تقرير - حيدر عاشور
يمثل الزواج في المجتمعات حالة التكاثر والاستمرارية ومن دونه يحدث خلل في هذه العملية. وبسبب الحروب والهجرة اللتين كانتا بسبب تعسف نظام الديكتاتور وظروف اجتماعية أخرى فان الكثير من فتياتنا تجاوزهن قطار الزواج، وبقينّ عانسات، قسم منهن تجاوز الخامسة والثلاثين وقسم تجاوز الأربعين، وآثار الزمن واضحة على وجوههن وانكسار عيونهن.
حاولت في هذا التقرير، التقرب من هذا العالم، عالم العنوسة للوقوف على حقيقته. وكانت كل فتاة عانس أتحدث معها لها عالم خاص من المعاناة، وقد رفضن جميعهن أن تنشر أسماؤهن الصريحة. واكتفت كل واحدة بذكر الحرف الأول من اسمها واسم أبيها. فقالت:
(س . ع) فتاة تعمل خياطة في بيتها تجاوزت الأربعين عاماص، لها عالمها الخاص المتمثل بالعمل الدؤوب، والمراعاة والخدمة لأبناء أشقائها الذين يعيشون معها. قلت لها هل بالإمكان ان نتعرف على أسباب عزوفك عن الزواج؟ أجابت بعد ان تنهدت ونظرت اليّ بعينين مرتابتين: كل شيء قسمة ونصيب.
- اعرف ان كل شيء قسمة ونصيب، ولكن لا بد من أسباب..؟.
أجابت: نعم هنالك جملة أسباب منها شقيقاتي الأصغر مني يمتلكن جمالاً ليس عادياً، من قوام رشيق وشعر طويل وعيون واسعة وضحكة رقيقة وانا دونهن في كل ذلك وكلما كان يأتي شخص ما لخطبتي وينظر إلى شقيقاتي يتعجب بهن، ويطلب يد أحداهن، وبما إنني الأكبر ولا أريد ان اغلق الطريق بوجوههن، كما أغلق بوجهي. فرص كثيرة تتجاوزني قبل الحرب الماضية في عام 1991 فقد تقدم لخطبتي رجل قبل بي وقبلت به، واتفق مع أهلي على كل شيء، وكنت مسرورة به ولكن سرعان ما دعي لأداء خدمة الاحتياط، وذهب إلى الكويت وعندما بدأت الحرب لم يعد حتى الآن، وقيل انه مفقود وهكذا خسرت فرصتي تلك، ووبيقيت اندب حظي وابكي مع نفسي لأعوام حتى سلمت امري إلى الله.
- الآن إذا جاء من يخطبك هل تقبلين؟
ضحكت قبل ان تجيب. عندما كنت صغيرة لم يخطبني احد، الآن يأتي أحد لخطبتي.
- لماذا هذا التشاؤم؟ التشاؤم شيء والحقيقة شيء آخر، وانا أتحدث عن الحقيقة .
لقد أثارت شجوني هذه الفتاة التي كانت أكثر من طيبة.
وفي الحرم الجامعي كانت الويلات السرية من الخوف من الزواج والعزوف عنه ومن تتمناه بكل شغف..
التقيت بـ (ص .أ) وهي خريجة جامعية، تمارس وظيفتها بشكل طبيعي، وأثار العنوسة بادية على وجهها، تتصرف وكأنها أم وليست فتاة. قبل ان اسألها حذرني منها بعض زملائها.
وقالوا: بأنها عصبية لذلك التجأت إلى أكثر من طريق للوصول اليها فكان لي ذلك عن طريق احدى زميلاتي التي كلمتها وطلبت مني بعد ذلك ان أتكلم معها.
فأجابت ببرود قبل ان القي التحية والسلام: وماذا يهم الصحافة من امرنا نحن اللواتي لم نتزوج؟
قلت لها: مسألة اجتماعية تأخذ حيزاً من تفكير الكثيرين ونحن نطرحها كي لا تتكرر مستقبلاً.
