- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
ومضات اجتماعية... خصلتان احذرهما النزق وقلة الكتمان
حجم النص
بقلم:حسن الهاشمي
فيما اذا طرق مسمعك خبرا ما، واذا واجهتك مشكلة ما، واذا رأيت حادثة ما، احذر النزق وهو الطيش الذي يكون فيه خِفّة وتسرّع في التعاطي مع ما سمعت أو واجهت أو رأيت، وذلك لما في النزق من عجلة في جهل وحُمق في البت في الأمور وليس في دراية وحكمة في معالجتها والخروج منها دونما منغصات ومشاكل، نعم ولكي يكون رأيك صائبا وقرارك حكيما أنت بحاجة الى التأني والتفكر وربما استشارة ذوي الخبرة والنصح والارشاد، واذا ما طرقت باب الحكمة والصبر فانك ستدخل لا محالة الى بستان الصواب والسعادة والأمل، بخلاف اقتحامك باب الطيش والنزق الذي يوردك النوائب والمصائب والمهالك غير مأسوف عليك.
واحذر كذلك قلة الكتمان، واستعن بقضاء حوائجك بكتمان السر، لعل الكثير من الحسّاد لا يطيقون نجاحك وارتقاءك مراتب الكمال، ربما تقع أنت والنعمة التي فيها في مصيدة عينهم وكيدهم وشرورهم، واعلم ان كل من حصَّن بالكتمان سرَّه تمَّ له تدبيره، وكان له الظفر بما يريد، والسلامة من العيب والضرر، وإن أخطأه التمكن والظفر، والحازم يجعل سرَّه في وعاء ويكتمه عن كلِّ مستودع، فإن اضطره الأمر وغلبه أودعه العاقل الناصح له؛ لأنَّ السرَّ أمانة، وإفشاؤه خيانة، والقلب له وعاؤه؛ فمن الأوعية مَا يضيق بما يودع، ومنها مَا يتسع لما استودع.
الاسلام دائما وابدا يريد لك الحكمة والتبصّر والدراية في معالجة الأمور، ولا يكون ذلك الا بحفظ الأسرار ولا سيما اذا كانت مرتبطة بحيثيات الأشخاص، وخطط المصلحين في مواجهة الظلمة والمفسدين، وتفاصيل الابحاث والأعمال والمشاريع، وخطط الاستثمار والتنمية والاعمار، فان دعتك الحاجة الى الاستشارة فلتكن مع أصحاب المهنية والنزاهة والمروءة والانصاف، لا مع كل من هب ودب من عامة الناس والنصّاب، فان أغلبهم جهلاء أو حمقى يريدون أن ينفعوك فيضروك، وضرورة الحذر من الانزلاق في مهاوي النزق وقلة الكتمان من الأهمية في مكان مما حدى بالإمام السجاد عليه السلام أن يفتدي بلحم ساعده على أن يتخلى المؤمنون عن هاتين الخصلتين الشنيعتين بقوله: (وددت أني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض لحم ساعدي: النزق وقلة الكتمان) الخصال للشيخ الصدوق ج1 ص44.
الوشاية والسعاية بالأشخاص والوقوع بهم في المخاطر والمزالق والمهالك من أبشع الجرائم التي تستبطنها قلة الكتمان، الذين في قلوبهم مرض وزيغ ممن يترامى الى سمعهم خبر وجود المصلحين في مكان ما أو يطّلع على أخبارهم وخططهم وما ينوون عمله ضد الظلمة والفاسدين، يقوم هذا النفر الضال بالوشاية ضد المصلحين عند الحاكم الجائر للحصول على جائزة أو حضوة أو منصب، ما يؤدي الى اعتقالهم وزجهم بالسجون وتلقيهم أشد انواع التعذيب والامتهان وربما القتل والابادة، كل هذا جاء نتيجة البوح بأسرار المصلحين الذين يذهبون ضحية أولئك الجهلة والحمقى، الذين أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إليهم في قوله تعالى: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق: والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم، ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فاخذوا عليها فقتلوا) الكافي للكليني: 2 / 372 / 11. ويكون اثم الساعي والمذيع للسر كاثم القاتل الظالم من عاقبة سوء وسخط من الله تعالى أعظم.
بوح السر للظالم من أتسع أنواع هتك الكتمان، أما أدناها أن تبوح سرك للجاهل الذي لا يهش ولا ينش، لا بالعير ولا بالنفير كما يقول المثل الشائع، لا هو عالم لكي يستأنس بعلمه وحكمته، ولا هو بالموسر لكي يواسي المهموم بمساعدته ماليا واقتصاديا، ولا هو صاحب نفوذ وسطوة لكي يسوّي معاملته، فالبوح لمثل هكذا أشخاص كالنفخ في إطار مشروخ يعمق المشكلة ويزيدها ارباكا وارهاقا وعوائق وهو في غنى عنها.
نعم يمكن الاستئناس برأي الحكماء وأموال المحسنين وباذلي المعروف في تمشية الأمور ممن يعملون ذلك من دون إلحاق المن والأذى بالسائل والمحتاج ويسدون المعونة المادية أو المعنوية لمن يحتاجها في سبيل الله تعالى، وهذا من باب التواصل وقضاء حوائج الناس وهو خير من عامة الفرائض لما فيها من تغليب المصالح العامة على الخاصة، وبعض الاسرار ينبغي للمرء ألاّ يبوحها ويبثها الا لله تعالى، حيث انه لو أباحها للمحب اهتم واغتم، ولو اباحها لغيره شمت ونم، وكلاهما لا يستطيع ان يرفع غمه وحزنه وبثه غير الله تعالى، وهذا ما أشار إليه النبي يعقوب عليه السلام لأولاده: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) يوسف: 86.
الصبر والكتمان خصلتان ممدوحتان ما ان تمسك بهما أحد الا فاز وظفر، وما تخلف عنهما أحد إلا خسر وهوى، وكلاهما بحاجة الى ارادة قوية ولا ارادة الشجعان في المعارك وأهل الورع في معترك الحياة، قل خيرا وإلا فاصمت، وهذا يستدعي الخوض في تبيان معطيات البر والاحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر المعارف المفيدة والقيم النبيلة، وما عداها مما تجلب الضرر على نفسك او المجتمع فليكن في وثاقك لتتجنب تداعياته الخطيرة.
صن واخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، تطب عيشا وتتوغل في معرفة الناس ولم يتوغل الناس في معرفتك، لا تكن بوقا تبذر بذور السوء في المجتمع، ولا تكن مرائيا حاله كحال الذي يحرث في البحر خاويا، حينئذ ستشملك شآبيب رحمة الله ورضوان منه أكبر، وستكون رائدا في الاصلاح ومصباحا من مصابيح الهدى، يكشف الله عنك كل فتنة مظلمة، كل هذه الأمور لا تتحقق الا بعد ترجمة قول الامام علي (عليه السلام) بالأفعال لا بالأقوال: (الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فرب كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة) نهج البلاغة ج ٢ ص ٢٣٧.