بقلم: زهير الجزائري
حين تتعبني الكتابة والقراءة تغلق الأفكار بابها.آنذاك أخرج من العوالم المتخيلة إلى الحياة في شوارع بغداد.أتحايل على الوقت لأخرج قبل الغروب بقليل. تيار الناس جارف بعد قيلولة الظهيرة، وعيناي في أوج نشاطهما تتنقلان بين الوجوه والأحداث وبين البضائع المفروشة على الأرصفة. أراقب نفسي والعالم المحيط و أوحّد الإثنين بالكلمات وهي تترسب في داخلي على موعد للكتابة.
حين أقارن نفسي بمن حولي اكتشف بأن خطواتي أبطأ، وأتردد كثيراً حين أنزل السلالم لأن القسم الأسفل من نظارتي مخصص للقراءة، فيريني السلالم مغبشة متحركة. الأجيال الشابة التي تملأ الشوارع تتحاشاني وتعبرني وهي مسرعة على موعد مع الحياة. أرى وأنا أمشي تجاور و تزاحم تجربتين وجيلين:
الجيل الأول عاش هيمنة الدولة على الاقتصاد والسياسة. يذكرني الصديق الباحث (عصام الخفاجي) بتلك الفترة “التأميمات التي قام بها جمال عبد الناصر في مصر منذ منتصف الخمسينات حتى عام 1963. بدأت بالتمصير واتّخذ خطوته الجريئة بتأميم قناة السويس، المورد الأكبر للعملة الصعبة، لينتقل بعد ذاك إلى قضم الملكيات المصرية الخاصة.:على عكسه لم تترك قرارات التأميم التي أصدرتها سلطة عبدالسلام عارف في العراق عام 1964 صدى إيجابياً ولم تحدث تغيرات ملموسة في مستوى معيشة الفقراء. كان عهد الأخوين عارف الأكثر ركوداً اقتصادياً منذ فترة مابعد الحرب العالمية الثانية. لكن تلك القرارات كانت خطوة في مسار سيقود بعد أقل من عقد إلى إحكام قبضة الدولة على المجتمع. قضت قرارات 1964 بتأميم التجارة الخارجية وانتقال ملكية المصارف وشركات التأمين ومعظم الصناعات الكبيرة من القطاع الخاص الى الدولة، لكنّها لم تمسّ قطاع النفط عصب الآقتصاد العراقي. فقد ظل هذا القطاع الذي يمثل عصب الاقتصاد العراقي محتكرا من جانب الشركات الأجنبية العملاقة. من هنا بدت “الإجراءات الاشتراكية”، كما سُمّيت يومها، مثيرة للسخرية على عكس إجراءات عبد الناصر. أهم نتائج تأميمات عام 1964 كانت بدء تحول الدولة إلى أكبر رب عمل في الاقتصاد العراقي. مع التأميمات بات خريجو الجامعة (باستثناء اختصاصات قليلة مثل الطب والمحاماة) لا يرون مستقبلا لهم غير العمل مع الدولة…كان لتأميم التجارة الخارجية واحتكار الدولة لعملية الاستيراد تأثيرهما الخطير كذلك: تفاقم التهريب، وتدافع الناس على السلع المستوردة في أورزدي باك، الذي أصبح اسمه بعد التأميم “شركة المخازن العراقية”. هذه الخطوات ستكرّس عقداً اجتماعياً جديداً بعد تأميم النفط عام 1972 وثورة أسعاره عام 1973. عقد اجتماعي يقوم على تأمين عيش المواطن وطبابته وتعليمه مقابل الإذعان للسلطة”. القمع الشامل سيعزز هذا الإذعان. لا أحد يجرؤ على أن يسأل هذه الدولة الغول عما لديها من عائدات النفط وما تصرفه في الأزقة الخفية المظلمة. المال مالها وما ينزل منها هو مكرمات. الدولة هي التي ترسم سياسة البلد الاقتصادية وتتحكم بالخدمات. معظم السياسيين الحاليين من هذا الجيل، ولذلك حذروا الأمريكان حين احتلّوا البلد من اتّباع أسلوب الصدمة باخضاع كل شئ للخصخصة الذي طبق على دول أوربا الشرقية بعد عقود من التجربة الاشتراكية.
الطابور
أغلب أبناء هذا الجيل، وأنا منهم، امتهنّا الوقوف في طوابير طويلة بصبر وخنوع للحصول على أبسط السلع، من الخبز وقد وزعت الدولة طحينه، إلى أكثر الكماليات ترفاً مثل جهاز الفيديو. وقد امتلكت (دولة الدكاكين) شركات متخصصة ببيع كل ما نحتاجه،(شركة المخازن العرقية، شركة الأجهزة الدقيقة، الشركة العراقية-الأفريقية، شركة انحصار التبوغ، شركة تعليب كربلاء،ألبان ابو غريب…) وهناك شركات القطاع المختلط الذي تساهم الدولة بالجزء الاكبر من رأسماله. تقوم هذه السلسلة من الشركات بتوزيع بتحديد حاجاتنا، ما هو مفيد لنا، أو ممنوع عنّا من السلع، و ما تبيعه لنا باسعار مدعّمة من مالها.
