الخياطة بشقيها النسائي والرجالي عرفت منذ عرف الانسان ضرورة ارتداء الملابس وتطورت عبر الازمنة حتى وصلت الى ما يسمى بالعصر الحديث، وكان للخياطة الرجالية اسواقها وزهوها والقها وزبائنها وكانت تدر من الاموال ما يمكن الخياط من شراء دار او سيارة او يعيش حياة الرفاهية، لكنها وبعد العام 2003 وانتهاء الرقابة الاقتصادية والصناعية على الاسواق واغراقها بالسلع الرخيصة غير المجدية، تراجعت تلك المهنة وباتت تلفظ انفاسها الاخيرة وقد تنقرض في اي لحظة.
عميد الخياطين
عباس علي حسين (مواليد 1947) مارس مهنة الخياطة منذ 65 عاما، بدأ حياته المهنية في شارع صاحب الزمان وتخرج من تحت يديه بين 35 ــ 40 خياطا، يشير في حديثه لوكالة نون الخبرية، الى ان "الخياط الرجالي كان ركنا اساسيا من حياة الشعب العراقي لان الجميع يلجأ اليه لخياطة ملابسه، وهو كان متخصصا بخياط البدلات الرجالية (القاط) ويستذكر ان الخياطين كانوا هم من يشترون الاقمشة ويعرضونها في محالهم فيختار الزبون ما يريد ويقومون بخياطة طلبه واخذ الاجرة"، مشددا على ان "انواع الاقمشة المستعملة في خياطة الملابس من مناشيء عالمية مثل القماش الانكليزي والايطالي، بل ويذهب الى اكثر من ذلك ويؤكد ان الخياط يعرف نوع القماش من اللمس، وفعلا لمس قماش بدلتي التي ارتديها واكد انها من نوع التركال النفطي".
كنا نشتري صندوق يحتوي على اطوال قماش سعر المتر بين 500 فلس الى دينار ونص قال هذه الجملة بحسرة واكمل، "الاقمشة كانت من انواع هربت وابو العلمين وانواع الصوف، وكان الخياطين يعرفون اذواق زبائنهم،مستذكرا سنين عمله خياطا بعمارة الهندي في شارع الرشيد ببغداد وكيف خاط بدلة الى الرئيس الاسبق عبد الرحمن عارف في الستينات"، فضلا عن "عدد كبير من السفراء والدبلوماسيين العرب والاجانب وقضاة وتجار وميسورين ووجهاء، لان معرضه كان يضم صالة كبيرة تعرض فيها انواع البدلات الرجالية والاقمشة ونماذج من البدلات المفصلة قبل خياطتها، ويختار الزبائن انواع الاقمشة والبدلات".
ستة خياطين فقط
ايام العيد والشتاء هما مواسم الزخم في العمل هكذا يصف حسين الحال لان "العراقيين كانوا يعشقون ارتداء البدلات الرجالية وكانت مهنة الخياطة الرجالية تدر اموالا جعلتني وغيري نشتري البيوت والسيارات، حيث اشتريت اولا سيارة فولكس واكن ثم فيات جي ال ثم كرونه وكنت اسافر للسياحة في كل عام بحدود شهر من جراء وفرة الارباح، اما الان فانا لا استطيع دفع ايجار المحل الصغير الي اشغله والبالغ 550 الف دينار شهريا وما يمنعني من ترك المهنة هو صعوبة جلوسي في البيت لاني عشقت عمل الخياط واصبحت اعمل فقط في تصليح وترقيع الملابس والتقريم وامور يستطيع المبتدأ خياطتها".
