حتى وقت قريب كان إقليم كردستان مثالا يحتذى به من قبل محافظات العراق الأخرى، بفعل توفر الأمن والخدمات والاستقرار السياسي والاقتصادي طوال السنوات الماضية، لكن الأعوام الأخيرة شهدت بروز معادلة جديدة، بات معها المواطن الكردي يتمنى فيه انقلاب الحال والعيش في كنف بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، حتى وصل الأمر بتأييد موظفي الإقليم لقرار المحكمة الاتحادية المرفوض من قبل حكومتهم والقاضي بربط رواتبهم ببغداد مباشرة، وهو القرار الذي اعتبره الحزب الديمقراطي الكردستاني، محاولة "فاشلة" من قبل "الأحزاب الشيعية" لوأد تجربة الإقليم.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي الكردي نوزاد أحمد، إن "الحلم الكردي يتراجع للأسف الشديد، وبعد أن كان مواطنو بغداد والمحافظات الأخرى ينظرون إلى تجربته السياسية والخدمية بعين التمني، تغيرت النظرة الآن، وهو ما يضع مسؤولي الإقليم في دائرة المساءلة عن سبب هذا النكوص".
ويضيف أن "المواطنين في بغداد والوسط والجنوب كانوا يتطلعون فيما مضى إلى أن يكونوا مثل الكرد في الإقليم من حيث العمران والهدوء السياسي والأمن وتوفر فرص العمل في مختلف الجوانب، حتى أنه بات مقصدا للعيش فيه، وخصوصا بأربيل والسليمانية".
ويشخص أحمد "جملة أسباب أدت إلى ما آل إليه الوضع في الإقليم، أهمها الخلافات السياسية والانقسامات الكردية التي كانت داخل البيت الكردي فقط، لكنها صارت مؤخرا تظهر في وسائل الإعلام وانتقلت إلى بغداد، وصار الكرد يشكون بعضهم البعض إلى القضاء العراقي".
ويشير إلى سبب آخر، هو "الفساد الكبير الذي مارسته أحزاب السلطة الحاكمة وعدم وقوفها مع الشعب الكردي، وأيضا فشل السياسة الخارجية لحكومة الإقليم، وخاصة بقضية الصراع الأمريكي الإيراني، حيث أدى وقوف الإقليم مع جهة ضد أخرى إلى زعزعة الاستقرار الأمني الذي كان يتفاخر به سكان كردستان، وهو أهم عامل لجذب السياح والمستثمرين".
وينبه المحلل السياسي، إلى أن "سياسة تكميم الأفواه التي مارستها الحكومة الجديدة في كردستان، وأحزاب السلطة بشكل عام، أدت لنفور المواطن الكردي منهم، وتشبثه بالسلطة الاتحادية للخلاص من هذه السياسة البوليسية".
وكان الآلاف من المعلمين والمدرسين والمحاضرين المجانيين في السليمانية قد بدأوا إضرابا عن الدوام مع بدء العالم الدراسي في أيلول 2023 بسبب عدم صرف رواتبهم لعدة أشهر، لينضم إليهم لاحقا موظفو عدد من الدوائر، وطالبوا في حينها بأن يتم صرف رواتبهم من قبل الحكومة الاتحادية مباشرة من دون المرور بحكومة إقليم كردستان.
وأصدرت المحكمة الاتحادية العليا في 21 شباط الماضي، قرارا يقضي بإلزام رئيس مجلس الوزراء الاتحادي محمد شياع السوداني، ورئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني، بتوطين رواتب جميع موظفي الجهات الحكومية في المركز والإقليم في المصارف الاتحادية خارج إقليم كردستان.
لكن عضو حراك الجيل الجديد، آرام محمد، يشدد على أن "فساد أحزاب السلطة الحاكمة في الإقليم وطريقة إدارتهم هي من جعلت المواطن الكردي يتمنى العودة إلى بغداد، فهي كانت وما زالت تصور الإقليم على أنه جنة ومدن كردستان تشبه أوروبا، لكن الحقيقة المرة لم يكن يعرفها الشعب العراقي في محافظات الوسط والجنوب".
ويبين محمد، قائلا "في السنوات الأخيرة، ونتيجة لعمليات النزوح الكبيرة من مواطني المحافظات العراقية إلى الإقليم، وأيضا نشاط مواقع التواصل الاجتماعي، فقد انكشفت حقيقة الإقليم، وكم المشاكل الكبيرة التي يعاني من الشعب الكردي، تحت وطأة وظلم حكامه".
