بقلم: حسين فرحان
عندما تجتمعُ فنونُ الآدابِ ومعارفُها في شخصيةٍ مُعيّنة، وعندما تتلقّفُها ذائقتُك مُجتمعةً في كيانٍ معرفي كبيرٍ يُملي عليك الشعرَ والنوادرَ وجمالَ المنطقِ وحُسنَ المقال ورصانةَ الرّأي وعذوبةَ الإحساس، وتنوّعَ الفنونِ، والإلمامَ باللغةِ ودِقّةَ الحرفِ والمعنى، فاعلمْ أنّك أمامَ شخصٍ لا ينطبقُ عليه سوى ما انطبقَ على أبي الفتحِ محمدٍ بن محمود بن الحسين المعروف بكُشاجم..
ذلك الشخص الذي لم تكُنِ الكتابةُ ولم يكُنِ الشعرُ إلا جُزءًا من معارفه، وبأوائلِ أحرُفِهما استهلَّ ما لُقِّبَ به (كُشاجم) مع ألفِ الإنشاءِ، وجيمِ الجدل، وميمِ المنطق، فتمَّ له بذلك هذا النعتُ وهذه الصفةُ التي أصبحنا نفتقِدُها اليومَ في أوساطِنا الأدبيةِ والمعرفية، فصارَ العبثُ بحروفِ لغتِنا في الأوساطِ التواصُليةِ الجديدةِ أمرًا مُستساغًا لا قُدرةَ لأحدٍ على منعِه إلا أماني من أناسٍ احترقتْ قلوبُهم وهم يشهدون هذا السقوطَ في وحلِ الفوضى وقلةِ الوعي بل قلةِ الإدراكِ لما يعني ضياعَ الحرفِ والأدبِ واللغة.. ضياعَ الفِكرِ والبُرهانِ والحُجّة.. ضياعَ المنطقِ وجمالِ الإيحاءِ وروحِ الكلمةِ وتأثيرها..
أصبحنا نفتقدُ أولئك الذين يُشارُ إليهم بأنّهم الكُتّابُ والشعراءُ والمُحدثّون والدُهاةُ حاضرو الجواب، أولئك الذين سعوا بكُلِّ جوارحِهم لتكونَ لهم بصمةُ إبداعٍ في كُلِّ فنّ، فلم يُدرِكوا بسبقٍ إلا ما تنافسوا فيه عبرَ مضمارٍ زمنيٍ يروي تفاصيلَ رحلةٍ ملؤها العطاءُ الفكري الذي يُميّزُه تنوّعُ المعارف..
فهو تنوّعٌ كانَ لأبي الأسودِ الدؤلي فيه نصيبٌ كبيرٌ وحظٌّ وفيرٌ حتى عُرِفَ بأنّه من السّاداتِ التابعين وأعيانِهم وفقهائهم وشعرائهم ومُحدّثيهم؛ إذ كانَ سريعَ البديهة، حاضرَ الجواب، وهو كذلك نحويٌ، عالمٌ، وضعَ علمَ النحوِ على أساسِ ما أملاهُ عليه أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، فشكّلَ أحرُفَ المصحفِ ووضعَ النقاطَ على الأحرُفِ العربية..
ومن مصاديق هذا التنوّعِ المعرفي والإلمامِ بالثقافاتِ المُختلفةِ ما وجدنا عليه السيّدَ حسين بن السيد رضا بن السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي النجفي الذي قالَ عنه الشاكري في كتابه: "عليٌ في الكتاب والسنة": (شاعرٌ، وعالمٌ، وجهبذٌ، ومؤلف).. وذكرَه السيّدُ الأمينُ في كتابه "أعيان الشيعة" بأنه كان: (فقيهًا، ماهرًا، أصوليًا، أديبًا، شاعرًا، جليلًا، نبيلًا، زاهدًا، ورعًا).. وهي صفاتٌ وملكاتٌ لا يُمكِنُ لأيّ أحدٍ أنْ يُدرِكَها دونَ جِدٍّ واجتهاد..
ولعلّ من شواهدِ العصرِ التي يُمكِنُ أنْ تندرجَ ضمنَ هذا الوصفِ الجامعِ لمحاسنِ صفاتِ رجالِ العلمِ والأدبِ شخصيةَ الدكتور أحمد الوائلي (رحمه الله) الذي كانَ رجلَ دينٍ، وخطيبًا حسينيًا، وواعظًا، وكان شاعرًا وأديبًا..
