وعد التعجيل يوم الجمعة إلى المسجد من أعظم القربات والصدقة فيه لها ميزة على غيره وأنه اليوم الذي ادخره الله لهذه الأمة. أما المكان وهو الصحن الحسيني المطهر فيعد من الأمور المقربة إلى الله تعالى ومجرد وجودك في الصحن له أثر مستقل فكيف إذا توجهت إلى الصلاة فيه؟!
وينبه "الحسني" إلى خطورة استغلال صلاة الجمعة لأغراض شخصية قائلا: "ينبغي على إمام الجمعة أن يجنب هذا الجمع الإلهي وينزهه عن الأغراض والمصالح الشخصية والفئوية كالإستغراق في ذكر حزب معين أو قضية معينة أو دائرة معينة لأن في ذلك خروجاً عن سياق ما أراده النبي صلى الله عليه وآله من صلاة الجمعة".
ويذهب الأستاذ عبد اللطيف الحسناوي إلى أن الاجتماع لصلاة الجمعة بحد ذاته له أثر بليغ في تذويب التقوقع النفسي والانخراط في الحس الجمعي وانصهار الطبقية المادية والانتمائية بجو التجرد من تلك الحجب نحو ارتقاء لعالم ملكوتي خال من هذه الطبقية.
ويضيف: لعل الأنبياء ضمن وظيفتهم جاءوا لرفع الأنا من الإنسان ومن وسائل ذلك صلاة الجمعة والجماعة على أن تكون حقاً عبادة لا عادة ولا تكون مرتعا للشرك الأصغر حين يكون التزاحم باتجاه الصف الأول.
ويؤكد بأن لصلاة الجمعة ثمرتها العلمية والاجتماعية وفي مستوى الطرح العقائدي والفكري من خلال الخطبة الأولى وتأثيرها على بناء الجانب الروحي والخطبة الثانية وهي الأخطر في الدفاع عن حقوق المظلومين والتنديد بالظالمين وتبرئة ساحة قادة الدين من تهمة المداهنة للسلاطين وهذا لا يخفى على الفرد العراقي بعد ما محصته الأيام وغربلته البلاءات.
وتصف السيدة كوثر محمد العلي، وهي مدرّسة إسلامية، صلاة الجمعة بالملتقى الإنساني الذي "تتلاقح فيه الأفكار عن الدين والحياة وتتمادى فيه الخطوط الثقافية والاتجاهات النفسية فتلتقي عند نقطة انطلاق واحدة تؤدي بالنتيجة إلى موقف إنساني نبيل من كل القضايا محل الاهتمام المشترك".
وتعتقد بضرورة تطوير خطاب الجمعة "ليشمل عموم القضايا المعاصرة التي تواجه المسلمين في كل مكان وبيان النظرة السليمة إزاءها وكيفية التعامل مع كل المستجدات على الساحة العالمية وعدم الاقتصار على الشؤون المحلية، لأن خطاب الجمعة اليوم يختلف عن السابق فهو ينقل للقريب والبعيد عبر شبكات التلفزة والفضائيات والانترنيت ويتابعه الناس باهتمام في مناطق واسعة من العالم ما يعني أنه خطاب عالمي وليس محلياً ضيقاً".
وترى "العلي" بأن لصلاة الجمعة ثمرات طيبة عديدة أهمها اجتماع القلوب ووحدة الصف. ومن ثمارها أيضا الشحنة الروحية الإيجابية التي يكتسبها المصلي وخاصة الأطفال أو البالغين حديثاً إذا ما اصطحبهم آباؤهم أو أمهاتهم فسيشعرون بهيبة المكان وجماله مع حلاوة الكلام الرباني الذي تعكسه الآيات والأحاديث النبوية الكريمة والفوز بشرف الوقوف بين يدي الله تعالى وعلى هذه البقعة المقدسة.
ويقول محمد أحمد ـ زائر من البحرين ـ لمست عند حضوري صلاة الجمعة الكثير من المعاني الإنسانية والقيم الاجتماعية التي وحدت هؤلاء المصلين ولمت شملهم في مكان واحد خصوصاً إذا كان مرقد سيد الشهداء(عليه السلام) فالمردود المادي والمعنوي على المصلي أكثر والثواب أعمق.
ويضيف: من الواجب علينا إحياء صلاة الجمعة باستمرار والاستماع إلى ما يقوله إمام الجماعة لنعكسه على حياتنا اليومية، إضافة إلى الحديث عن همومنا ومشاكلنا وبالتالي أصبح هو لسان حال جميع المصلين والناطق الصادق عنهم.
فيما يشير السيد علاء نصر الله ـ مدرّس ـ إلى إنّ الإسلام الحنيف دائماً يدعو إلى الوحدة والتكاتف بين المؤمنين وهذا ما نجده بصورة دقيقة في الجمعات والصلاة الجامعة في المساجد والحسينيات وبالتالي سيتم التقريب بين وجهات النظر والتعرض إلى القضايا العامة بين أبناء المحلة الواحدة مثلاً، حتى تأتي صلاة الجمعة المباركة لتوحّد بين أبناء المدينة الواحدة وتجمعهم على الخير مثلما يجتمع المسلمون من كل أنحاء العالم لأداء فريضة الحج.
وعن التأثير والمردود الاجتماعي والثقافي والديني على شخصيات مقيمي الصلاة، يقول "نصر الله" إنّ صلاة الجمعة تجمع المؤمنين في مكان واحد ويستمعون لنفس الخطاب الديني والسياسي والاجتماعي لإمام الجمعة وبذلك يقترب المؤمنون من بعضهم البعض ويناقشون القضايا المطروحة فيكونون رؤية موحدة وموقفا جادا من كل ما يجري حولهم.
