- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
بين مسطر المهندسين وثراء الأطباء !
بقلم: ماجد الخفاجي
يدين معظم التطوّر الهائل للطب إلى التكنولوجيا الحديثة وأجهزتها التي سُخّرت لخدمة هذا العلم الأنساني، كالمفراس، والسونار والإيكو، واجهزة الرنين (Magnetic Resonance Image, MRA)، وقبلها الأشعة السينية (X Ray)، وروبوتات العمليات الدقيقة وأجهزة الديلزة (غسل الكلى Kidney Dialysis)، وأجهزة القلب المفتوح والمباضع التي تعمل بالناظور، ثم تقنيات الليزر التي لا تُعد ولا تُحصى، ولا يمكن الإستغناء عن أجهزة تخطيط القلب (Electro Cardiac Graph ,ECG)، وتخطيط الدماغ (Electro Encephalon Graph ,EEG)) وغيرها من المجالات، ولنا أن نتصور كيف سيكون الطب بغياب هذه التقنيات التي أوجدتها العقول الهندسية الراقية، وبالذات هندسة الكهرباء ومن فروعها الإلكترونيات والهندسة الميكانيكية، ورغم كل ذلك فالطب لا يزال غير قادر على شفاء 60% من الأمراض المزمنة حسبما أفضى بذلك صديقي الطبيب البارع.
فضل العلوم الهندسية ليست خافية على أحد، إنها تمثل التطوّر المنظور للبشرية، مهمتها صنع الجمال، والقيام بكل ما يخدم الإنسان وتسهيل حياته، لقد قرّبت البعيد، وأقامت الصروح التي تتباهى بها الأمم، لكن للأسف لم نكن إحدى هذه الأمم!.
فما يحدث في هذا البلد، أن غالبية الأطباء (لا أقصد جميعهم) قد حولوا هذه المهنة الراقية إلى تجارة مربحة لآلام الفقراء، وأكرر لا أقصد بذلك الجميع لكن الغالبية، وأن المواطن قد يدفعه اليأس من العلاج وألم المرض وأجور العلاج الباهضة، أن يلجأ للهند وهو يبدد (تحويشة العمر)، لكنها – أي الهند، تحوّلت هي الأخرى إلى مقبرة للمرضى العراقيين!، إذ يبدو أن تجارة الطب قد وصلت للهند أيضا!.
آلام الظهر من الأمراض المتفشية عند العراقيين، بسبب العمل الشاق والعقيم، وبسبب حملهم لأثقال الحياة التي لا تطاق، تلك التي تسببت بها الأحزاب الكثيرة التي دمّرت كواهلنا وهشمت أعمدتنا الفقرية!، فيضطر المريض أن يراجع (طبيبا مشهورا) في مجال أمراض المفاصل، وعليه أن يتحمل عجرفة ذلك الطبيب ونفقاته العالية، لأجراء عملية تنتهي في أغلب الأحيان إلى الفشل!، عملية بنفقات لا تقل عن 3000 دولار، مدّتها ساعة واحدة فقط، ولكم أن تتصوروا العائد الهائل لهذا الطبيب من جدوله الحافل يوميا!.
أطباء العيون يتقاضون مبلغ مليون دينار عن كل عملية سحب للماء الأبيض من العين، وأحدهم يجري ما لا يقل عن 8 عمليات في اليوم الواحد، وبالمناسبة فالعراقيون بالذات أيضا، أصحاب الرقم القياسي العالمي في الإصابة بهذا المرض أيضا، كذلك التفشي المُلفت لمرض الفشل الكلوي وأمراض القولون، لكن لم يكلّف أحد نفسه بإجراء دراسة عن مسببات هذه الأمراض، لأن الجهد الطبي كله منصبّا على جمع المال، والمال فقط، وفرغت تماما من محتواها الإنساني، وما يتقاضاه المهندس في ميدان عمله (إن وجد) لشهر كامل وهو يتعرض لعوامل الجو من برد وحر وخطورة ومسؤولية وإلتزام، يتقاضاه الطبيب ربما في غضون ساعة واحدة!، حقا إن خيبات الأمل الموجعة كثيرة تلك التي إعترتنا ونحن نرى تعب سنوات الدراسة، وشهادة لا تخرج عن إطارها المُعلّق في البيت.
لماذا يكون سعر حشوة جذر الأسنان أكثر من 300 ألف دينار للضرس الواحد ؟، وسيقول لك الطبيب – التاجر، أن الحشوة أصلية، ونحن نعلم إنها حتى لو كانت من الذهب الخالص، لن تصل لرُبع هذا المبلغ!، أما زراعة أطقم الأسنان، فحدّث ولا حرج بنفقاتها الخيالية، لذلك أضطر دوما إلى قلع الضرس وإتقاء شر ألمه أفضل لي “ماليا” من تزيينه!، ولا أستثني مهنة (الصيدلة) من الإثراء على حساب آلام الناس وأوجاعهم، فنسمع مرارا عن قيام الجهات الرسمية الصحية بإتلاف أطنان من الأدوية المغشوشة، وهو غيض من فيض الأدوية الفاسدة التي تعرف طريقها إلى أجواف المرضى الفقراء!.
