- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
قراءة نقدية في خطــاب الســلطة الرابعة الصحافة العراقية إنموذجاً 1-2
ما أن تسنح لك الفرصة وتواتيك الرغبة لتطالع ما تجود به صحافتنا المحلية من أخبار سياسية، وما تجتهد لتقديمه من معلومات اجتماعية، وما تهتم لتوضيحه من أرقام اقتصادية
حتى ينشرح لتفاؤلها صدرك، وتبتهج لاندفاعها نفسك ، وتنفرج لقناعتها أساريرك، للحد الذي تخال انك في عالم غير العالم الذي تتجرع مرارته، وفي دنيا غير الدنيا التي تتلظى بهمومها، وفي مجتمع غير المجتمع الذي تجلد بتعاسته، بحيث تستحوذ عليك الغبطة الساذجة ويستأثر بك الحبور الأبله. وذلك ليس لأن المعلومة التي تطرح عليك بجرأة أو تناقش أمامك بحرية، تتمتع بالحصانة الواقعية التي لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من بين يديها كما قد يحسبها البعض.
أو ان الخبر الذي يتداول بوثوقية زائدة عن الحد أو يسوق باطمئنان فوق العادة، يتجلبب بغطاء الشرعية - فتلك على اية حال مسألة لا يقع البرهان عليها ضمن مدى ادراك المواطن العادي ، ولا حتى يكون بمقدوره ، لو أراد ذلك ، التأثير على مآلها - بل ان جلّ ما في الأمر أن هناك ما يشبه عملية التواطؤ غير المعلن ، يغذيه وينميه تدني مؤشرات وعي القارئ وانعدام قدرته على التحليل والاستقراء من جانب ، وبين سطحية ايديولوجيا الكاتب ومجاراته لإرهاصات السيكولوجيا الاجتماعية الغارقة في معمعات التطرف والتطيف من جانب ثان . أي بين شقي رحى العطالة الفكرية والخمول الذهني لقارئ أدمن على التلقي السلبي والقراءة (الاسقاطية) ، لانغماسه بهوس الحصول على كل ما يرغب سماعه من أخبار وتسقط كل ما يقع تحت ناظريه من معلومات من جهة ، وبين سفسطة كاتب وتخابث أساليبه لامتلاك أية وسيلة ممكنة لتوظيف علائم الشغف المفرط من لدن كافة الشرائح الاجتماعية بالمعلومة التي تروّج لمظاهر ما يشاع انه تحسن في الأوضاع الأمنية واستقرار في الأمور السياسية ، على خلفية معاناة القلق النفسي المعتق وهموم الضياع الاجتماعي المتراكمة التي أضحت من خصائص حياة الانسان العراقي ومسلمات وجوده . ولكن مراجعة بسيطة لملف الواقع المعاش وارشيف التجربة اليومي ، تكفي المواطن لكي يدرك عمق الهوة وبعد الشقة بين ما يقال في وسائل الاعلام من كلام جميل يشيع البهجة والاطمئنان ، وبين ما يحصل في المجتمع من أفعال مؤلمة تثير الحزن وتبعث الأسى . فحين يتاح للمرء تأمل أصناف بضاعة الكلام الاعلامي ، والوقوف على جودة مضامينه ، لأجل أن يقارن ويوازن بين ما يشاع في الصحف المحلية من معطيات ايجابية وبين ما ينداح على أرض الواقع من تداعيات سلبية ، لابد أن تأخذ منه الدهشة مأخذها وينال منه العجب مناله ، حيال ما آلت اليه (الدولة) من تعاظم القوة وتفاقم الجبروت، وان هي لا تزال مجرد اقطاعات متنابذة تتقاذفها املاءات دولية واقليمية، ما بين شدّ المركزية المقيتة وجذب الانفصال الطائش . وما شرعته (الحكومة) من قوانين جريئة وأنظمة حازمة، وما حققته من انجازات عظيمة وقدمته من خدمات واسعة وان هي لا تزال مجرد مؤسسات شكلية أوجبتها ضرورات تصريف الأعمال البروتوكولية، فضلا\"عن مستلزمات رضوخها لسلطة الاحتلال وحرمانها من أدنى مقومات السيدة الوطنية . وما اشرأب اليه القانون من مظاهر الهيبة وعناصر الاعتبار الأدبي ، وان هو لايزال تحت رحمة طغيان الفوضى واستشراء الاضطراب . وما لحق بالمليشيات المتطيفة والمجاميع المسلحة المسيسة من هزائم وانكسارات، وان هي لم تبرح تفرض ارادتها في اختيار الزمان والمكان اللذين ترشحهما لتنفيذ عملياتها ، علاوة على وضعها الأجهزة الأمنية والعسكرية بمختلف مستوياتها في حالة من الدفاع السلبي وردّ الفعل العشوائي . وما بلغته هياكل الاقتصاد من مؤشرات التعافي ومعدلات الازدهار، وان كانت فضائح الفساد المالي المستشري وجرائم غسيل الأموال المتفاقمة، قد طالت بعدواها الكثير من رموز السلطة واعيان السياسة. وما حققته الثقافة من غنى في القيم الاجتماعية وثراء في المعايير الاخلاقية، وان كانت الأعراف القبلية والحظوات الطائفية وحميات الاستزلام، لا زالت هي السائدة في المجتمع والمهيمنة على تفكيره . وما أصبح عليه الناس من وداعة في العلاقات وطيبة في التعاملات، وان كانت