- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الوجود التركي في العراق.. أرقام وحقائق صادمة
أنقرة ترى أنَّ الاقتصاد يمثّل أحد أهم وأبرز مرتكزات وأسس التوسع والتمدّد، فإنها لم تكتفِ بتكريس وجودها العسكري والاستخباراتي في العراق وترسيخه، إنَّما راحت تعززه بحضور اقتصادي.
وفقاً للصورة الإجمالية العامة، يمكن تحديد جملة أهداف للوجود التركي بطابعه السياسي والأمني والعسكري والاجتماعي؛ جزء منها تصرح به أنقرة وتؤكده، وجزء آخر يقول به ويفترضه الآخرون، سواء من أصدقائها وحلفائها أو خصومها وأعدائها.
ومن هذه الأهداف:
- صون الأمن القومي التركي المهدد من قبل حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (P.K.K)، الذي تتمركز معظم تشكيلاته العسكرية منذ أكثر من 3 عقود في جبال قنديل، عند المثلث الحدودي العراقي - التركي – الإيراني. تمثل تلك المنطقة منطلقاً رئيسياً للحزب لتنفيذ عملياته العسكرية في العمق الجغرافي التركي، مستفيداً من جملة عوامل وظروف جغرافية وفنية ولوجستية وسياسية.
وبقدر ما كان حزب العمال يتمدد ويتوسع، كانت تركيا تعمل باستمرار على توسيع نطاق وجودها، ليتجاوز المناطق الحدودية كثيراً، حتى إنه لم يبق مقتصراً على الطابع العسكري المحدود، ليصل إلى تخوم محافظة نينوى، ويكون بصورة معسكرات كبيرة تضم آلاف الجنود ومختلف الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة، كما هو الحال مع معسكر زليكان في قضاء بعشيقة التابع لمحافظة نينوى.
- السعي لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية بعد 100 عام من انهيارها وزوالها، والمؤشرات على ذلك واضحة، من خلال سياسات التوسع في كلِّ الاتجاهات، التي أخذ يتبناها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والتي تروج لها الأوساط والمحافل السياسية ووسائل الإعلام التركية بشكل كبير جداً.
وبينما يحرص إردوغان على تأكيد عدم وجود مطامع توسعية لدى أنقرة في المنطقة، تستمر بلاده في محاولة التمدد والسيطرة براً وبحراً على حد سواء، ومخطط "الوطن الأزرق" دليل واضح على ذلك. وما يُقصد به هو "الهيمنة على المنطقة الاقتصادية الخالصة على المياه الإقليمية المجاورة والجرف القاري لشرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجة".
وتردد العديد من الأوساط التركية أن الرئيس إردوغان يضع هذا المخطط في قائمة أولويات سياساته الخارجية، ولا سيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016. يشير إلى ذلك الباحث في مركز دراسات تركيا التطبيقية في العاصمة الألمانية برلين، بالقول: "إنّ مفهوم الوطن الأزرق لم ينطلق إلا بعد محاولة الانقلاب ضد حكومة إردوغان في العام 2016، إذ عمد الأخير إلى تشكيل تحالف سياسي مع القوميين، وشرع في سياسة خارجية أكثر عدوانية، شهدت انخراط القوات المسلحة التركية في النزاعات من شمال العراق إلى ليبيا".
- حماية المكون التركماني العراقي الذي يتمركز ثقله الاجتماعي الأكبر في محافظة كركوك الغنية بالنفط المتنازع عليه بين العرب والكرد والتركمان. ترى أنقرة أن هذا الهدف مبرر، وهو في نظرها لا يختلف عن تبني إيران الدفاع عن المكون الشيعي أو تبني دول أخرى الدفاع عن المكون السني العربي.
ولا تتحرج الحكومة التركية عن التحدث بصراحة عن هذا الموضوع. وأكثر من ذلك، تعتبر أنها مسؤولة من الناحية الأخلاقية والإنسانية عن الوقوف إلى جانب المكون التركماني، علماً أنها تسعى إلى مد الخيوط مع كل العناوين والمسميات التي تمثل أو تدعي أنها تمثل أبناء المكون التركماني - اجتماعياً وسياسياً - وإن كانت تبدو في بعض الأحيان أقرب إلى المنتمين إلى المذهب السني أكثر من المنتمين إلى المذهب الشيعي القريبين من إيران.
