إن كانت الديمقراطية استحقاقا جماهيريا يتجسد في الاداء الانتخابي عبر صناديق الاقتراع التي تعد الحكم الفيصل وضمن السياقات الليبرالية الحرة فإن على المؤسسات المنتخبة (التشريعية) استحقاقات مترتبة عليها تسجل في خانة المواطنة التي هي من المفاهيم الحضارية المتنورة وهي شعور المواطن بعمق التضامن بين أفراد المجتمع في إطار وحدة الوطن، ضمن منظومة من القيم والتقاليد والعلاقات الاجتماعية التي ينظمها العرف الاجتماعي والقانون العام للمجتمع وتظهر المواطنة في مفهومها السياسي كعلاقة تعاقدية بين المواطن والدولة ويفترض ان تتحقق تلك الاستحقاقات في عملية الانتخابات التي يفترض ايضا ان تكون عملية شفافة ونزيهة يتم بواسطتها اختيار الأشخاص الذين سيعهد اليهم اتخاذ القرارات ورسم السياسات العامة للدولة تتحقق من خلال البرامج المعلنة والاجندات الانتخابية المطروحة والتنفيذ العملي للشعارات التي تطرح في اليافطات الانتخابية ..
كعراقي لا تكفي الحماسة الوطنية ولا الإحساس العالي بالمواطنية لوصف منظومة الامتيازات العراقية وريثة منظومة الاولويات التاريخية المتقدمة على غيرها والمؤسسة بدورها لحزمة من الاهميات الجيوبولوتيكية والضرورات الجيوستراتيجية ليتموضع من خلالها العراق كأحد اهم المحاور العالمية الشاغلة والمشغولة معا على امتداد التاريخ واستطالة الجغرافيا كأحد المفاعيل المؤثرة والمتأثرة ايضا اقليميا وشرق اوسطيا وعالميا ومن المستحيل تجاوز الحدث العراقي مهما كان حجمه او تأثيره ومازال دوي الحدث العراقي (الانتخابات التشريعية) متصدرا اهتمامات العالم الذي تربو دوله على مئتي دولة بعضها دول توصف بالعظمى ..الحماسة الوطنية (والفخر الوطني) وحدها لا تكفي لرسم خارطة طريق تعطي توصيفا دقيقا للحدث المفصلي الذي جرى في السابع من آذار وان كانت هي شعورا غريزيا تمليه استحقاقات المواطنة الحقة وشعور الانتماء العضوي والسايكلوجي الى الوطن وكل ما يتعلق بهذا الانتماء من مرتكزات ، فالمسألة اكبر من الحماسة او الهوس الوطني او التوصيف الكلاسيكي لأية عملية انتخابية تجري في اية بقعة من بقاع العالم وما السباق المحموم نحو البيت الابيض في الولايات المتحدة الا مثل واضح على ذلك فهي تحتاج الى مراجعة نقدية وسياسية شاملة للمشهد العراقي بكل مآلاته وسياقاته المحلية والاقليمية ولوضع العراق في نصابه كبلد محوري وفي مداره الصحيح وهذا مرهون بالأداء الحكومي المقبل .
وهي محطة مهمة ومفصلية نحو تأسيس الدولة / الامة والحكومة المؤسساتية التكنوقراطية ( التنفيذية والتشريعية والقضائية والفصل بينها) وليست السلطة التسلطية المستبدة والمبتلعة للدولة / السلطة/المجتمع في آن واحد، ولتأسيس المجتمع المدني القائم على الاختيار الحر وثقافة حقوق الانسان وصولا الى الى النموذج الديمقراطي الفاعل الذي يحتكم الى صناديق الاقتراع كمؤشر حقيقي الى ديناميكية ديمقراطية ذات هوية عراقية بدأت تتجذر من الآن ليكون العراق بلدا يحتذى به في مجاله الإقليمي ولتعود اليه كاريزميته المحورية التي انفصلت عنه لعقود طوال من التخبطات التأسيسية والغياهب الديكتاتورية والتشوهات السياسية التي أقصت العراق عن نفسه وعن دوره الإستراتيجي الفاعل فنجاح الانتخابات التشريعية وفي ابسط مؤشراته دل على إن العجلة العراقية دارت واستمرت في الدوران رغم \"العصي\" التي وضعت بين طياتها كي توقفها عن الدوران .
الانتخابات البرلمانية الأخيرة كانت إحدى المحطات المرحلية المهمة نحو تأسيس دولة مدنية تقوم على آلية التداول السلمي للسلطة بالانتقال من الديكتاتورية بكل أشكالها ومن ثم الابتعاد عن آليات التصارع حول الهويات والتخندق عبر الاثنيات والتناحر من خلال التقوقعات البعيدة كل البعد عن الهوية الوطنية للدولة والهوية المؤسساتية للسلطة والهوية المدنية للمجتمع وذلك بالاتجاه نحو الترابط العضوي التعاقدي بين الدولة / الامة وبين السلطة / المجتمع المدني وتحقيق الوعي الديمقراطي / السياسي والشعور المتفاعل بالمواطنية والعبور الناجز للطائفية السلبية والقومية الشوفينية والاثنية المنغلقة والعرقية المتحجرة والتي رسخت بعضها الديكتاتوريات والاحتلالات والأجندات الخارجية وتوجهات بعض الحواضن الداخلية الشاذة .. والخروج من تخوم التمركزات ـ ولو نسبيا أو مرحليا ـ المنتجة للتحاصصات التي شوهت نموذج الدولة البديل لنموذج اللادولة التي تمظهرت بالاستبداد الشمولي وبتجاوز عقدة الاستقصاءات والتهميشات وفوبيات عدم الثقة المتبادلة ونرجسيات الاحتكار السلطوي صاحب الحق \"التاريخي\" تلك التي أنتجت لعقود طوال دولة السلطة التي عانت ويلاتها الأمة العراقية ومازالت تعاني من هوامش تأثيراتها لحد الان بعد ارث طويل من فوضى بيانات رقم واحد والانقلابات العسكرتارية الآتية عبر \"الدبابات\" المشبوهة والإملاءات الخارجية واللاإستقرار المستديم على كافة الأصعدة خاصة السياسية والاقتصادية والتفكيك المتعمدة للنسيج المجتمعي العراقي وتجريد المكونات الديموغرافية من خصوصياتها الانثروبولوجية والإنسانية وسحق بصماتها وخصوصياتها.
