حجم النص
لا يمكن ان يؤدي الاعلام دوره ويتحمل مسؤوليته تجاه حقوق الانسان وحمايتها في العراق الجديد، الا اذا كان حرا، ولا يمكن ان يكون حرا، الا اذا كان مسؤولا، ولا يكون مسؤولا، الا اذا خضع لرقابتين فقط دون غيرهما، وهي رقابة الضمير، او ما يسمى بشرف المهنة، ورقابة القضاء.
فاعلام السلطة مثلا او اعلام المالكين لا يمكنه ان ينتصر لحقوق الانسان، لانه يخضع للمصالح الضيقة ولا يعيش في رحاب المصالح العامة التي تخص الراي العام وغالبية المجتمع.
انه اعلام مسيس، وهو اعلام المصالح الحزبية او السلطوية، ولذلك لا يمكن الاعتماد عليه في حماية حقوق المواطن ومصالحه العامة، وهو اعلام يعرض نفسه في سوق النخاسة، يبيعها لمن يدفع اكثر، وهو ما نراه في اعلام (العربان) السلطوي منه او ما يسمي نفسه بالاعلام (المستقل) وهو في حقيقة امره تابع للنظام السياسي العربي الفاسد بشكل او بآخر.
كما ان الاعلام الذي يعتقد بان الحرية تعني الفوضى او بمعنى التسقيط والتشهير ونشر اي شئ بلا دليل او منطق او اثبات، او انه يعني التصرف بالمعلومة حتى قبل الثتبت منها، لا يمكنه كذلك الدفاع عن حقوق الانسان او الانتصار لها عندما تتعرض لانتهاك من نوع ما من قبل مسؤول في الدولة.
فمثل هذا الاعلام يتلاعب بمصالح الناس وحقوقهم لصالح جهات خاصة، اي انه يعتاش عليها، فتراه مثلا يهدد المسؤول قبل ان يكشف سوأته، فاذا دفع له سكت ولاذ بالصمت، اما اذا لم يدفع شيئا بادر الى فضحه، انه اعلام تجاري يتاجر بحقوق الناس ومصالحهم، فهو الاخر لا يمكن الاعتماد عليه في حماية حقوق الانسان، لانه اعلام مصالح، فهو ليس حرا.
كذلك، فان الاعلام الذي يتعرض للانتهاك على يد حمايات المسؤول مثلا على يد شرطي المرور او ابن الحاكم او احد اعوانه وافراد الزمرة التي تحوم حوله طلبا للعافية على حساب معاناة المواطن المسكين، هو الاخر لا يمكنه ان يكون اعلاما حرا يمتلك القدرة على الدفاع عن حقوق الانسان.
ان للاعلام في العراق الجديد فرصة ذهبية لان يكون حرا بكل معنى الكلمة، لولا انه لا زال يتعرض لخطرين كبيرين دفعت بالعراق الى ان يكون واحد من (5) دول في العالم هي الاخطر على الاعلام في العالم، وفقا للجنة حماية الصحفيين التي نشرت تقريرها مؤخرا صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) الاميركية المعتبرة، الا وهما:
اولا: خطر تدخل السلطة في عمل الاعلام ورسالته المقدسة، ما حد بشكل كبير من حرية الاعلام، لان السلطة لا تفرح ابدا الا اذا مدحها الاعلام فقط او تهجم على خصومها، اما اذا كشف عن فسادها او تعرض لفشلها فان ذلك بمثابة فتح النار عليها، مهما كان النقد او التعرض هذا بسيطا، الا انه في حسابات السلطة كبير جدا، ولذلك فعندما سئل صحفي يمني في زمن دولة (الامامة) عن حال الاعلام في بلاده، قال: انه على نوعين، الاول في مدح الامام والثاني في ذم مناوئيه، وهذا هو الحال الذي تتمنى السلطة، اية سلطة، ان يصل اليه الاعلام في البلاد، وربما العراق واحد منها، اذ لا زال الاعلام يتعرض للاهانة والاعتداء على يد حمايات المسؤولين، ولا زالت المعلومة سرية في العراق لا يطلع عليها الاعلام لينقلها الى الراي العام، ولا زال الاعلام محظور عليه التعرض الى الفساد المالي والاداري المرعب الذي انتشر في كل مؤسسات الدولة بدءا من اعلى مسؤول الى ابسط موظف.
