بقلم | هشام الهاشمي
عندما اتخذ سكان مدن آمرلي والخالص والضلوعية وبلد وسامراء وحديثة والبغدادي والخالدية وعامرية الفلوجة، قراراهم بالصمود، امام موجات تنظيم داعش الهائجة والمتوحشة، كان مصيرهم قد خُتم، فقد كانت تلك المدن محاصرة من كل الجهات، والقوات الأمنية والعسكرية انسحبت والسلاح اختفى لأسباب مختلفة وروايات اختفائه تحتاج الى تحقيقات من قبل القضاء العراقي، وكان ذلك بالنسبة لمدن صمدت لكنها احتلت بسبب انشغال فصائل المقاومة الإسلامية الشيعية بحماية مدينة سامراء وأطراف مدينتي النجف وكربلاء وحزام بغداد الشمالي والجنوبي والغربي وانشغال قوات جهاز مكافحة الإرهاب بحماية المنشآت السيادية وأما باقي الأصناف فكانت تحت تأثير الصدمة وهي تلملم جراحاتهم وتحاول ان تعيد تشكيل نفسها، مناطق مثل قرى الشرقاط والعلم وحامضية الرمادي وهيت البونمر والصقلاوية.
الصمود كوّن فرصة غير مسبوقة لكي يخرج عشائر العرب السنة من تهمة التواطؤ مع التوحش والتطرّف الداعشي، في ظل ظروف الأحتلال الذي انهار أمام أمواجه القوات النظامية، وأصبح من الممكن للعشائر العربية السنية أن تتحرك وتنشط لمساندة القوات الأمنية وبطريقة لم تكن متاحة لها قبل ذلك.
خطوات تقارب عظيمة كانت بدايتها من سرايا السلام مع عشائر سامراء وبلد والدجيل، ومثلها خطوات بدر في التقارب مع عشائر شمر والجبور في مناطق العظيم والعلم وشرق تكريت، وخطوات جادة من عصائب أهل الحق مع أهالي مدينة الضلوعية وخاصة مع عشيرة الجبور.
ظهرت أول فرصة لتحشيد عشائر سنية ضمن فصائل الحشد الشعبي في شباط,فبراير 2015 وكانت بتفاهمات ناجحة مهد لها الدكتور عامر الخُزاعي (عضو في حزب الدعوة الإسلامية ولديه علاقات عميقة مع المكوّن السني عززها ايّام إدارته لملف المصالحة الوطنية 2010-2014)، وكانت فاتحة لبناء الثقة التي ساهم بتفعيلها شيوخ ووجهاء عشائر البوفهد والجغايفة والبونمر والجبور والسوامرة والعبيد والعزة وشمر والبوعيسة والغرير والحمدان والقرةغول.. وجهود ابنائهم كانت مهمة والتي برزت خلال عمليات التحرير التي انطلقت في آذار,مارس 2015، وكانت معيتهم مع قوات الحشد الشعبي تشبه ثورة مسلحة ضد الاحتلال الداعشي، وقد زاد هذا الانسجام في أضعاف قوة داعش الدفاعية ومهد لعودة أبناء العشائر الذين بايعوا تنظيم داعش لأسباب سياسية او اقتصادية او مسايرة الأمر الواقع، أو ربما على الأرجح الذين فضّلوا الوقوف على الحياد وقبلوا بالتعايش تحت نفوذ احتلال داعش، وفضّلوا عدم التصدّي، وكانت سياسيّة الغالبية منهم على طريقة تفكير "نراقب من ينتصر على الأخر" هي السائد في فترة حزيران,يونيو 2014 ولغاية آذار,مارس 2015.
كانت أحوال الأقليات غير السنية مزرية وبائسة في نينوى وكركوك، فقد عانوا من الحصار والفقر والترهيب الشديد، عمليات خطف وإعدامات جماعية وسبي ومصادر الأملاك وسبي النساء.. وكذلك سجل من قبل مدونات موصلية كانت شاهد عيان مثل مدونة عين الموصل ومدونة ليلى الخشاب ومدونة خلية شباب نينوى وراديو الغد.. ومدونات أخرى فيها الألوف من الشهادات التوثيقية للتوحش التكفيري.
نظرت بغداد في فترة حكومة الدكتور العبادي الى أبناء المناطق السنية المحتلة كحليف وشريك وطني ضد داعش، وكذلك لم تغفل بغداد دور كردستان العراق وبطولات البيشمركة في إشراكها بعمليات التحرير.
كان لدى دوائر المعلومات التابعة للقيادة المشتركة العراقيّة جيش من المصادر المعلوماتية في كل القرى والنواحي والأقضية التي احتلتها داعش، من هذه المصادر نجحت القيادة المشتركة في فهم إمكانيات العدو وتدمير معسكراته ومخازنه ومقرات التحكم والسيطرة ومعامل التصنيع والتطوير والنقاط الإعلامية واغتيال المئات من قياداته الميدانية.