وفي منتصف شهر تموز/يوليو 2021، صرح السفير التركي في العراق علي رضا غوناي، خلال زيارة له إلى كركوك، قائلاً: "إنَّ مدينة كركوك العراقية تركمانية"، وإنَّ بلاده مهتمة بالمدينة وعازمة على مواصلة دعم التركمان المقيمين فيها، واصفًا إياهم بـ"الأتراك العراقيين وأبناء جلدتنا".
- تحقيق التفوق الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، بما يتيح لتركيا أن تصبح لاعباً دولياً فاعلاً ومؤثراً، ليس في المعادلات الإقليمية فحسب، إنما في المعادلات الدولية أيضاً. هذا الهدف يتوافق ويتواءم مع هدف استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية.
ولعل الخلافات والصدامات الحادة بين أنقرة من جانب، وعواصم عربية وإقليمية، مثل القاهرة والرياض وأبو ظبي، من جانب آخر، يعكس بشكل أو بآخر طبيعة الطموحات التركية المتنامية وجوهرها، والنزعة الواضحة إلى التوسع والهيمنة والنفوذ في شتى الاتجاهات.
إضافةً إلى ذلك، إن تأسيس منظمة الدول التركية في العام 2009 كتكتل اقتصادي إقليمي يضمّ مجموعة الدول الناطقة باللغة التركية، وبرعاية أنقرة وإشرافها، يعكس أيضاً جانباً من طموحات الأخيرة ومطامعها ونزعاتها.
ويدرك صنّاع القرار التركي وواضعو الاستراتيجيات البعيدة المدى أن تركيا لن تتمكن من تسجيل حضورها وفرض دورها المؤثر والمهيمن في الساحتين الإقليمية والدولية الأوسع، من دون تحقيق قدر كبير من الهيمنة على الدول المجاورة جغرافياً لها، ولا سيما تلك التي تعاني أوضاعاً وظروفاً سياسية وأمنية واقتصادية مضطربة.
ولا شكَّ في أن العراق يعدّ في مقدمة الدول التي تضع تركيا نصب عينيها هدف التمدد فيها، إذ إنها تجد أن الكثير من العوامل والظروف والدوافع التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية تساعد وتساهم في ذلك. وربما مع مرور الوقت، تتعدد وتتنوع أساليب ووسائل التدخل والوجود التركي في العراق، وهو ما يمثل مبعث قلق متزايد لدى أصدقاء أنقرة وحلفائها، ناهيك بخصومها ومنافسيها وأعدائها، ولا سيما ما يتعلق بطبيعة وحجم وجودها العسكري والأمني الكبير في شمال العراق الخاضع لسلطة الأحزاب الكردية.
وتتحدث تقارير موثقة من مصادر استخباراتية عن أن تركيا تمتلك 11 قاعدة عسكرية رئيسية في إقليم كردستان العراق، إلى جانب 19 معسكراً أساسياً تابعاً لها. وتتوزع تلك القواعد والمعسكرات على مناطق بامرني وشيلادزي وباتوفان وكاني ماسي وكيريبز وسنكي وسيري وكوبكي وكومري وكوخي سبي وسري زير ووادي زاخو والعمادية.
في العام 2015، أي بعد حوالى عام على اجتياح تنظيم "داعش" الإرهابي بعض مدن العراق، استحدثت تركيا، بحسب التقارير، معسكرات إضافية جديدة في مدن بعشيقة وصوران وقلعة جولان وزمار، وحوّلت معسكرها في منطقة حرير جنوب أربيل إلى قاعدة عسكرية، وقامت ببناء قاعدة سيدكان، وفتحت بضعة مقرات في مدينتي ديانا وجومان القريبتين من جبال قنديل، من أجل إحكام السيطرة على مناطق خنير وخاوكورك وكيلاشين، وبالتالي الاقتراب من مواقع تمركز تشكيلات حزب العمال الكردستاني.
