صدق أو لا تصدق.. زعماء مصر الذين قادوا أصعب حقبها السياسية والذين يمثلون علامة فارقة في تاريخها، يكون مصير أبنائهم وأحفادهم في أدنى درجات السلم الاجتماعي.
فأحفاد الزعيم احمد عرابي، قائد معركة التل الكبير، يعانون من الفقر رغم صدور قرار من ثورة يوليو بإعادة الأملاك التي صادرها الخديوي توفيق بعد فشل ثورة 1882، والملكة فريدة لاقت الكثير بعد ثورة 1952 وتعرضت لمضايقات عديدة, ولم تجد من ينفق عليها إلا عملها في مجال الرسم ومساعدات الأصدقاء.
أما مأساة أبناء الزعيم محمد نجيب، أول رئيس مصري، فقد تجاوزت كل الخطوط.. حيث حٌكم على نجيب بالإقامة الجبرية في مسكن بسيط بالمرج, وحُذف اسمه من كتب التاريخ, ودفع اثنان من أبنائه حياتهما لأنهما أبناء نجيب, ونجا الثالث بعدما ارتضي أن يعمل سائق تاكسي أجرة، كما تعاني بنات الرئيس الراحل أنور السادات من زوجته الأولي إقبال ماضي الفقر المدقع.
وكل تلك الأمثلة تطرح تساؤلا مهما: لماذا لا تدفع الدولة راتبا شهريا أو معاشا يضمن حياة كريمة لأبناء زعماء مصر جزاءً ووفاءً لما قدموه في سبيل مصر بدلا من تركهم هكذا بدون أي رعاية؟!
من العز إلي الفقر
كانت أسرة أحمد عرابي باشا - قائد الثورة العرابية (1881- 1882)- من الأسرة الميسورة في الشرقية, فوالده كان عمدة القرية, ويملك أراضي وأفدنه ساعدته على خدمة أهل القرية, لكن كل تلك الأراضي ومعها الأراضي التي اشتراها أحمد عرابي مع إخفاق ثورة عرابي 1882 واحتلال إنجلترا لمصر. حيث أصدرت المحكمة حكما بالإعدام على عرابي ورفاقه, استبدله الخديوي بالنفي المؤبد, مع تجريده من أملاكه.
عاش عرابي في منفاه بجزيرة سيلان (سريلانكا) حتى عاد 1901. وطالب بإعادة أملاكه وأمواله, أو تعريضه عنها لتكون معاشا بعد وفاته لعائلته, لكن قوبل طلبه بالرفض, وكتب في مذاكرته, التي نشرتها دار الهلال \"وهكذا تبين أن الحكومة المصرية لا تريد أن تسمع لصوت الحق ولا تريد على من يخاطبها .. ولذلك تركت لأولادي وأحفادي من بعدي, ولذريتي جيلا بعد جيل, الحق في المطالبة بحقوقي وأملاكي المنهوبة .. حين تسترد الأمة حريتها واستقلالها .. وأني واثق بأن أمتي المصرية الكريمة لا تنساني , ولا تترك أولادي حين يأتي اليوم الذي تعرف فيه حقيقة أعمالي الوطنية ..\".
ومع قيام ثورة يوليو 1952 صدر قرار بإعادة أملاك احمد عرابي, لكن الغريب أن هذا القرار حتى اليوم. وخلال زيارة للرئيس السادات لمتحف عرابي تقابل الرئيس مع أحفاد الزعيم الراحل, فقرر صرف معاش قدره 1000 جنيه, لكن المعاش توقف مع وفاة هذا الحفيد في 1980. واليوم مازال الفقر ينشب أظفاره في عائلة عرابي حتى عمل بعض أفراد في خياطة الملابس وبيع الفول والطعمية, وميكانيكي سيارات وبائع أسماك. لدرجة أن أحدا أفراد عائلته قال أنه لم لا يعلم عن جده شيئا إلا أنه كان سببا في فقرهم وضياع أراضيهم.
الملكة فريدة تتسول الإعانات
أحب المصريون الملكة فريدة كما لم يحبوا ملكة من قبل، بينما فقد الملك فاروق حب الشعب حينما طلق الملكة الجميلة عام 1948، وقد عانت فريدة بعد يوليو 1952, وتعرضت لمضايقات عديدة.