مقاومة سكان حديثة وعامرية الفلوجة، قاومت عشيرة الجغايفة بكل بسالة وأفشلت 5 حملت كبيرة ومستمرة لكسر صمودها، وكذلك الصمود العظيم لعشيرة البوعيسة في عامرية الفلوجة، ربما لم يدرك المراقب للشأن العراقي من الغربيين جيداً أسباب هذا الصّمود، ولَم يشاهدوا سوى سواتر ترابية وخنادق ورباية للمراقبة وأبراج للقنص، أحد اهم أسباب الصمود هو عدم رغبة قادة وزعامات هذه المدن بالعيش تحت نفوذ التطرّف التكفيري، وايضاً ان أبناء تلك المدن الصامدة لم يكونوا منقسمين على قوات الجيش العراقي والشرطة الاتحادية وفصائل المقاومة الشيعية، وأبلغ من ذلك المشترك الذي جمع كل مدن الصمود تلك هو عمقهم وجذورهم القومية والوطنيّة، فهم بالضد من مشروع التقسيم وبالضد من عقيدة ومنهج التكفير والغُلو.
وعلى كل حال لم يتم إجراء مناقشة جادة بشأن دراسة اجتماعية تهتم بفهم تلك الأسباب ومحاولة ترسيخها في المدن التي احتلت من داعش، وتفعيلها بمشروع الإندماج مع الآخر غير السنّي.
أصبحت لدي قناعة ان معظم سكان المدن التي وقفت على الحياد امام اجتياح كتائب ومفارز داعش عدم رغبة اَهلها بحكم غريب لمناطقهم وبالإضافة الى تراكمات الفساد وسوء إدارة المدن المدنية مختلطة الهويات والثقافات.
محمد وجيه (مهتم بالتدوين الاجتماعي ومتعايش تحت نفوذ داعش في الساحل الأيسر من الموصل من 2014-2016)؛ "لما دخلت داعش ايسر الموصل كنت خارج البيت ورجعت مسرعا الى البيت وانا مرهق ومرعوب، وأصبحت مكبرات الصوت في المساجد تنادي بخطاب ثوري غاضب، حتى الموالون لبغداد كانوا يعلمون ان من غير الممكن التصدي لهذا الهرج، وقد هرعت إليّ أمي قائلة: أغلق الباب وابتعد عن النوافذ الزجاجية ما لنا شأن ساعات وتأتي قوات من بغداد وتجعل الكلاب تأكل بجثثهم، لو أن قائد عمليات نينوى من ضباط الموصل لكان ما حدثت هكذا مهزلة لكن بغداد متحيزة...".
بالعودة إلى الحامضية يرتبط بها اسم الشيخ جبار المُلا خضر الفهداوي أحد أهم شباب الثورة بالضد من القاعدة وأهم القيادات الموالية لحكومة بغداد صمد ومعه 230 شخصا من عشيرة البوفهد والبوعيثة والبوعلوان والبوذياب والبوعلي الجاسم لمدة 8 شهور وكان صبرهم على هجمات داعش اليومية وعلى الاهمال الدعم اللوجستي الحكومي لهم، يقول الشيخ جبار الفهداوي:" اذهب لجمع العتاد والذخيرة من الواحدة فجرا وحتى الساعة السابعة صباحا، ثم أذهب به الى المرابطين على السواتر، اشتري ذلك كله من مالي الخاص، خالتي أم مؤيد ونساء الحامضية وجويبة كن على الدوام يصنعن الطعام والشاي ومتابعة اسعاف الجرحى، والشيخ رافع العبد الكريم الفهداوي مرابط بين بغداد والحامضية لجلب ما يمكن من مساعدات وعتاد للأسلحة المتوسطة، وقد انتهى الأمر ان انسحبت الدرع الذي أرسلته بغداد فكان انهيار الساتر بعد نفاذ اخر إطلاقة لدينا..لو كانت قيادة قاطعنا بيد ضابط من عشيرة البوفهد لم احتلت الحامضية".
في الواقع الإجابة هي؛ يمكن فعل الكثير من أجل التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وان هناك شعور أن الحاضر سيّء جداً، فقد فرضت فترة احتلال داعش الفقر وانهيار الخدمات والمنشآت العامة ومدن منكوبة، الى حد أن حكومة بغداد عجزت ان تعيد اَي مدينة محررة الى فترة ما قبل احتلال داعش، بسبب سياسة التقشف التي تنتهجها الحكومة.
بمجرد أن يتم تحييد تأثير الاختلاف القومي والطائفي على برامج إدارة مؤسسات وخطط الاعمار والخدمات الحكومية، وبشكل يصبح ملموسا كواقع، بالإمكان الرد على حجج الاضطهاد والتهميش وايضاً يصبح لدى المواطن حافز للتصدي والصمود من اجل مدينته وقريته مهما كان غرم المقاومة عليه.