ان الفرق بين اعلام السلطة والاعلام الحر يكمن في هذه النقطة تحديدا، فبينما يبذل اعلام السلطة كل ما بوسعه ويستفرغ كل طاقته من اجل الحديث عن انجازات السلطة حتى اذا كانت وهمية او مستقبلية، كالعصافير العشرة التي على الشجرة، من دون ان يتعرض الى فشلها او اخفاقاتها او عجزها، يسعى الاعلام الحر الى تقييم الانجازات من جانب، والحديث عن الفشل من جانب آخر، ولان المواطن في العراق مل من ابواق السلطة التي تطبل وتزمر لانجازات لم يلمسها ابدا، لذلك فهو يبحث عن الاعلام الحر الذي يحلل له اسباب الفشل وقد يقرا فيه حلولا لها، اما اذا لم يجد مثل هذا الاعلام في وسائل الاعلام الوطنية، فانه يلجا، والحال هذه، الى الاعلام المعادي الذي يدس السم في العسل، ولذلك نجد ان اعلام (العربان) اكثر تاثيرا من الاعلام الوطني في الراي العام العراقي وللاسف الشديد.
ثانيا: خطر تهديدات الارهابيين والظلاميين الذين يرسمون الخطوط الحمراء للاعلام كيف ما يشاؤون، فيمنعون هذا الراي وينعتون الاخر بالمروق عن الدين مثلا ويعتدون على الثالث بعد ان يصدروا ضده حكما غيابيا بتهمة التعدي على الذات المقدسة لهذا الزعيم الرمز او ذاك القائد الضرورة.
انه خطر التحجر والتطرف والتزمت الذي يزيد مساحات اللامفكر فيه اتساعا يوما بعد آخر، فيما نعرف جيدا بان حرية التعبير هي احد اهم وابرز تجليات الاعلام الحر، فاذا كان المثقف او المفكر او الباحث محضور عليه ولوج المناطق اللامفكر فيها بسبب هذا النوع من الارهاب، فكيف، يا ترى، سيفكر المواطن بحرية؟ ومن اين سيحصل على المعلومة الصحيحة ليبني عليها موقفه الصحيح والسليم؟ واين سيقرا مختلف الاراء ليقف عند اصوبها واحسنها وافضلها؟ او لم يقل القران الكريم {الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه، اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب} فكيف سيتبع المواطن احسن القول اذا لم يسمع مختلف الاقوال والاراء اولا؟.
اما بالنسبة الى الرقابة على الاعلام، فالضمير اول المراقبين، اما اذا غاب في الوعي والاداء فان الاعلام سيتحول اما الى بوق للحاكم ليريح نفسه من الرقابة او ان يتحول الى بائع ضمير يبيع نفسه لمن يدفع اكثر، فقد يتحول الى بوق للدعاية المضادة اذا مات ضميره، ولذلك فان ضمير الاعلام هو افضل رقيب، لانه رقابة ذاتية وطوعية، تتحكم باتجاهاته لتحقيق الصالح العام فقط.
اما ثاني رقيب على الاعلام فهو القضاء حصرا، فان الاعلام في البلاد الديمقراطية لا يقف متهما الا امام القضاء فحسب، فهو لا يقف متهما امام الحاكم او زبانيته او حماياته، كما انه لا يقف متهما امام ادوات الحاكم القمعية، لان كل ذلك يحد من حريته، فالاعلام المرعوب والخائف من ادوات الحاكم لا يمكنه ان يكون حرا، واذا فقد حريته، شلت اهم رسائله الا وهي الرقابة، وعلى راسها رقابة حقوق الانسان.
وان من ابسط شروط حرية التعبير والذي تتمثل بالمقال او الشعر او الرسم الكاريكاتيري او معارض الصور او التظاهر السلمي والاعتصامات والاضرابات السياسية، هو ان لا تكون الحكومة هي الحكم فيما بينها وبين المواطن، فليست الحكومة هي التي تقرر ما اذا كان هذا المقال او ذاك الكاريكاتير يدخل ضمن اطار حرية التعبير ام لا؟ لان الحكومة طرف في الموضوع، فكيف تجيز لنفسها ان تحكم على الموقف؟.
يجب تفعيل القضاء المستقل المتعلق بالاعلام في العراق ليلجأ اليه المسؤول اذا شعر بان الاعلام تعرض له ظلما وعدوانا، فيقتص منه امام القضاء حصرا، ويلجأ اليه الاعلام كذلك اذا ما تعرض للظلم والقسوة على يد السلطة وزبانيتها وحمايات المسؤولين، من اجل ان نصل الى يوم لا يقف فيه الاعلام متهما امام احد الا القضاء، كما هو حاله في البلاد الديمقراطية في هذا العالم.
