من ملامح الماضي المؤلم اتذكر لحظة مرت امامي وانا اتطلع الى جهاز التلفاز وهو يعرض احدى جولات (السيد النائب) منتصف السبعينات وبالتحديد قرب نفق الشرطة الحالي حيث ظهر امام محل بسيط للبقالة يديره احد الكهول وكان وقف امامه بضعة رجال ونساء، ومن فوره راح (القائد الضرورة) يعلن للمشاهدين براءة اختراعه الجديد وهو يخاطب هؤلاء المتبضعين بان عليهم ان ينتظموا في طابورين احدهما للنساء والثاني للرجال لان (النظام) يتطلب ذلك.
تمالكني العجب من هذا التصرف الذي وضع قيودا لامبرر لها امام حرية هؤلاء المواطين في طريقة التسوق لكني ايقنت من تلك اللحظة وانا اراقب هذا السلوك الذي بدا ساذجا وسطحيا في الظاهر بانه يخفي وراءه ملامح مخطط رهيب مآله ان يجعل ابناء الشعب العراقي يكابدون شظف العيش في الحصول على قوتهم اليومي، مقابل اقتصاد سينهار لامحالة وهذا ماتحقق نتيجة الحروب العبثية للنظام التي حولت البلاد الغنية الى افقر دولة مكبلة بديون لايمكن لذلك النظام ان يسددها يوما مايجعل الشعب العراقي المظلوم في معاناة مستمرة.
ويبدو ان بعض الوزارات التي تتحكم بمفاصل الاقتصاد العراقي قد استمرأت موروثة الطوابير هذه واصبح كل شىء ذي علاقة باحتياجات المواطنين الاساسية بحاجة الى الكثير من الطوابير وما يصاحبها من مشقة بالغة يعانيها المواطن طيلة ايام السنة.
فطوابير وقود السيارات تستحق جائزة الارقام القياسية العالمية (غينيس) حيث لايوجد طابور يشابهه منذ اختراع السيارات لاول مرة في العالم، وبنفس الاهمية طوابير المواطنين الذين يتجمعون امام محطات الوقود وبيمينهم البطاقة الوقودية للحصول على النفط الابيض استعدادا لشتاء اشد قسوة لان الذي لايستلم حصته خلال الشهر يسقط حقه وتسقط معه البطاقة الوقودية، ولهذا فان المواطن المسكين يخرج قبل صلاة الفجر على امل ان يحصل على ضالته ولكنه يعود خالي الوفاض وهكذا تنتهي ايام الشهر دون ان يحقق امنيته الغالية بالحصول على حصته، ما ادى ببعض العوائل الى تجنب الوقوف في هذه الطوابير اللعينة التي اصبحت هما كبيرا وخيارا لابد منه.
ولو كان الحصول على الكهرباء في طوابير لوقف 30 مليون مواطن عراقي في طابور اطول من سور الصين العظيم. والحديث يطول بشان الطوابير الاخرى التى يعاني منها المواطن العراقي والتي اصبحت واحدة من معالم الاقتصاد العراقي الجديد، حتى ان بعض المسؤولين الجدد حينما تحاول الاعتراض على هذه الطوابير يذكرك بطوابير النظام المخلوع المتعددة وكانها قانون موروث تصح عليه المقارنة النسبية دائما او انه يريد ان يقول لك استحمد الله على ما انت عليه، ما يجعلك تتساءل هل اصبحت هذه الطوابيرمبررة يمكن الركون اليها كلما تحدث ازمة يتحملها المواطن دائما دون وضع حل نهائي لها ام اضحت موروثا عراقيا يشكل سمة من سمات الاقتصاد العراقي في جانبه الخدمي؟ ونحن نقول اذا كان الامر كذلك فبئس الوارث وبئس الوريث.