وفي مقال بعنوان \"ملكتان وأميرتان\" نشر بالأهرام يوم 18 يوليو 1975 يقص علينا الكاتب لويس عوض ما رآه حينما تقابل مع ملكة مصر السابقة الملكة نازلي في أمريكا وكيف تعيش بعدما أشهرت إفلاسها, ثم يتطرق إلي لقاءه في باريس مع الملكة فريدة, كتب يقول: \"وإذا بي أفاجأ بها تقول لي بأنها عرفت منذ 1952 أهوالا شدادا, فصودرت أموالها وجواهرها وحساباتها في البنوك المصرية ولم تكن لها حسابات خارج مصر على عكس الكثيرين من أعضاء الأسرة المالكة.
ولم تبق لها الثورة إلا على قصرها في شارع الهرم على أن تقيم فيه وقررت لها معاشا شهريا قدره مائة جنيه صافيها وكذا وثمانين جنيها, وهو مبلغ تافه لم يكن كافيا للمأكل والملبس ونفقات الانتقال وخدمة تلك الدار الكبيرة, ولم يبق لها من الخدم إلا امرأة واحدة قبلت أن تقيم معها وتخدمها بلا مقابل إلا قوتها من باب الوفاء , وكانت هذه الخادمة تسخن لها الماء على وابور الجاز لتستحم (في إشارة إلى أنها لم تكن تملك ثمن البوتجاز والسخان).
وكانت أفظع فترة عندها هي شهر يناير من كل عام حين كانت لجنة الجرد تأتي وتجرد محتويات القصر.. فإذا وجدت كرسيا مكسورا أو مختفيا كانت تزاول عملها في غلظة وفظاظة , بل أفظع من ذلك , ففي كل سنة كانت تطلب الإذن لها بالسفر إلي أوروبا لرؤية بناتها اللواتي كن في حضانة الملك فاروق فلا تعطي تأشيرة خروج , وبقيت على هذه الحال عشرة سنوات وكأنها شبة معتقلة في مصر.
وأخيرا أذنت لها الحكومة في السفر واشترطت إلا تقابل فاروق. وفي أوروبا طلبت فريدة من زوجها السابق أن يرسل إليها بناتها .. فأصر فاروق على حضورها إليه إذا أرادت أن تري بناتها . وهنا انفجرت الملكة السابقة بالبكاء وجرت دموعها غزارا .. لقد كان واضحا أن من ينتحب أمامي ليس ملكة مصر السابقة وإنما قلب الأم ..
وأخيرا سيطرت على أعصابها وقالت في هدوء \"ولأني لم أعد إلي مصر في الموعد المحدد قطع معاشي بعد سنة واحدة , ثم بيع قصري , وأنا الآن بلا موارد رزق إلا ما يأتيني من بيع لوحاتي . وقد عرفت أياما سوداء .. كيف أعود إلي مصر وليس لي فيها مأوي ولا معاش ؟\".
محمد نجيب .. مأساة صامتة
في 23 يوليو 1952.. قامت حركة في الجيش المصري طالبت بالتطهير وإجراء بعض الإصلاحات.. استقبلت الجماهير الحركة بترحاب شديد فاق كل التوقعات, وكيف لا وقد كان على رأسها اللواء محمد نجيب أحد ابرز قادة الجيش المرموقين بأخلاقياته الرفيعة, وثقافته الواسعة فهو حاصل علي ليسانس الحقوق, وخريج كلية أركان الحرب, ويجيد أكثر من لغة ويلم باللغة العبرية, إلي جانب شجاعته في حرب فلسطين التي ضرب فيها القدوة لغيره وظفر بإعجاب الضباط كافة في ميدان القتال, كما تحدي الملك فاروق في انتخابات نادي الضباط في يناير 1952 واكتسح فيها مرشح الملك حسين سري عامر.
