حجم النص
بقلم:صالح الطائي لو قيض لرولان بارت أن يعيش ما يجري في العراق لما تجرأ أن يؤلف كتابه الكتابة في درجة الصفر، ولو قيض لسارتر أن يسمع ضجيج أفكار العراقيين، لما تحدث عن الوجودية، ولو جازف نيتشه بالحضور إلى العراق ما كان سيورط نفسه بالغوض في المبادئ الأخلاقية، ولو كان هرمان هيسه عراقيا لما حصل على جائزة نوبل مطلقا، ولو كان في هجر الأهل والأوطان شرف لما كنت بقيت في العراق أتجرع الغصة كل يوم مئات المرات وأنا أرى العراقي يقتل العراقي لمجرد أنه عراقي. ومن الغصة، من مخلفاتها في الروح والقلب يولد عبث الكتابة من دون هدف، فالكتابة حينها تتحول إلى نوع آخر من الهم لأن تعريف الهم يتغير عندنا بنفس سرعة تغير ثقافاتنا، وبنفس فكاهة تغير أحرف كلماتنا، فنحن بدرجة يسر وسهولة قلب حرفين من كلمة واحدة لتعطي معنى شاسع البعد عن المعنى الأول كما التقديم والتأخير بين حرفي (الفاء) و(الكاف) في كلمة (تفكير) التي تتحول عند الإقلاب إلى (تكفير) كذلك هو التغيير الذي يقع في الثقافات العربية عبر التاريخ فنحن أبناء ثقافة (كل من يأخذ أمي يصبح عمي) نتحول بين ليلة وضحاها إلى غيلان ووحوش تنهش حتى نفسها من دون أي مقدمات أو دلالات، تستفزنا الكلمة وتثيرنا الجملة فنحمل أسحلتنا ونطلق النار على كل ما يتحرك أمامنا، لكن تسلبنا اللهجة الماكرة الحلوة والكلمة الندية المدافة بالدجل والكذب؛ حتى لو كانت بالباطل جميع ملابسنا برضا وقناعة، فنحن نعتز بشرفنا ولكننا على استعداد لخلع جميع ملابسنا لنثبت أننا عرب. ولذا يتحول بعضنا بلمح البصر من روبن هود إلى جلاد ومن جلاد إلى لص ومن لص إلى قاض ومن قاض إلى إمام جماعة ومن إمام جماعة إلى قواد ومن قواد إلى منحرف ومن منحرف إلى بطل قومي؛ دون أن يجلب انتباه بعضنا الآخر، وكأننا جميعنا مستعدون لارتكاب هذا الجرم الذي نراه صغيرا لا يجلب الانتباه، وهذا ما جعل العالم يحتار فينا لأننا لا نملك منهجية ثابتة نسير على هديها أو نهتدي بمسيرها، فلكل منا منهجيته ومسيره ودربه الذي اختطه لنفسه، دون أن يلتفت إلى حقوق الآخرين الشرعية والقانونية في أراضيهم التي مر بها دربه الأعوج المتعرج. نؤمن بثقافة المصادرة أكثر مما نؤمن بالله، نصادر حق الآخرين بالتفكير والعيش والتكلم والاعتقاد وأنماط السلوك وأساليب التربية لنُطبِعُهم بطباعنا وسلوكياتنا وأنماط تربيتنا وتفكيرنا، حتى دون أن نكون مؤمنين بما نريد تصديره إلى الآخرين، فالمهم أن تكون غالبا،هذا هو الميزان الذي نحتكم إليه، وهذا هو شعارنا التاريخي، الغلبة هي ثقافتنا التي رضعنا نشوتنا وخميرتها مع حليب أمهاتنا، فشعر كل منا أنه مغلوب؛ وعليه أن ينتقم من الآخرين، فيغلبهم في أي تعامل معهم مهما كان بسيطا، لكي يشعر بالرضا عن نفسه لمجرد أنه انتقم، لكن ممن؟ لا يدري، ولا يهمه أن يدري.! المهم أن نفس الانتقام البدوي المنحط الذي لطخ تاريخنا بالدم واللون الأسود لا زال متمكنا من تفكيرنا، لا يرغب بمفارقته لأي سبب كان، وهو الذي يدفعنا إلى ارتكاب جرائم الأخلاق التي استنبطت ذبح المرأة لأتفه الأسباب، وذبح المخالف لمجرد أن له معتقدا لا يشبه معتقدنا؛ تحت غطاء الانتقام الذي تبيحه قوانيننا وثقافتنا الموروثة التي نسميها (الثقافة الإسلامية) والإسلام منها راء. هكذا نشأنا حتى بعد أن غيرنا ملابسنا، فتركنا الشماغ والغترة والعقال ولبسنا الجينز ومنتجات شارع الشانزيليه، وتركنا الخف والقبقاب ولبسنا أحذية فان هاوزن، وغيرنا تسريحاتنا، فحلقنا شعر رأسنا وفق أحدث موديلات الصالونات العالمية، وتركنا أدوات تنقلنا القديمة الحمير والبغال والجمال، وركبنا الفيراري والمرسيدس، وغيرت نساؤنا الديرم وقشر الجوز وحبات السِعِد والخضيرة وقرص المسكارة بمنتجات أرقى المنتجعات العالمية، وترك البطرون شرب نقيع التمر الزهدي المتعفن أو نقيع الزبيب المنخور، ليشربوا السكوتش ويسكي والخمور المعتقة، وتركوا الربابة والطبل البدائي ليستخدموا الدي جي ويحضروا حفلات السمفونيات. هكذا نشأنا وسنبقى هكذا فمن شب على شيء شاب عليه، ولذا يستحيل على كل علوم الدنيا أن تغير طباعنا، وإذا ما كان الكذب سمة أجدادنا، فإنهم صدقوا بأمر واحد؛ حينما قالوا: "العادة التي بالبدن لا يغيرها إلا الكفن" ولكن من أين نحصل على ثلاثمائة مليون كفن على عدد أبناء قوميتنا العربية التي نعتز بها، مع أن أشرافنا باعوها في سوق النخاسة منذ عصر الحريم، وهي التي ولدت داعش والقاعدة اللتان حولهما قانوننا الهمجي إلى حركات ثورية تريد تحرير العراقيين من استعمار العراقيين، وصدق من قال: (الحب فين وأنت فين) ملاحظة: قبل عامين دأب أحد أصدقائي الكتاب على كتابة جملة (بغداد المهزومة) في نهاية مقالاته ويضع تحتها التاريخ فرجوته أن يغيرها إلى (بغداد المنصورة) وفعل، لكنني اليوم أبدو في غاية الندم وأنا أشعر أن مواضيعي التي أكتبها منذ أحداث نينوى يجب أن تختم بجملته السابقة، أو بجملة أقسى منها، ولكني لا أجرؤ على فعل ذلك.!!
أقرأ ايضاً
- في العصر الحميري !!
- عصر النفط قريب من الانتهاء على غرار الفحم الحجري (حقائق وارقام )
- التفكير الإيجابي بنسخته الاصيلة عن خاتم النبيين (ص)