ومن المفارقات التاريخية انه في إبان اشتداد الأزمة الأمنية التي شهدها العراق قبل سنين حين كان على شفا حرب أهلية كانت هنالك مخاوف اقليمية وعربية وحتى دولية من \"عرقنة\" الازمات او الانحدارات الامنية وبعض تلك المخاوف كانت تتأتى من فاعلين إقليميين أثروا هم بأنفسهم سلبا (ومازالوا يؤثرون) على عموم المشهد العراقي ولم يكن يدور في بال تلك الأطراف إن \"الفوبيا\" المترتبة من \"العرقنة\" كنموذج لا يطعن في الخاصرة العراقية الرخوة فحسب بل من الممكن أن يجعل من أي مشهد \"عراقا\" آخر وكان الهاجس الإقليمي والعربي متوجسا من استنساخ التجربة العراقية البكر التي لفها الضباب وقتها سيما بعد سلسلة الانتكاسات الأمنية والتعثرات السياسية التي اجتاحت البلاد معيدة الى الذاكرة مأساة البوسنة والهرسك مرة اخرى والحرب الاهلية اللبنانية وغيرها وكان هنالك وجه آخر لهذه \"الفوبيا\" يبتعد نحو الاتجاه المعاكس (الايجابي) وذلك فيما اذا نجح النموذج العراقي الديمقراطي بـ \"عرقنة\" ايجابية ونموذجية في الوقت الذي يكون العراق أشبه بواحة الديمقراطية وسط صحراء الاستبداد بل يكون النموذج الاكثر تحضرا ونجاحا في منطقة تعج بها انظمة تتخذ من الديمقراطية \"اكسسوارا\" تزين بها تيجانها وديكورا تجمـِّل بها عروشها في وقت ان التجربة العراقية التي خرجت كالعنقاء تحت ركام الديكتاتوريات بدأت تسير نحو نجاح دفع الشعب العراقي ثمنه باهظا سواء قبل تغيير نيسان 2003 أو بعده والرهاب الاكبر من هذه التجربة اقليميا وعربيا هو ترسيخ النموذج الديمقراطي العراقي كما هو مؤمل له ليعود العراق ليس لاعبا إستراتيجيا فقط بل لاعبا ديمقراطيا ايضا وان كانت هذه التجربة تحتاج الى دورات تشريعية اخرى لتتجذر الديمقراطية الحقيقية على جميع المستويات النخبوية والشعبوية وليزداد الوعي الجماهيري بأهمية وفاعلية الديمقراطية في انتاج النموذج الدولتي (العراقي) المتميز ليتصدر القافلة الشرق اوسطية التي كان متصدرها لقرون طوال .
أمام الحكومة المنتخبة الجديدة مهام تاريخية جسام تتحدد على ضوئها خارطة طريق نحو مستقبل اكثر اشراقا؛ منها استمرار الكفاح للخروج من طائلة البند السابع الذي يعد من اهم اولويات المستقبل القريب كونه من اكثر الاستحقاقات العراقية المترتبة على المجتمع الدولي ، وان تتعامل مع ملفات ستراتيجية ملحة من اهمها الملف الامني الشائك ووضع حد نهائي للارهاب وملف الفساد الادارى والمالي (مازال العراق متصدرا دول العالم في هذا المجال بحسب التقارير الدورية لمنظمة الشفافية الدولية) ومعالجة مستويات البطالة التي مازالت مرتفعة نسبيا سيما المقنعة منها .. وعلى الصعيد الخارجي اقامة علاقات متوازنة مع جميع الاطراف الاقليمية والدولية خاصة دول الجوار تكون مبنية على اسس المصالح الوطنية اولا وعلى المصلحة المشتركة التي تصب في خدمة الشعب العراقي وغيرها من الملفات والاجندة فضلا عن الكثير من مشاريع القوانين المهمة التي مازال الكثير منها لم ير النور لحد الآن وقبل كل شيء ان تكون التوليفة الحكومية الجديدة توليفة تكنوقراط وإن في حدودها الدنيا والتعاطي مع مفردات الشأن العراقي من زاوية عراقية ووطنية صرفة بعيدا عن المصالح الشخصية والجهوية الضيقة او تلك المتعلقة بالمؤثرات الاقليمية وهذا من اولى ابجديات استحقاقات المواطنة.
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- كيف ستتأثر منطقة الشرق الاوسط بعد الانتخابات الرئاسية في ايران؟
- قبل الانتخابات وبعدها