سريعا حدث خلاف بين عبدالناصر ونجيب الذي كان يري ضرورة عودة الجيش للثكنات, وانتهت الأزمة بخروج أول مظاهرات في تاريخ العالم تطالب بسقوط الديمقراطية، ويتم عزل نجيب عن رئاسة الجمهورية ووضعه تحت الإقامة الجبرية في فيلا زينب الوكيل بالمرج حتى 1970.
يقص علينا نجيب في مذكراته \"كنت رئيسا لمصر\" كيف ذاق من العذاب ألوانا مما لا يستطيع أن يوصف, فقد سارع الضباط والعساكر بقطف ثمار البرتقال واليوسفي من الحديقة, وحملوا من داخل الفيلا كل ما بها من أثاث وسجاجيد ولوحات وتحف وتركوها عارية الأرض والجدران.
يقول نجيب: لقد تعذب أولادي كما تعذبت أنا .. تعذبنا جميعا داخل معتقل المرج . كان ممنوعا علينا لسنوات أن نستقبل أحدا .. وبعد سنوات طويلة سمحوا لنا بذلك , لكن على شرط أن يجلس معنا ضابطا ليسجل كل ما يقال .. وكانت إحدى نقاط الحراسة تقع على السطح , وكان لابد للجنود والضباط ليصلوا إليها أن يمروا بحجرة نومي ..
وكان من الطبيعي ومن المعتاد أن يفزع الجنود أفراد أسرتي بإطلاق الرصاص في الهواء , في منتصف الفجر , وفي الفجر .. وفي أي وقت يتصورن أنه مناسب لراحتنا .
وكانوا يؤخرون عربة نقل الأولاد إلي المدرسة فيصلون إليهم متأخرين ولا تصل العربة إليهم في المدرسة إلا بعد مدة طويلة من انصراف كل من المدرسة فيعودون إلي المنزل مرهقين غير قادرين علي المذاكرة...
كان علي من في البيت ألا يخرج منه من الغروب إلي الشروق, وكان علينا أن نغلق النوافذ في عز الصيف .. تجنبا للصداع الذي يسببه عمدا الجنود والضباط .. كانت نسمة الهواء ليلا في الصيف محرمة علينا، ولم تفلح الشكوى التي اضطررت إليها بسبب الأولاد , إلي عبدالحكيم عامر وإلي غيره\".
وليت الأمر اقتصر على ذلك.. فكان الابن الأكبر لنجيب \"علي\" يدرس في ألمانيا, وكان له نشاط واسع ضد اليهود هناك, كان يقيم المهرجانات التي يدافع فيها عن مصر والثورة وعن حق الفلسطينيين, ولم يعجب هذا الكلام - علي حسب قول اللواء نجيب - المخابرات المصرية التي رأت في نشاطه إحياء للكلام عن أبيه.
وفي ليلة كان \"علي\" يوصل زميلا له فإذا بعربة جيب بها ثلاثة رجال وامرأة تهجم عليه وتحاول قتله, وعندما هرب جرت وراءه السيارة وحشرته بينها وبين الحائط, ونزل الرجال الثلاث وأخذوا يضربونه حتى خارت قواه ونزف حتى الموت, ونقل جثمانه إلي مصر فطلب اللواء نجيب أن يخرج من معتقله ليستقبل نعش ابنه ويشارك في دفنه...لكنهم رفضوا, كان هذا في عام 1968.
ولم يسلم فاروق - الابن الثاني لنجيب من نفس المصير - فقد استفزه أحد المخبرين الذين كانوا يتابعونه وقال له: ماذا فعل أبوك للثورة .. لا شئ ..أنه لم يكن أكثر من خيال مآتة ديكور واجهة لا أكثر ولا اقل.
فلم يتحمل فاروق هذا الكلام وضرب المخبر. يومها لم ينم فاروق في البيت, فقد دخل ليمان طره, وبقي هناك خمسة أشهر ونصف ..خرج بعدها محطما منهارا ومريضا بالقلب, وبعد فترة قليلة مات.
يقول نجيب في مذكراته: \"أما أبني الثالث يوسف , فلم يكن رغم بعده عن النشاط العام , أكثر حظا من أخويه .. فبعد أن تخرج من معهد العلوم اللاسلكية أشتغل في إحدى شركات الدولة , ولكنهم لم يتركوه في حاله .. افتعل أحد أقارب شمس بدران مشاجرة معه , انتهت بإصدار قرار جمهوري برفته والتخلص منه.