اذا تحققت حرية الاعلام فستتحقق حرية التعبير، والاخيرة يلزمها ان تؤدي دورها في:
اولا: التحدث عن حقوق المواطن، من خلال اشاعة الثقافة الدستورية، لان المواطن الذي لا يعرف حقوقه التي يضمنها الدستور والقانون، فسيتصور ان كل خدمة يقدمها له المسؤول، هي مكرمة منه ومنة عليه، الامر الذي يدفعه لتقديم الشكر له، على اعتبار انه تنازل عن حقه من اجل تقديمه للمواطن، وان مثل هذا الفهم هو الذي يخلق ثقافة عبادة الشخصية في المجتمع، ما يساهم في عملية صناعة الاصنام التي تتحول شيئا فشيئا الى حفنة من المستبدين الظالمين الذين ان شاؤوا وهبوا المواطن فتات حقوقه، وان شاؤوا استحوذوا على البلاد والعباد وخيراتها من دون ان يعطوا للمواطن شيئا منها، كما هو الحال اليوم مثلا في البلاد التي تحكمها انظمة شمولية قبلية وراثية، كالجزيرة العربية مثلا التي تحكمها واحدة من افسد الاسر في العالم، الا وهي اسرة آل سعود الفاسدة، والتي استاثرت بخيرات البلاد وتركت الشعب يتظور جوعا والما وتخلفا، بعد ان سحقت ابسط حقوقه.
ثانيا: التحدث عن واجبات الحاكم قبل الحديث عن حقوقه، ليعرف المواطن بان الحاكم خادم وليس متسلط، وهو وكيل عنه في ادارة البلاد وليس اصيل، فان حق السلطة الذي يمارسه الحاكم هو حق مكتسب من ارادة المواطن التي تتجلى في صندوق الاقتراع عندما يشارك في الانتخابات، فاذا منح المواطن صوته للمسؤول منحه به حقه في ممارسة السلطة، والا فسيكون من المغتصبين، فلا يحق له ان يمارسها ابدا.
ان مثل هذه الثقافة يجب ان تشاع في المجتمع، ولا يتحقق ذلك الا بحرية التعبير، ليتحدث الاعلام عن الواجبات الملقاة على المسؤول، ليعرف المواطن ما اذا كان هذا المسؤول او ذاك قائما بواجباته تجاهه او مقصر فيها؟ فاذا كان قائم بها فانعم به من مسؤول، اما اذا كان فاشلا ومقصرا في مهامه، فعلى المواطن ان يراقبه ويحاسبه، واذا شاء ان يسقطه عن عرش المسؤولية.
ثالثا: ملاحقة التجاوزات وفضح التقصير والتاشير على مواطن الخلل في السياسات العامة، فالاعلام الحر هو القادر على فعل كل ذلك، على العكس من الاعلام غير الحر الذي يشغله اكل طيبات الحاكم كالبهيمة المربوطة همها علفها او المرسلة شغلها تقممها تكترش من اعلافها وتلهموا عما يراد بها، على حد وصف الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام.
ان من اعظم الخيانات التي يرتكبها الاعلام، هي عندما يسكت على تجاوزات الحاكم الظالم ولا يفضح سياساته الفاشلة، ويغض النظر عن ممارساته الاستبدادية مهما كانت صغيرة وتافهة، ولا يدافع عن حقوق المواطن عندما تتعرض للانتهاك، وان مثل هذا الاعلام هو الذي يصنع الديكتاتور، وهو الذي يساعد على تضخيم دور المستبد حتى يصل الى مرحلة يدمر فيها البلاد، وكلنا يتذكر دور الاعلام بهذا الصدد عندما ضخم شخصية الطاغوت في عدد من البلاد العربية كالعراق مثلا في عهد الطاغية الذليل صدام حسين او في ليبيا في عهد الطاغية الاخر معمر القذافي، من خلال تمجيده لدرجة التاليه، ليتحول الى طاغوت بامتياز صدق انه اله او نصف اله على الاقل، فلم يشا ان يسلم البلاد الا قاعا صفصفا، ولا زلت اتذكر كيف وقف احد المدعين للثقافة وانه يراس منظمة للدفاع عن حقوق الانسان امام طاغية ليبيا المقبور ليخاطبه بعبارة (سيدي القائد) الا تعسا لهذه الثقافة، وتبا لهذه الحقوق التي يدافع عنها امثال اشباه المثقفين هؤلاء.
ان الاعلام رسالة وشرف وضمير ومسؤولية، فاما ان يتحلى باخلاقياتها من يتصدى لها او ان يتركها لرجالها، اما ان يتحول الاعلام الى مكب لكل انتهازي وفاشل ووصولي وذليل على عتبةالطاغوت، فتلك هي المصيبة.
أقرأ ايضاً
- اكذوبة سردية حقوق الانسان
- دور الاعلام القضائي في تحقيق الأمن القانوني
- ثورة الحسين (ع) في كربلاء.. ابعادها الدينية والسياسية والانسانية والاعلامية والقيادة والتضحية والفداء والخلود