نحن في آخر الزمان. كلمات يرددها الكثيرون منا كما رددها أجدادنا من قبل، فنوائب الدهر و مصائبه كثيرة. لكن المستجدات الطارئة التي نعيشها في عالمنا اليوم من أزمات مالية و حروب و أوبئة كان آخرها و ما يزال إنفلونزا الخنازير تجعلنا نتساءل عن السر الكامن وراء كل هذا.
يقول بعض الناس (إنها إرادة الله و حكمته) أما غيرهم فيجدون في انتقام الطبيعة تفسيرا ً مناسبا ً. و بغض النظر عن وجهات النظر المتباينة فنحن أمام اختبار كبير و خطير للإنسانية جمعاء و خاصة الدول المتقدمة منها. فهي لم تزل كما باقي أسواق العالم تعاني من تفاعلات الأزمة العالمية حتى وقعت في حبال أزمة أخرى تهدد ما تبقى من رمق في حياة اقتصاداتها.
و لا تقل الأضرار الصحية لوباء الخنازير خطورة عن الآثار السلبية على الاقتصاد العالمي. فقد أدى الوباء الذي أصاب العالم سنة 1918 إلى خفض الانتاج المحلي للولايات التحدة الأمريكية إلى 3 نقاط بالمئة و اليابان إلى 8.3 نقاط بالمئة. في حين تتوقع بعض الدراسات أن ينخفض الناتج المحلي العالمي جراء هذا المرض إلى 12.6 بالمئة في أسوأ حالاته.
والأمر المثير في هذا المرض أنه يصيب الأشخاص الذين هم في سن العمل (خمس و أربعون سنة فما دون) مما يهدد بتباطؤ معدلات الانتاج العالمية و ينذر بنقص حاد في القوى العاملة (لا قدّر الله). و قد عكست بعض المؤشرات المالية حالة من الانخفاض الحاد في بعض الاقتصادات العالمية التي انخفض الطلب فيها بمعدلات كبيرة.
و من النتائج السلبية لانتشار هذا الوباء زعزعة ثقة المستهلكين في الأسواق في حين يحاول الكثيرون منهم تجنب التواجد في الأماكن المزدحمة كالأسواق و المطاعم و المقاهي و المطارات و هذا يعني تأثر السياحة العالمية جراء المخاوف من انتقال هذا الفيروس عبر الطائرات و المسافرين أو من خلال بعض البضائع و المأكولات التي تحتوي خاصة على لحوم الخنزير.
أما أسواق الاستثمارات المالية التي كان من الممكن أن تضخ مزيدا ً من الأموال لتعزز من الثقة في أسواق البورصة فسوف تحاول التأني و الابتعاد عن كل ما يعرضها لانتكاسات هي في غنى عنها. أي أن الدول الغنية سوف تجد أنفسها مجددا ً بين مطرقة العجز التجاري و سندان الضخ المالي و الاقتراض الحكومي. و هو ما سوف ينعكس سلبا ً على احتياطي العملات في خزائن تلك الدول و يخفض من القدرة الشرائية لها.
و لا تقتصر الآثار السيئة لهذا الوباء على الاقتصاد و حسب بل تتعداها إلى قطاعات أخرى كالرياضة. فقد تتأثر بعض البطولات و التجمعات الرياضية الكبيرة جراء إلغاء بعض اللقاءات و غياب بعض الدول عنها. كما أن الجمهور الذي اعتاد على حضور مباريات كرة القدم مثلا ً قد يفكر مطولا ً في جدوى تشجيع إحدى الفرق مقابل تعرضه لخطر الإصابة بهذا المرض.
أما الرابح الوحيد في هذه الأزمة فهو شركات الأدوية المضادة للجراثيم و المعقمة . فقد فرغت العديد من الصيدليات و المخازن في دول أوروبية من هذه المضادات و هو الأمر الذي عاد على شركات تلك الأدوية بأرباح عالية جدا ً.
و تحاول بعض الدول الحد من المخاوف و الهلع الذي قد انتشر في أرجاء العالم عبر حملات التوعية المحلية و تركيب أجهزة المسح الشعاعي للكشف عن الإصابات بهذا المرض في حين عمدت دول أخرى على عملية إعدام جماعي للعديد من الخنازير المتواجدة على أراضيها كما حدث في مصر مثلا ً. في حين بادرت دول أخرى إلى الإسراع في تخصيص مبالغ مالية كبيرة في البحث عن علاج و أمصال قد تجنبنا الضريبة العالية التي سوف ندفعها إذا ما انتشر هذا الوباء من دون التوصل إلى حل و علاج يقي من الإصابة منه.