ولم يجد يوسف ما يفعل سوي أن يعمل على سيارة أجرة في الضواحي وهو الآن أسعد حالا لأنه يعمل في شركة المقاولون العرب سائقا في الصباح , وعلى تاكسي اشتراه بالتقسيط في المساء\".
وقبل وفاته حصل ورثة زينب الوكيل على حكم باسترداد الفيلا التي يسكن فيها نجيب .. وأصاب هذا الخبر نجيب بالحزن.. فقد عاش في هذه الفيلا منذ نوفمبر 1954 .. واستودع فيها كل ذكرياته.. كما لم يكن مسكن آخر .. وتدخل الرئيس مبارك ووفر لنجيب مسكن ملائم في القبة.
وبعد حياة حافلة توفي نجيب في 28 أغسطس 1984, وتقدم الجنازة العسكرية الرئيس مبارك، ويوسف نجيب، بالإضافة لأعضاء مجلس قيادة الثورة الباقين علي قيد الحياة. يقول اللواء حسن سالم - ابن أخت اللواء نجيب - \"الغريب أنه في ذلك اليوم العجيب والرجل لم يبرد دمه في قبره إلا وجاءني خبر طرد أحفاده من فيلا ولي العهد، التي خصصها له الرئيس مبارك بعد طرده من فيلا المرج\".
بنات السادات
تزوج الرئيس السادات مرتين..الأولى كانت من السيدة إقبال ماضي وأنجب منها ثلاث بنات هن: رقيه, راويه, كاميليا, وطلقها 1949. ثم تزوج من السيدة جيهان رؤف صفوت (أطلق عليها بعد ذلك جيهان السادات)، وأنجب منها 3 بنات وولد هم لبنى و نهى وجيهان وجمال.
يؤكد أحمد فرغلي, الكاتب الصحفي, والذي روي مذكرات السيدة إقبال ماضي, الزوجة الأولي للرئيس السادات أن الظلم الذي وقع على السيدة إقبال وبناتها كان شديدا, حيث لم تتمتع بناته بحياتهن كأبناء لرئيس جمهورية, بل كانت ظروف حياتهن عادية. وكان نصيبهن من ثروة السادات ضئيلا.
وحكت كاميليا السادات مع الإعلامي عمرو الليثي في برنامجه \"اختراق\" طرفا من مأساتها, وكيف تزوجت صغيرة من ضابط حاول استغلال كونها أبنه السادات, وكيف قاست في الغربة. كما أكدت أختها رقية السادات في حوار صحفي أنهن لم يستغلين كونهن بنات الرئيس أبدا \"أنا خير مثال على عدم استغلالنا لمنصب أبى، فمعاشي منه لا يتجاوز 350 جنيها شهريا\".
.
كذلك نفس الوضع في حالة أسرة الرئيس الراحل أنور السادات. وبسبب طبيعة العلاقة بين السيدة جيهان السادات والسيدة سوزان مبارك خلال أيام حكم الرئيس السادات تعاملت الرئيس مبارك وقرينته سوزان بجفاء مع جيهان بعد رحيل السادات. أما بقية أسرة السادات, فقد انقسمت قسمين: مجموعة اتهمت بالفساد في عهد مبارك, مجموعة عانت من الفقر وشظف العيش.
أما أسرة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فقد نجت من براثن الفقر , رغم أن عبد الناصر مات فقيرا ولم يترك إلا بضع جنيهات , وذلك بسبب الدعم الذي تكفل به بعض الزعماء العرب مثل الرئيس الليبي القذافي, بجانب أن بعض أبناءه تزوجوا من رجال أعمال وبيزنس.
أقرأ ايضاً
- 400 مليون دولار خسائر الثروة السمكية في العراق
- هل تطيح "أزمة الدولار" بمحافظ البنك المركزي؟
- فاطمة عند الامام الحسين :حاصرتها الامراض والصواريخ والقنابل.. العتبة الحسينية تتبنى علاج الطفلة اللبنانية العليلة "فاطمة "