ويُقدّر عدد العسكريين الأتراك (ضباط وجنود)، الموجودين في تلك القواعد والمعسكرات، بأكثر من 7 آلاف عنصر يتحركون بمساحات جغرافية واسعة تصل إلى حوالى 100 كلم في عمق الأراضي العراقية. وإضافةً إلى القواعد والمقرات العسكرية، ينشط جهاز الاستخبارات التركي (MIT) على نطاق واسع في إقليم كردستان. وبحسب التقارير، هناك 4 مقرات رئيسية له في كلٍّ من العمادية وماتيفا وزاخو وكاراباسي في مركز مدينة دهوك.
وتتنوّع مهامّ تلك المقرات الاستخباراتية، بحيث لا تقتصر على دعم الأعمال العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني وتعزيزها، إنما تمتدّ إلى العمل على ملفات سياسية وغير سياسية أخرى، مستفيدة من علاقاتها الإيجابية مع بعض القوى والأحزاب والشخصيات العراقية، الكردية والتركمانية والعربية.
وبما أنَّ أنقرة ترى أنَّ الاقتصاد يمثّل أحد أهم وأبرز مرتكزات وأسس التوسع والتمدّد، فإنها لم تكتفِ بتكريس وجودها العسكري والاستخباراتي في العراق وترسيخه، إنَّما راحت تعززه بحضور اقتصادي في مجال الاستثمارات النفطية، إذ يعمل عدد من شركات النفط التركية في 8 حقول في إقليم كردستان.
ووفقاً لمصادر إعلام كردية، تملك شركة "كنل إنيرجي" حصصاً، وبنسب مختلفة، في البلوكات النفطية في الإقليم، فهي تملك 25% في بلوك طاوكي، و40% في بلوك بيربهر، و40% في بلوك دهوك، و44% بلوك بناوي، و44% في بلوك طقطق، و75% في بلوك ميران، و60% في بلوك جيا سورخ.
وتملك شركة "بيت أويل" أيضاً حصصاً في حقول جيا سورخ وبلكانة بنسبة 20%، فضلاً عن أنَّ الجزء الأكبر من أنبوب نفط الإقليم الذي يمتدّ إلى ميناء جيهان التركي يقع داخل الأراضي التركية، إذ يبلغ طوله 896 كلم، ويبدأ من حقل خورملة جنوب أربيل، ويمتدّ داخل أراضي إقليم كردستان إلى مسافة 221 كلم، حتى منطقة فيشخابور قرب الحدود مع تركيا، ويقع 675 كلم منه داخل الأراضي التركية، ويخضع لإشراف شركة "بوتاش" التركية التي تجني عوائد مالية كبيرة منه.
لا تعمل شركات النفط التركية وحدها في إقليم كردستان، فهناك عشرات الشركات المتخصصة في قطاعات البناء والإعمار والصناعات الغذائية والدوائية والكهربائية والألبسة والتقنيات الإلكترونية، والتي تشغل حيزاً في مجمل النشاط التجاري والاقتصادي في الإقليم وعموم العراق، فضلاً عن المصارف التركية وشركات تحويل الأموال.
من الطبيعي أنّ كلَّ ذلك الثقل العسكري والاستخباراتي والاقتصادي التركي يمكن أن يمتد إلى المشهد السياسي، بصورة مباشرة وغير مباشرة، ومن ثم يوفر لأنقرة هامشاً كبيراً للتأثير في صياغة المعادلات السياسية العراقية، وعلى نطاق أوسع المعادلات الإقليمية. وقد لاحت معالم ذلك التأثير وملامحه بدرجة أكبر خلال الشهور القلائل الماضية، وخصوصاً ما يتعلق بحراك الانتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
وتبقى القضية الجوهرية والمهمة: هل يستطيع العراق كبح جماح الاندفاع التوسعي التركي تجاهه؟ وماذا عن تبعاته وآثاره وتداعياته المستقبلية؟ وثمة تساؤلات أخرى ملحّة أيضاً تحمل بين طياتها وثناياها هواجس مقلقة.