- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
وادي الرافدين يريد استعادة نخيله
بقلم: د. جاسم الهاشمي
أشرف الأشجار ذات الساق. أشرف الشجر النخيل. أكثر النبات شبها بالإنسان؛ رأس وجذع وأطراف. ولعلها الشجرة الوحيدة التي تموت لو قطع رأسها كالإنسان.
خيرها في كل شيء منها. كلها خير. خير معروف، وخير لم يعرف بعد. مباشرة, أذكر العذوق, عذوق التمر - بمعدل 15 عذقا كل عام, بوزن 300 كغم من الرُطب, البسر, أو التمر؛ التمور ذات الأصول - صنوان وغير صنوان. والعالم كله متفق على ان التمور العرقية أجود أنواع التمور في العالم، يبيعونها مفردات، وفي علب انيقة تحمل الاسم الدعائي الكبير – تمور عراقية.
يقدرون أن هناك 600 صنف منها في الجمهورية العراقية، ومنها البرحي والخضراوي والبريم والحلاوي. وادخلْ في بحوث اصناف التمور وعدّدْ الأسماء. أنا شخصيا كبرت مع النخل الذي زرعه جدي ورحل جدي، وأبي بعده وسوف أرحل ونخلات جدي باقية حتى الآن تؤشر لي من بعيد. كنا نأكل التمر، ونبيعه ونتدفأ بالسعف ونصنع الدبس والخل، ونقليه مع البيض، ونخلطه مع السمسم، ويتشكل قوالب صغيرة لا ألذ منها وهو دواء بعد تسخينه ووضعه على الجلد المصاب، كما كانت جدتي تداوينا بعد عودتنا من معارك اللعب, وفي المساء تطل على القرية وانت متفيئ في جوار النخلة تغني لك وتغني لها بصمت. نخلة تعطيك الشكل والمنظر وتستضيف لك الطيور وتصد عنك الريح وترقص فروعها أمامك مستجيبة لهمس النسيم وقد "تساقط رطبا جنيّا". العراقيون الذين عاشوا حياة كاملة من سعف النخيل يعرفون عن ماذا اتكلم, والفلاحون الذين عاشوا اعمارهم تحت سقوفها يفهمون ما أعني. في أعماق كل عراقي همس داخلي يقدس النخلة، ولا يبوح به. أعرف شخصا كان يكلم النخلة ويسمع ردها.
اتخذت النخلة رمزا في الفنون, وفي النقود, وفي المطارات, وأمام الفنادق ولو بلا ثمار. الصاغة نحتوا منها قلائد من الذهب والفضة. أذكر أن الطبيب الفنان علاء بشير، كلف بتشكيل رمز للعراق – الميزوبوتاميا - وادي الرافدين - فرسم وصاغ النخلة.. وقل ما شئت وبالغْ لن تجد الأمر مبالغا فيه.
لقد خصها الله ربنا بأكثر من عشرين آية في كتابه الكريمة: الأنعام الاية 141 والاية 99. البقرة الاية 266. الرعد الأية 11, و67. النحل 91. الكهف 23و25. مريم 9. المؤمنون 148. الشعراء 34. يس 10. ق 20. القمر11و68. الرحمن 7. الحاقة 29. عبس71... أغلب الايات تذكرها مع مفردة الجنة. ليس ذلك بالطبع من قبيل الصدفة, بل إنه قول - بلسان عربي مبين - وموجه أولا للعرب. ومعنى ذلك أن للنخلة مقاما عند الله تعالى.. أليس هذا واضحا.
فماذا فعل البشر في العراق بهذه الشجرة المباركة:
في حرب العراق مع ايران أمرت قيادة الحرب بإعدام النخيل القريب من شط العرب أو دجلة. لماذا؟ منعا لمجيء المظليين الايرانيين. اقتلعت الملايين أو أعدمت حرقا أو إهمالا، ولم يأت المظليون. ملايين الأشجار التي كانت تغذي شعبها، وتصدر إلى الخارج. العباسيون أجداد الحكام ومن ينصبون لهم التماثيل، كانت لديهم, كما تذكر كتب التاريخ أكثر من ثلاثين مليون نخلة، وصلت إلينا عبر التاريخ والأرض رغم الغزوات والحروب. الكل يضرب هذه النخلة؛ المغول ,العثمانيون، الانجليز... لكن أن يقتلها أهلها هذا ما تميّزنا به.
رأيت أطفالا في حي بغدادي، وقد صنعوا لهم موقدا في حفرة، بجذع النخلة أمام بيتهم، وأوقدوا النار والنخلة فوقهم عملاقة صامتة، والنار في جذعها. يحكي لي جندي اشترك بالحرب: كنت ألف الأسلاك حول جذع النخلة، واتنحى جانبا وأفجر الديناميت، فتخلع الشجرة المسكينة نفسها من جذورها، وتنطلق نحو السماء كالصاروخ تنفح بسعفها ثم تنتكس، عائدة الى الأرض التي اقتلعت منها. هكذا أمر القائد الضرورة، ومن يخالف يلتف سلك الديناميت حول جذعه.
تقول وزارة الزراعة: إن ما تبقى حيا من نخيلنا لا يتعدى السبع ملايين. وجاءت 2003. وكنت أزور بغداد مرة، كل شهر، قادما من الجنوب: بدءا من دخولك الشارع المؤدي الى جسر ديالى، انتصب نخل جديد على امتداد الشارع، وكان ذلك مدعاة لفرح خاص في قلبي. قلت لنفسي هذا عمل يستحق عليه امين العاصمة التصفيق. تكرار زياراتي، اثبتت لي بطلان تفاؤلي, فلقد أهمل سقي النخيل المشتول، وماتت الواحدة بعد الأخرى. والحكاية الشعبية تروي ان المقاول الذي زرعها اهمل سقيها كي تموت، ويأتي بغيرها ما دام سعر الواحدة مليونين. النخيلات القريبة من بيوت الناس، ظلت ولا تزال موجودة تدفع شيئا من قباحة المنظر في مدخل بغداد.
اللغة العربية تقول: ـ نخَلَ الشيءَ ـ لمن اختاره وصفّاه. و ـ نَخَلَ النصيحة والود لفلان أي أخلصهما له ـ ونخائل القلوب تعني النيّات الخالصة ـ لا يقبل الله إلا نخائل القلوب ـ. أكاد أراهن على ان العراق سيقف بكامل قامته أمام الكون، إذا ما رضيتْ عنه النخلة، فقامت واستقامت، ولوحت بأذرعها للخالق، تسبح له، وانتشرت غابات النخيل من الهضاب الى الأهوار، حينذاك تعيد له هذه الشجرة الوفية الشريفة، لقب وطن النخيل.
أقرأ ايضاً
- لا عزاء للأصوات المأجورة.. تحية لأسود الرافدين ومدربهم
- بلاد الرافدين العظيمين ام بلاد الجدولين العطشين ؟؟!!
- ماذا يريد التاجر.. دولار المزاد ام الدولار الموازي؟