نوازع العنف ودوافع العدوان وهواجس الاستئثار هي التي تتحكم بمفاتيح الشخصية وتؤطر سلوكها. وهكذا في الوقت الذي يتحدث فيه المسؤولون في الحكومة عن ارتفاع مناسيب عودة الحياة الطبيعية لعموم أرجاء البلد، بنسب مئوية عالية - لا أدري كيف يحسبونها وعلى أية أسس يستخلصونها - من جهة، وانخفاض كبير في مستويات العنف الطائفي والجريمة السياسية بشتى أصنافها من جهة أخرى. فان دوي السيارات المفخخة وأصوات الأحزمة الناسفة ما انفك يحصد الالاف من الضحايا ومسلسل الفتك بالابرياء غيلة لأسباب سوف تبقى مجهولة مابرح مستمرا\" . وفي الوقت الذي لا يتردد فيه فرسان السلطة الرابعة من تلقف كل ما يتناهى الى اسماعهم تصريحا\"أو تلميحا\"، بخصوص مظاهر استتباب الأوضاع الأمنية واستئناف المهجرين بالعودة الى أوطانهم - عفوا\"ديارهم- ليباشر البعض من رموز تلك السلطة بالترويج لموضوعة (الرفسة الأخيرة) لحصان الارهاب المحتضر، فاذا بهذا الأخير وقد تحول الى غول بكامل عافيته لا يلبث أن يجعل من أجساد المواطنين المفتونين بقصص ألف ليلة وليلة ، هي المكان المفضل لرفساته القاتلة . وفي الوقت الذي يتغنى فيه أحد الزملاء العائدين من رحلة عمل خارجية الى حضن الوطن بجمال مدينة بغداد وخضرة بساتينها وتنظيم شوارعها ونظافة أزقتها ، فان أغلب مدن العراق ومعظم قراه قد تحولت الى كانتونات معزولة بعضها عن البعض الآخر نتيجة الاسراف في وضع الحواجز الكونكريتية ، وان بساتينها التي كانت في يوم من الايام مضرب الأمثال في الخضرة والنظارة ، فقدت من نخيلها فقط عشرات الملايين - بحسب احصاءات ذوي الاختصاص ، راجع صحيفة الصباح ، العدد(3221) بتاريخ 19 تشرين أول / اكتوبر 2007 - دع عنك ، بطبيعة الحال ، ما أصاب الواقع الزراعي عموما\"من تدمير موجوداته وتصحير مساحاته جراء الحروب المتكررة والعمليات العسكرية المستمرة التي شهدها العراق طيلة العقود الثلاث الماضية ولحد الآن . كما ان معظم شوارع بغداد وأزقة أحيائها تحولت الى خرائب وأطلال لا تزينها سوى أكداس النفايات وتلول الأنقاض . وعلى ما يبدو فان الجميع كانوا - ولا يزالون - مفتونين بالنظر الى الأمور من خلال نظارات الواقع الافتراضي المعتمة التي تجعل (كل ما يتمناه المرء يدركه)، وغير مكترثين بنظارات الواقع العراقي الشفافة التي لا تجعل فقط الأشياء تبدو على حقيقتها والأشكال على أحجامها فحسب ، بل وتجسم مساوئها وقباحاتها أيضا\" . والأنكى من ذلك كله ان هذه السيناريوهات الدراماتيكية تجري تحت يافطة ما يسمى (بالثقافة الديمقراطية) ، والزعم بأن من أبرز سمات هذه الثقافة وأخص صفاتها التأكيد على مقولة ؛ ان الاخفاق في توطين قيم الديمقراطية في المجتمع ، والفشل في جعل مبادئها مهمازا\"لحركته وأفقا\"لتطلعاته ، لا يتطلب سوى المزيد من الاجراءات الديمقراطية ، والاكثار من خطابات الدعوة لمضامينها والترويج لممارساتها ، بصرف النظر عما اذا كانت تلك الخطابات والدعاوى قائمة على الحقائق أو الأوهام ، فالأمر سيان طالما ان المعايير التي توزن بها الرهانات المصيرية للمجتمع هي معايير افتراضية لاواقعية، وايديولوجية لاعلمية، واسطورية لاعقلانية، وحزبية لاوطنية. فالعبرة هنا بالحصيلة المتحققة من مردود التعبئة الشعبية والتجييش الجماهيري . واذا كانت دواعي الشروع بإرساء دعائم المجتمع الديمقراطي ، وتأسيس مقومات العقل المتنور واشاعة مظاهر التداول الحرّ للمعلومات ، وانتهاج سبيل الشفافية في الكشف عن المعوقات ، في بيئة اجتماعية شهدت - وما تزال - أسوأ أنواع القمع لارادة الانسان ، وأحط ضروب الامتهان لكرامته ، وأقسى أساليب المسخ لشخصيته ، وأفظع حالات التسطيح لوعيه . فان ذلك قمين بحملنا على مراعاة حقيقة انه لايمكن لفكرة الديمقراطية أن تلقى رواجا\"نظريا\"وتحظى بالقبول عمليا\"في محيط اجتماعي جلّ اعضائه يتغذون على انتاج التلفيقات وتسويق المبالغات ، كما يتعذر عليها الهام التفكير العقلاني والجام السلوك العدواني بالاعتماد على ترويج الأماني وتزويق الخطابات .
فهي ( الديمقراطية) بعبارة موجزة ومركزة ؛ وعي مسؤول قبل أن تكون إرادة متهتكة، وثقافة وطنية قبل أن تكون اجتماعا متصدعا، والتزامات أخلاقية قبل أن تكون
تنظيرات حزبية، وممارسات شعبية قبل أن تكون مؤسسات حكومية