هذا على صعيد التحليل الاقتصادي لنتائج هذا الوباء لكن ما هي آثاره على المواطن العربي العادي. يقول البعض أن المواطن العربي الفقير لم يهتم لجنون البقر لأن مجتمعاته تعاني اصلا ً من جنون بعض البشر. و لا يخاف العربي من إنفلونزا الطيور لأنه يوقن بالحكمة التي تقول (ما طار طير و ارتقع إلا كما طار وقع) و لا يفكر أصلا ً بإنفلونزا الخنازير لأنه (لا يتعاطى إلا مع البطاطا)... فالمواطن العربي المعدم يعاني مما هو أمر من كل هذه الأوبئة.
لقد تفشى جنون الكراسي في دولنا العربية حتى أصبح واقعا ً معاشا ًو استشرت إنفلونزا الرشاوة و الطائفية و العرقية المقيتة حتى بات بعضنا درجة أولى و ثانية و تفشت حمى الفساد المالي و الإداري المستشري في دوائر و مؤسسات المجتمعات العربية . فهل هناك ادوية تقضي على هذه الأمراض الفتّاكة و هل هناك أمصال تحمي من الغزو الفكري و الثقافي الذي يتعرض له شبابنا يوميا ً و من هو الطبيب الذي سوف يخرج الفقير من دوامة الديون و الركض وراء لقمة العيش.
و أخشى ما أخشاه اليوم هو أن يكون البقر و الطيور و الخنازير قد أصيبوا بالحسد و العين . فهم يعيشون في بعض الأحيان بأحسن حال مما يعيشه كثيرٌ منّا في عالمنا العربي. فالطيور تسافر بكل حرية بين الدول في حين أن العربي مقيد بتأشيرات الدخول و المعاملة المهينة أحيانا ً . و البقر في هولندا لا تحلب إلا على أنغام الموسيقى بينما يحلب المواطن العربي من قبل الكبار على أنغام التهديد و الوعيد . كما إن الدفء و الاستقرار الذي تحظى به هذه البهائم تفتقده عوائل كثيرة تعيش غريبة في أوطانها و تحلم أن تعيش الغربة لأنها لا تجد الوطن الذي يضمها إليه و يشعرها بكرامتها الإنسانية.
و في ضوء كل ما يجري اليوم نتساءل عمن هو الذي يجب أن يخاف الآخر، أيهرب البشر من الخنازير أم أن العكس هو الصحيح. و لم لا و الخنازير البريئة في كندا على سبيل المثال ، كانت تعيش في سلام و أمان إلى أن أصيب قطيع كامل منها بالمرض و العدوى من الإنسان. هذا الكائن الذي استخلفه الله على الأرض ليعمرها فخربها بحجّة العمران و دمّر طبيعتها بحجة الحضارة و هدّد حتى وجوده هو نفسه. و لا أبالغ في القول أن ما يعيشه البشر من صراعات في الحياة اليومية يجعل الإنسان يفكر ألف مرة قبل الاقتراب من أخيه الإنسان تجنبا ً لوجع الرأس و الهموم و المشاكل. حتى أن الناس قد طوّروا في حياتهم اليومية أمثلة شعبية كثيرة تعبر عن هذا كالذي يقول (الذي فيني يكفيني) و (الباب الذي تأتي منه الريح سدّه و استريح) و غيرها...
و لا يجب أن نغفل الوباء الحقيقي الذي تفشى بين البشر و هو وباء الأنانية و حب الذات الذي خلف الأزمات و الحروب و الدمار. و ما أزمة المال الراهنة التي نعيشها اليوم إلا دليل واضح على الجشع و الخداع الذي اعتمده بعض الناس في تنمية الثروات بينما يرزح الملايين تحت خط الفقر و يعانون الجوع.
إذا ً فما هوالوباء الحقيقي الذي يجب أن نخافه و نقضي عليه و هل سوف يأتي اليوم الذي نرى فيه البقر و الطيور و الخنازير واضعة كمّامات لتتقي شر الإنسان و ما يأتي إليهم منه.