صمتت بعد ذلك وقالت: لا اعتقد ان هناك امرأة لم يتقدم لخطبتها رجل، وإنما هنالك دائماً عدم قناعة من قبل المرأة ، أو سوء تقدير وفي الحالتين المرأة هي الخاسرة.. مثلما انا الآن.
- هل لك ان توضحي أكثر؟
يأتي واحد واثنان وثلاثة، ونظل نرفض حتى نشعر ان لا أحد يأتي الينا بعد، وعندها لا ينفع الندم أو أي شعور آخر.
- وهل حصل معك هذا؟
نعم حصل معي هذا وأمي كانت السبب في رفضي لكل الذين تقدموا لخطبتي، كانت رحمها الله تصفهم بشتى النعوت السيئة وكنت امتثل لرأيها.
- الآن لو عاد الزمن إلى الوراء، ماذا تفعلين..؟
لن يعود الزمن إلى الوراء، وسأبقى على ما انا عليه، وهذه هي الحياة ، سواء كنت نادمة ام راضية فلا فرق في ذلك.
اضعف الإيمان نساء في محلات للبيع..!
في منطقتنا هنالك امرأة تدير أمور بيت أهلها، تصورت للوهلة الأولى إنها متزوجة وهي صاحبة البيت، لكن صاحب الدكان جاري هو الذي شرح لي موضوعها ، وقال أنها غير متزوجة وتعاني مشاكل نفسية.
قلت له: هل استطيع ان أتكلم معها؟
قال: ابدا لا تستطيع لأنها ترفض الحديث في هذا الموضوع.
وانا أزودك بكل ما تريد من معلومات عنها.
- من أين حصلت عليها؟
من النساء صديقاتها اللواتي يتعاملن معي. ثم بدأ يحكي لي عنها: قبل خمسة عشر عاماً، أحبت جاراً لها في منطقة أخرى وهذا الجار كان كثير المشاكل مع أهله وجيرانه لكنه احبها هو الأخر. وتوثقت العلاقة بينهما واتفقا على الزواج، وعندما تقدم لخطبتها رفضه أهلها واصروا على رفضهم برغم كثرة الذين توسطوا في الموضوع. فجاءهم في ليلة وهو مخمور يتكلم بعبارات نابية، خرجوا عليه واشبعوه ضرباً كاد يموت من جرائه.
بعدها قرروا ترك دارهم هناك، وشراء دار في منطقتنا ومن ذلك اليوم وحتى الآن لم تقبل بأحد، وظل في بالها فارس الأحلام الذي لا يعوّض.
في محل لبيع الكماليات التقيت بفتاة هي الأخرى فاتها قطار الزواج حاولت ان أتحدث معها عن هذا الموضوع رفضت قائلة : لا يوجد عندي سبب. ولا اسمح ان تسألني ثانية.
بعد ان شعرت بالعجز تركتها وعدت أدراجي، باحثاً عن سواها. التقيت بأخرى وأخرى... وكانت الأجوبة تنحصر في عبارة القسمة والنصيب ولم اجد من يناسبني وكنت غير واعية ورفضت الكثيرين وخطبني جاري ومات في الجبهة.
حقاً إنها مأساة أخرى تضاف إلى مآسي مجتمعنا وازدادت هذه المأساة خلال السنتين الأخيرتين بسبب كثرة الضحايا من الرجال والتفجيرات والتسليب والذبح. وهذه ليست مشكلة جهة من دون أخرى. بل هي مشكلة مجتمع بأكمله، وعليه البحث عن حل لها... ناهيك عن الزواج المبكر الذي ينمو سريعاً ويتفكك في محاكم الطلاق بشكل اسرع... وما خفي في أسرار الزواج العلني يهون البوح به ولكن ما مدفون في عمق الأسرار الزواج الأخرى الذي يولد من الحاجة وينتهي بفضيحة... المجتمع يحتاج الى وعي وتربية.