حجم النص
بقلم: حيدر السلامي الإمام الحسين عطاء غير محدود وبلسان القرآن "غير مجذوذ". من يجادل في هذه الحقيقة فهو واحد من اثنين: إما جاهل أعمى وإما حاقد متعامٍ، وكلاهما مطرودان من الفردوس، لأن الوجدان يحكم بذلك عفواً وليس تكلفاً. ها نحن نرى وبأم العين ومنذ مضى الحسين إلى بارئه شهيداً بل سيداً للشهداء بنص الحديث الشريف، كيف بقيت مسيرته الإصلاحية وحركته التغييرية مستمرة إلى يومنا. ونبئنا وشهدنا ما يؤيد امتداد ذكراه لتغشى الزمان كل الزمان المتبقي إلى يوم القيامة وربما إلى أبعد من ذلك في تقويم أيام الله. أما مظلوميته المنتصرة على ظالمية أعدائه، فلا أظهر منها ولا أشهر. وأما محبوه والمتأثرون به شخصاً ومبدأ فما أكثرهم عددا وتنوعاً. وأما خدمة قضيته وإقامة شعائره فلم نجد لها نظيرا على وجه البسيطة ويكفيك نظرة خاطفة على هذه الحشود المعبأة بالحب عقلا وقلباً فمنهم من يفترش الأرض تأدية لواجب الضيف الحسيني ومنهم من يعتلي الأعواد منبرا هاديا إلى نهج الرشاد والصلاح ومنهم من يضرب الخيام ويشيد التكايا لإيواء الزائر ومنهم من يشمر عن ساعديه لإطعامه وإروائه ومنهم من يبذل نفسه وماله ووقته ولم يدخر جهدا ووسعا في سبيل تكريم الحسين بزواره. فترى في طريق يا حسين وتسمع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من مشاهد الإبداع والتنوع في العطاء والبذل والسخاء الذي رسمته ريشة الحب الحسيني حتى لتظن أنك في يوم حشر أو عيد كوني وقد اجتمع الناس من كل أمة وملة ودين، ركبانا وراجلين يأتونك من كل فج عميق. عجباً.. ما هذا الحب الذي يوحد الجميع. المسلم الشيعي والسني إلى جانب المسيحي والصابئي والإيزيدي. العالم والمثقف والمفكر والأستاذ الجامعي إلى جانب الأمي والكاسب الكادح والساذج البسيط. الرجل والمرأة، الشيخ والشاب والطفل الصغير. كل أولئك يزحفون صوب الضريح الأنور في مسيرة تربو على العشرين مليوناً وهي في تزايد مضطرد كل عام. ما السر الإلهي الذي حدا بكل هذه القلوب لتنبض حبا لهذا الرجل العظيم دون سائر العظماء؟! أي خلود هذا الذي جعل كل هذه الملايين من البشر يعيشون هذه المشاعر المتجاذبة الجامعة بين الحزن والفرح بين الشعور بالأسى والتفجع لما حل بالحسين وجمعه الخيّر والشعور بالسرور والحبور لما يترتب على مواساته من آثار وعوائد دنيوية وأخروية. قضت المشيئة أن يرمى قلب الحسين بسهم ذي ثلاث شعب، ليكون الطريق إلى ضريحه ذا ثلاثة محاور أيضا (النجف والحلة وبغداد). وشاء القدر أن يلاقي الحسين بمفرده حشوداً مؤلفة من الذئاب تطلب قتله ومحو ذكره وطمس هويته وإماتة وحيه وبوح دمه الصادع بالحق الصارخ بالصدق، إلا أنه فاجأهم فعاد ليواجههم حشودا مليونية هادرة في كل عصر ومن كل مصر تنادي صباح مساء: لبيك يا حسين. إنها فلسفة الحب وإعجاز الرب. حشود تسير نحو الضريح لأجل تقبيله وتجليله والتمسح بأعتابه. وأخرى وكلّ بحسبه وبقدره تجابه أعداءه وتنازلهم في سوح الجهاد دفاعاً عن قيمه وذوداً عن مبادئه وحفظاً لتضحيته. وثالثة تقوم على خدمة كل تلك الحشود وتلبي احتياجاتها المادية والمعنوية وتعزز حركتها وتدعم قوتها وتمدها بالغالي والنفيس لإذكاء جذوة الحسين في النفوس. وحشود رابعة توثق وتكتب وتصور وتنشر وتملأ الفضاء الرحب بكلماته وكلمات محبيه وتدعو الناس أجمعين إلى الأخذ من عطائه والنهل من معينه العذب النقي. ما أروعها لوحة ملحمية ليس للخيال مجال في تكوينها. أناس تطلق المبادرات وتنظم الحملات. فهنا شباب يرفعون أطول راية في العالم (ثلاثة آلاف متر) وهناك شباب يعرضون بالرسم الحر أكبر بانوراما في الشرق الأوسط (55 مترا) وثمة شباب يحملون شعار (أنا حسيني) للحفاظ على نظافة المدينة المقدسة وعلى مقربة من أولئك شباب جعلوا اسم حملتهم (أنا شاب حسيني) لنشر الثقافة وبث الوعي لأهداف الحسين بين جموع الزائرين، وتلك حملة اتخذت شعار (نعم لكربلاء الأجمل) تناشد الداخلين والخارجين المحافظة على الشوارع والأرصفة والحدائق التي تجمل المدينة علاوة على جمالها الرباني. وذلك معرض للتصوير الفوتوغرافي وللكتب والزاد المعرفي. ويبلغ الوجد ذروته إذ يبلغ عدد المواكب والهيئات (8100). وفي زاوية من زوايا كربلاء الأمس واليوم يبهرك أنك وقفت بفطرتك أمام مسرح كبير وعرض شامل لأحداث ووقائع عاشوراء في جميع فصولها منذ خروج الحسين من يثرب حتى عودة زين العابدين وزينب إلى ههنا ثم الرحيل إلى مستقبل الإسلام وتوثيق الصلة بين ذلك الغابر وهذا الحاضر واستشفاف الغيب دعاءً لبزوغ شمس الأمل وظهور مهدي العدل المرتقب. لا شيء أعظم من حضور التاريخ بهيأة الحاضر واستشرافهما المستقبل، وإذا بكتاب الدهر مفتوح لقراءة فصل منه أو تقريب لقطة مصغرة من مشهد يوم الظهور الأقدس وتحقق وعد الله بميراث الأرض وقيام دولة كريمة يعز بها الإسلام وأهله. ولو أرهفت السمع لحديث العصور لآمنت أن الحسين يتحدى التاريخ والجغرافيا والسياسة وكل المسميات الأخرى ويكسر كل أطر الجمود بعطائه الخالد وبقائه الأبدي.