مايهمني من هذا النظام هو الطابور كشكل هندسي لتنظيم الناس أمام دكاكين الدولة. تعلمت في زمن الطابور أن أمرّن نفسي على الصبر: أنظر أمامي و أقيس الوقت المتبقي بعدد الناس أمامي دون أن أرى وجوههم أو أسمع تذمراتهم الخافتة فاجد أن صبري سينفد. ألتفت إلى الخلف فأرى طابوراً أطول، الواقفون فيه أقل مني تضجرا، او هكذا يتظاهون حين ألتفت إليهم، وقد سلموا أقدارهم الدولة التي تقيس ولائهم بتحملهم هذا الوقوف المذل. أحايل الوقت الطويل بأن أبتكر (دالغة) مثيرة تلهيني عن الوقت الطويل الذي ساقضيه واقفاً في الطابور وأنا بانتظار الحصول على راديو محمول من شركة الأجهزة الدقيقة أو كيس رز من جمعية موظفي الدولة. هناك أناس يصطفّون بالطابور أولاً ثم يسألون لاحقا عما ستتكرم به الدولة عليهم. أوشك الاصطفاف أن يتحول الى هواية وعادة. امتحان للصبر وإرادة الصبر.
أبناء هذا الجيل الذين امتهنوا الطابور تجاوزوا الآن الستينات. شهدوا الحروب والحصار. عرفوا جبروت الدولة وهيمنتها الاقتصادية والسياسية ورأوا الحروب والقمع وهم يبلعون ريقهم المرّ غير قادرين على الصراخ بل وحتى الهمس عن الرعب الذي عاشوه.
معظم هذا أبناء هذا الجيل صار له أحفاد ولم تفارقه فكرة انتظار المكرمات التي تنزل من الدولة. عليها يتوقف الأمر دائما على عنفها أو كرمها، ومقابل ذلك ينحي الفرد حقوقه المدنية كمواطن وحريته كفرد ويعلق سعادته بالدولة الغول التي جسّدها كلكامش:.
يرى كل شيء، يرى تخوم الدنيا
حكيم عليم، يعرف كل شيء
يخترق حالك الظلام بثاقب نظره
يدرك الأسرار، يعرف ما يخفي على الناس
بين فترة وأخرى أستعرض قائمة أصدقائي من هذا الجيل فيهولني غيابهم المتسارع في السنوات الأخيرة. أرى أسمائهم في قائمة تلفوناتي. أتردد قليلاً ثم أقرر أن لا أمسحها علَّ أحداً منهم يدق علي الجرس لينتزعني من كابوسي ويروي لي ماذا يحدث هناك في العالم الآخر.
لم يبق من هذا الجيل غير ٣٪ من تعداد الشعب العراقي البالغ ٤٠ مليونا. مع ذلك مازال هذا الجيل يهيمن على قيادات الدولة والأحزاب.
فقراء هذا الجيل ما زالوا ينتظرون تحسناً في الحكومة بحيث تشبع و تتوقف عن (اللغف) و تفكر برعاياها. ينتظرون، ينتظرون…حتى ييأسون فينتظرون رحمة الرب.
الجيل الثاني هو الجيل الذي شهد انهيار الدولة وجهازها القمعي وتوزع قوّتها على جيوش غير رسمية. في نهاية عشرينياته شهد هذا الجيل خصخصة مؤسسات الدولة وتوزع ريعها أفقياً على الأحزاب. وعلى عكسنا جيل الطابور، توزعت دكاكين الدولة إلى بسطات افترشت أرصفة بغداد ومعها تطشّر الطابور. معظم أبناء هذا الجيل بلا عمل، محشورون في بيوت الآباء غير قادرين على الزواج أو إنهم تعبوا من انتظار الفرج على أمل الهروب من هذا البلد القاسي الى جنان الغرب.
سياسيون بلا مثل
و كما ينقسم المواطنون ينقسم السياسيون بالِمثلْ. السياسيون من جيلي ياتون دائماً من الأحزاب، علمانيون أو دينيون. في الحالتين يحملون آيديولوجيا أرضية أو سماوية. العقائد لم يعد لها معنى في الحياة السياسية والعملية الحاضرة لأن القوة ما عادت تأتي من الله في نظر أحزاب الإسلام السياسي، ولا من العقائد في نظر الأحزاب العلمانية. تأتي من عدد المسلحين التابعين للحزب ومدى ضراوتهم في المواجهات. تتوقف على قدرتهم على فرض الفكرة على الواقع. ممارسة السياسة لا تعني ممارسة الفضيلة وإنما (وضع العنب في السلة)، اي النجاح العملي في ممارسة السلطة على الناس والحصول على مزيد من المردودات المالية وفي مواجهة أحزاب منافسة قد تكون من نفس الدين والطائفة ولكنها تختلف في المنافع.
ولو تابعنا الصراع الحالي بين الكتلتين المتنافستين (إنقاذ الوطن و الإطار التنسيقي) لوجدنا أن الصراع ليس عقائدياً، بين إسلاميين وعلمانيين، ولا بين إصلاحيين ومحافظين، إنما حول الحصص في السلطة. (الإطار التنسيقي) يريد الإبقاء على الصيغة السابقة التي تضمن للجميع المشاركة في السلطة بغض النظر عن حجمهم في انتخابات (١٠ أكتوبر ٢٠٢١)، و استخدام التفوق العددي للطائفة، في حين يريد (إنقاذ الوطن) إبقاء السلطة للأكثر عدداً في المقاعد وعزل الأطراف الخاسرة. و في الحالتين يريد كل طرف الحصول على أكبر مايمكن من العنب في سلته، أي الاستيلاء على أكثر ما يمكن من ريع الدولة. بهذا الريع يكسب اكثر ما يمكن من الأتباع في هذه العلاقة الزبائنية.
أقرأ ايضاً
- حجية التسجيلات الصوتية في الإثبات الجنائي
- قرداحي وحساسيات الساحة العراقية
- جيل ملقح بالفساد ومتمرس على العنف والنصب