هذا لأن الأطباء يعلمون، أن طالما وُجِدَ الإنسان، وجِدَت الأمراض، إنها مسألة ألم ومعاناة وحياة وموت للمريض، فلا يمكن لهذه “التجارة” أن تبور، بل على العكس، ستزدهر كلما زاد التخلف والإهمال والتلوث البيئي والفقر كحال بلدنا، لكنها لن تكون بالطبع تلك البيئة التي تنتعش فيها الكفاءات الهندسية!.
تعيين الطبيب مضمون ضمن لائحة التعيين المركزي، لكن ليس كذلك للمهندس، هكذا يرسل الأثرياء أبنائهم لكليات الطب والصيدلة الأهلية التي فاقت أعداد النمل، وبأقساط باهضة جدا، وصاروا يعزفون عن إرسال أولادهم إلى الكليات الهندسية لأن (ما بيها خبزة)!، إنعكس ذلك حتى على معدلات السادس العلمي، فبعد أن كانت الكليات الهندسية لا تقبل بمعدل أقل من 90%، صارت هذه السنة تقبل بمعدل 85%، أما الكليات الطبية فالمعدل يجب أن لا يقل عن 98%.
حيثما توفّرت فرص التنمية والبحث والتطوير والبناء، إزدهرت المهن الهندسية، فكيف إن غابت هذه الفرص إلى درجة الإنقراض في البلد ؟، بالتأكيد سترمي المهندسين على هامش لا يمكن معه العيش، وأنا أرى الكثير من زملائي المهندسين القدامى، ومن الخريجين الجدد، يبيعون الشاي في (الترافك لايت)، أو العمل كحمّال، أو الوقوف في مسطر، أو يبيع الكتب في شارع المتنبي أو غالبا، العمل كسائق تاكسي في أحسن الأحوال، وهو يلعن حظه الذي ساقه إلى كلية هندسية، ومعظمهم ممن تجاوز الثلاثين من العمر دون أن يفكر بالزواج، والمحظوظ منّا قد يجد عملا في شركة أهلية لوقت محدود حتما، حتى لو وصل إلى درجة مهندس إستشاري فإن يوميته تقل عن يومية (خَلفة) بناء!.
على الدولة التدخّل (ولا حياة لمن تنادي)، والعمل على تقليل الهوّة الهائلة بين الشريحتين، مثلما عليها التدخل في تشجيع المنتوج الوطني وإحياء القطاع الصناعي الخاص بعد موت طويل!، فالمشكلة في الكليات الهندسية، إنها من أصعب العلوم على الأطلاق، ففيها الرياضيات العالية والفيزياء التطبيقية بكل فلسفاتها وفروعها ونظرياتها بإعتبارها الأم الشرعية لجميع العلوم الهندسية، لهذا يحصل المهندس على دبلوم رياضيات بالإضافة إلى بكلوريوس الهندسة بعد تخرجه، أما الهندسة الكهربائية (التي درستها)، فهي أصعب الفروع العلمية، ذلك إننا لا ندرس الماديات الملموسة بقدر غوصنا داخل الذرّة، ثم دراسة خواص الجسيمات تحت الذرية (Subatomic Particles)، والتي أوجدتها النظريات فقط، ونحن (مهندسو الكهرباء) الأقل حظا في ممارسة إختصاصاتنا بالمقارنة بالفروع الهندسية الأخرى كالمدني والمعماري وحتى الميكانيك – القليلو الحظ بدورهم أيضا، بل يكفي أن تنظر أخي القارئ إلى “إنجازات” وزارة الكهرباء وستفهم، لكننا بدورنا لا نفهم (كأختصاصيين) سبب الإصرار على الفشل، على الرغم من أن الهندسة لا تعرف المستحيل، حسبما لقننا أساتذتنا، وهم على حق، لكن الخلل في بلد لا يعرف الحق!، والغريب أن لدينا نقابة أسمها نقابة المهندسين، لا نعرف ما هي واجباتها التي ربما لا تساوي قطعة الأرض الكائنة في مدينة المنصور، والتي لا نراجعها إلا عندما يحين موعد دفع جباية تجديد هوية نقابة المهندسين!، حقا إذا أردت أن تقيس مدى فشل دولة ما، فأنظر إلى الفارق بين شريحتي الأطباء والمهندسون، فكيف إن كان الفارق فاحشا ؟!.
أقرأ ايضاً
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القنوات المضللة!!
- ما هو الأثر الوضعي في أكل لقمة الحرام؟!