ويتابع: صلاة الجمعة تسلط الأضواء على الكثير من النقاط المختلف عليها بين الناس أو التي يحتاج إليها الناس في حياتهم اليومية وهذا ما نلمسه في كل جمعة عندما يتعرض الإمام إلى قضايا تهم المواطنين ويقوم من خلال منبر الجمعة بإيصالها إلى المسؤولين المعنيين بها والتي تمثل نفسها توجّهات المرجعية الدينية الرشيدة وبذلك سينعكس بالإيجاب على شخصية المصلي وهو يؤدي هذه الفريضة في مرقد الإمام الحسين (عليه السلام).
أما كامل إبراهيم طلال فيشدد على أن اهتمام المسلم بأداء فروضه الدينية، يؤثر على شخصيته إيجابياً إذ يكون فيها متصلاً مع خالقه وكذلك يؤديها وسط تجمع إنساني جميل كما صلاة الجمعة.
ويتابع حديثه: "عندما يحضر المصلي لأداء صلاة الجمعة يلمس دائماً بأن هنالك من يفكر فيه ويدعمه معنوياً ومادياً وكذلك يوقظه إن كان في غفلة من أمره، وهذا ما يجده في الخطبتين الدينية والسياسية لإمام الجمعة".
ويوضّح مصلٍّ آخر عرّف نفسه بأبي مثنى الجبوري، بأنّ "لصلاة الجمعة ثواباً عظيماً ولا بدّ من المواصلة على إحيائها لأن فيها إعلاء كلمة الله(عزّ وجل) وأخذ الموعظة التي ذكرها الرسول الكريم والأئمة الأطهار(عليهم أفضل الصلاة والسلام)".
ويضيف: "في كل جمعة يسمع المصلي موعظة جديدة ويتفهم معلومات ومواضيع مختلفة يمكن من خلال تطبيقها على حياته اليومية أن تجعله يرسم لنفسه برنامجاً شخصياً يأتي بالخير الوفير عليه وعلى عائلته ومجتمعه".
ويبين بأنّ "لقاء المؤمنين بالعالم الديني شيء مهم خاصة ونحن نتعرض للكثير من الأمور والقضايا التي لا نجد حلولها إلا عند علماء الدين وخاصة في أئمة الجمعة الذين يمثلون المرجعية الدينية".
ويدعو "الجبوري" في الوقت نفسه إلى "أن يحافظ المصلون وأئمة الجمعة على إحياء هذا الكرنفال الديني لما فيه الخير والصلاح للأمة الإسلامية التي تنتظر في كل لحظة الرحمة الإلهية من البارئ(عز اسمه) والشفاعة من المولى أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)".
فيما يبتدئ الشاب محمد محمد كلامه حول أهمية أداء صلاة الجمعة بحديث الإمام زين العابدين(عليه السلام): (اللهم وفقني لأداء فرض الجمعات وما أوجبت عليه فيه من الطاعات)، وبالتالي فإنّ "هذا اليوم له أهمية ومكانة كبيرة عند الله تعالى والذي سيجتمع فيه المؤمنون لأداء الصلاة والتقرب إلى الله(سبحانه وتعالى)، وكذلك تقوية النسيج الاجتماعي بين المصلين الذين يفدون من كل مكان لإحياء الصلاة".
وتجد السيدة أم علي الكاظمي في الحضور لصلاة الجمعة في الصحن الحسني الشريف متعة ليس لها نظير وتقول "فعلاً أحس بأن يوم الجمعة هو عيد للمسلمين، بل هو أجمل الأعياد".
وتواصل حديثها باعتزاز وغبطة تكشفها حركات يديها ونبرة صوتها: "أنا عاجزة عن وصف مشاعري وفرحتي وعندما أصلي الجمعة في هذا المكان الطاهر أحس بأن جبلاً من الذنوب قد تهدم بفضل هذه الصلاة، وأنني عدت كما ولدتي أمي بلا ذنوب".
وتتمنى "الكاظمي" لمنبر الجمعة التسديد والتأييد الدائم، وتشكر الأمانة العامة للعتبة الحسينية على مشروع تزويج الشباب المؤمن من بركات صلاة الجمعة داعية إلى توسيع وتطوير المشاريع التي تخدم الناس وتربطهم أكثر بالإمام الحسين عليه السلام.
ويؤكد العديد ممن التقيناهم خلال جولتنا أن صلاة الجمعة توفر فرصاً كبيرة لرأب الصدع بين الإخوة والأرحام والأصدقاء والجيران وتهيء الأجواء الهادئة لحل الخلافات الأسرية وفض النزاعات بين الناس جميعاً والسبب أنها تذكر بالآخرة وتحث على أخذ العبر والمواعظ وتشجع على التعاون والتكافل ونبذ الخلاف مهما كان نوعه وتقوي الآصرة الوطنية والإنسانية.
تحقيق: حيدر السلامي /علي الجبوري
وكالة نون خاص
أقرأ ايضاً
- الفساد يقضي على هور الصليبيات جنوبي العراق
- هيئة سفينة النجاة :خمسون عاما من الاصرار على اقامة الشعائر الحسينية بنكهة كربلائية(صور)
- ألمانيا.. "قمع" الشرطة يلاحق نشطاء مناهضون للحرب على غزة