وعن الحلول اشار عميد الخياطين، الى ان "الدولة عليها ان تعتبر هذه المهنة هي تراث عراقي اصيل ممتد منذ العصرين الاموي والعباسي الى الان ويمكن ان تحتفظ ببعض المحال في كل محافظة وتعتبرها محال تراثية توثق تاريخ المدن العراقية وتجهزها ببعض الوازم والمعدات وتساهم بتحمل جزء من مبالغ الايجار لتبقى شاهدا على تاريخ المهن القديمة، لان كربلاء الان لم يتبقى بها سوى 6 خياطين من مجموع 2722 خياط، فهي ذاهبة للزوال، فهل من مغيث؟"
اغراق السوق
انين اخر صدر من الخياط احمد عبد الامير (ابو سجاد)، الذي مر على عمله في هذه المهنة اكثر من 35 عاما الذي توارث المهنة من اخيه الخياط في شارع الامام علي (عليه السلام) بمدينة كربلاء المقدسة، تخصص في خياطة البنطال والقميص، يشير خلال حديثه لوكالة نون الخبرية، الى ان "مهنة الخياط الرجالي تلفظ انفاسها اليوم بسبب سياسة الاستيراد العشوائي واغراق السوق الذي يسمح باخراج العملة الصعبة واستيراد سلع متردية جدا لا جدوى من استيرادها، ما جعل خياطة الملابس الرجالية خاسرة مسبقا، ويضحك وهو يقول منذ العام 2003 دخلت ملابس لا يتجاوز عمرها في الاستخدام اسابيع او اشهر معدودة وتتمزق فكيف بموديلات ما انزل الله بها من سلطان هي ممزقة اصلا".
الخياطة قديما
الخياطة والاقمسة والمكائن والخيوط والازرار كانت كلها تمتاز بالجودة، هكذا اشار (ابو سجاد) واكمل قائلا: "فقماش البنطال يستورد من مناشيء عالمية مثل هولندا وايطاليا وانكلترا ورومانيا، اما القمصان فقماشها من نوع تيوبا الياباني والتترون التاليدني الراقية، وكنا نستنفر جهودنا في ايام شهر رمضان قبل العيد بل نوقف استلام الخياطة بعد منتصف شهر رمضان حيث نعمل من الساعة الواحدة ظهرا الى السحور ونخيط بحدود 400 قطعة، وفي موسم بدء الدراسة الجامعية او موسم العزاء الحسيني كان الزخم ايضا موجود واغلب الطلبة يخيطون زيهم الجامعي في محال الخياطة الرجالية وكذلك المعزين في محرم الحرام، وايضا من زبائننا الموظفين والفنانين والوجهاء والمدراء وباقي شرائح المجتمع، لانها مهنة الخياطة كانت مهنة راقية تدر ذهبا والان اصبحت وبالا على العاملين فيها".
وعن الحلول لمنع اندثار تلك المهنة اشار ابو سجاد الى انه "من الممكن ان تحافظ الدولة على تلك المهنة بتقديم الدعم للخياطين وتزويدهم باسعار مدعوة من الاقمسة الراقية ومساعدتهم في التعاقد مع الخياطين لخياطة ملابس الزي الموحد في بعض المؤسسات الحكومية، كما بالامكان جمع الخياطين القدماء الذين يعدون على الاصابع الان في مكان واحد فيصبحون اشبه بالموقع التراثي"، لاسيما انهم "يعملون بمكائن ومناضد وعدد قديمة تعد تراثية، والخياطين القدماء يعشقون مهنتهم وابدعوا بها لعقود مضت ولا ضرر في ديمومة عملهم وبالاخص ان ماكئننا قليلة الاعطال ونحن نصلحها بايدينا".
قاسم الحلفي ـ كربلاء
أقرأ ايضاً
- بركات الامام الحسين وصلت الى غزة ولبنان :العتبة الحسينية مثلت العراق انسانيا(تقرير مصور)
- عمرها يتجاوز (500) عام :مهنة "رواف الملابس" اندثر سوقها في بغداد وتسير نحو الانقراض (مصور)
- بدأ براية ورجُلين :موكب رايات البصرة الحسيني يسير (22) يوما رافعا (30) راية (مصور)