وفي جانبٍ آخر نجدُ شخصياتٍ ألمّتْ بهذه الفنونِ والآدابِ كالعقّاد وطه حسين وغيرهم ممّن إذا جالستَهم وجدتَهم موسوعةً ناطقةً تستشفُّ منها تلك الجهودَ الكبيرةَ التي بذلتْ لتصِلَ بصاحبِها لهذه المرحلةِ من الإلمامِ بهذه الثقافات..
لم يكنْ استشهادُنا بشخصيةِ (كُشاجم) ليكونَ محورًا للبحث -رغمَ أنّه يستحقُّ ذلك- لكنّها كانتْ استعارةً لأحرُفٍ تعارفَ الناسُ على نُطقِها إشارةً بكُلِّ حرفٍ منها لعلمٍ من العلوم أو فنٍّ من الفنون..
أصبحنا اليومَ نفتقدُ -وبشدّة- تلك الشخصّياتِ التي تتخذُ من مكتباتِها محرابًا لأداءِ طقوسِ تلقّي العلمِ وإعطاءِ حرفِ لُغتِنا المُقدّس حقّه، ومن ثم إثراءِ عالمِ المعرفةِ بالعطاءِ النقيّ الذي لا تشوبُه شائبةٌ تنتهكُ معاييرَه التي سارَ عليها عباقرةُ اللغةِ وغيرها من الفنون..
أصبحنا نرى المعاولَ التي تهدمُ ثقافتَنا، ولم نعُدْ نرى -إلا ما ندر- من يؤسِّسُ للعودةِ لثقافتنا، وهذا ممّا يؤسَفُ له أنْ نفرحَ بتأسيسٍ جديدٍ يحثُّ على العودةِ للمنهجِ العلمي الرصين الذي يمنحُ الفُرصةَ للجيلِ الحاضرِ أنْ يخطوَ بخطواتٍ واثقةٍ نحو أنْ يكونَ حلقةً في سلسلةٍ معرفيةٍ اجتهدَ خلقٌ كثيرٌ في الحفاظِ عليها..
أصبحنا نبحثُ عمّن يكتبُ كلمةً صحيحةً دون خطأ، أو ينطقُ بها دونَ لحن.. نحنُ نبحثُ عن أضعفِ الإيمانِ في أنْ نُحافِظَ على ما تبقّى، فلو تُرِكَ الأمرُ دونَ عنايةٍ سنجدُ ثقافتَنا -دون شك- تتجهُ نحو هاويةٍ ومنزلقٍ خطيرٍ يُفضي بها إلى لُغةٍ هجينةٍ تطغى فيها مُفرداتٌ (فيسبوكية وتويترية) لا أصلَ لها ولا يُمكِنُ تصريفُها أو وضعُها في ميزانٍ مُعين، بل لا يُمكِنُ معرفةُ ما تُشيرُ إليه، وسيكونُ لفرطِ استعمالِها في المُخاطباتِ اليوميةِ أثرٌ بالغٌ في فرضِها كلغةٍ جديدةٍ لا تُكلِّفُ مُستخدمها مشقةَ رعايةِ أنْ تكونَ الضادُ أو الظاءُ في محلها، ولا أنْ تُراعى حركاتُ أواخرها، أو أنّها تخضعُ للقواعد أم لا..
الحقيقةُ المؤلمةُ أنْ تفقدَ تراثَك.. والصدمةُ أنْ تلتفتَ يمينًا وشمالًا فلا تجدُ تلك الشخصياتِ المُثقفةَ التي تجعلُك تُنصِتُ لها إنْ تكلّمت، أو أنْ تقرأ لها دونَ ملل.. الحقيقةُ المُرّةُ أنْ تجدَ لُغتَك وثقافتَك وتراثَك من الأمورِ التي صُنِّفتْ لكي تكونَ هامشًا لقضايا مُستحدثةٍ لا قيمةَ لها سوى صناعةِ الفوضى وصناعةِ العبث والثرثرةِ الفارغة التي لا تُجدي شيئًا..
إنّنا لا نطمحُ إلى أنْ تكتظَّ حياتُنا بالأُدباءِ والشُعراءِ وأهلِ الاختصاص في مجالِ اللغة بقدرِ ما يهمُّنا أنْ نحافظَ على هذا الإرثِ الكبيرِ، ونُديمَ وجودَه ولو بالإشارةِ إليه فلعلّنا بعد ذلك نشهدُ عودةً ميمونةً للشخصيةِ (الكُشاجمية) بجميعِ أحرُفِها أو ببعضِها على أقلِّ التقديرات.