ويلفت إلى أن "الشعب الكردي في العام 2024 يعيش في داومة أزمات، فلا كهرباء ولا ماء وارتفاع كبير في أسعار الوقود، كما أن هناك تزايدا بمعدلات الفقر والبطالة، وهذه الأمور كلها حصلت بسبب السرقات والفساد الكبير لأحزاب السلطة".
يشار إلى أن الطاقة الكهربائية في جميع مدن الإقليم تصل إلى المواطن الكردي بمعدل يتراوح بين 4 – 5 ساعات يوميا في فصل الشتاء، وفي فصل الصيف تبلغ 8 ساعات كحد أقصى، حيث يتم بيع ما تنتجه المحطات الكهربائية في الإقليم إلى الحكومة الاتحادية، بحسب ما أكد عضو برلمان كردستان النائب السابق علي حمه صالح.
وبين صالح في حينها، أن هناك نقصا في إنتاج الكهرباء مقارنة بالطلب عليها، فالشركات العاملة في توليد الطاقة الكهربائية بالإقليم تقوم ببيع 1400 ميغاواط من الإنتاج للحكومة الاتحادية بموافقة حكومة الإقليم، وذلك نظرا لعدم قدرة حكومة الإقليم على سداد مستحقات هذه الشركات، وهنا تقوم الشركات ببيعها لتعويض خسارتها.
بدوره يشدد عضو الاتحاد الوطني الكردستاني غياث سورجي، أن "سياسة التفرد بالسلطة التي انتهجها رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني وتهميشه للشركاء، وخاصة الاتحاد الوطني الكردستاني، وفريقه الوزاري أدت إلى هذا التراجع الكبير، حيث لم تعد كردستان مضربا للمثل كما كانت في السابق".
ويردف أن "بارزاني هو من يدير الملفات الاقتصادية لوحده، فهو من يسيطر على النفط والغاز والملف الأمني والسياسة الخارجية، وفي عهده يعيش المواطن الكردي، أسوأ أيامه من الناحية المالية، حيث عادت قضية الادخار الإجباري على الرواتب والتأخير وسوء الخدمات للواجهة مرة أخرى".
ويختم سورجي، بالقول إن "استفتاء الانفصال الذي أصر على القيام به رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في عام 2017، كان واحدا من أهم الأسباب التي أدت لتراجع الإقليم على مختلف المستويات، ورفع الدعم الدولي الذي كان يحظى به، فقد كنا أشبه بدولة والأعين بعيدة عنا، ولكننا عدنا سنوات إلى الوراء بسبب الإصرار على إجراء الاستفتاء".
وبدأت الخلافات الكردية الكردية في الظهور للعلن والتأزم بشكل واضح بين الحزبين الحاكمين الديمقراطي والاتحاد الوطني الكردستانيين، خلال حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وبلغت ذروتها في تشرين الأول 2017 عندما أصر رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني على إجراء استفتاء انفصال إقليم كردستان عن العراق وشمول محافظة كركوك والمناطق التنازع عليها به، حيث أعلن في حينها الاتحاد الوطني الكردستاني رفضه للاستفتاء، فيما لجأ العبادي إلى استخدام القوة العسكرية واقتحام كركوك وغيرها من المناطق وطرد قوات البيشمركة منها، وفي ذلك الحين كان الاتحاد الكردستاني يقف إلى جانب الحكومة الاتحادية في إجراءاتها.
في حين، يعلق عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني محمد عامر الديرشوي، بأن "السياسة الجديدة للأحزاب الحاكمة في بغداد وخاصة الشيعية منها، هدفها إنهاء الكيان الدستوري للإقليم، وهم يحركون القضاء كحجة قانونية لغرض تقليص صلاحيات كردستان وتحويلها إلى محافظات تابعة للسلطة المركزية".
ويتهم الديرشوي، الحكومة الاتحادية بأنها "تحاول خلق فجوة بين حكومة كردستان والشعب الكردي، من خلال عدم التزامها بدفع الرواتب وتطبيق الدستور، وهي المتسببة بالأزمة المالية التي يعيشها شعب كردستان".
ويؤكد أن "حلم الأحزاب في بغداد بأن يعود إقليم كردستان كمحافظات تابعة للسلطة الاتحادية لن يتحقق، وهو أشبه بحلم العصافير لأن ما قاتلنا من أجله لسنوات وعقود من الزمن وقدمنا تضحيات وشهداء لن ينهار لرغبات من مجموعة أشخاص يريدون إنهاء التجربة الناجحة للإقليم".
ويحمل الديرشوي "أطرافا كردية لها مشاركة أساسية في حكومة الإقليم هي المسؤولة أيضا عن خلق هذه الفجوة، وحاولت التهرب من المسؤولية، رغم أنها تحكم نحو 50 بالمئة من الإقليم".
وكانت الانتخابات البرلمانية المبكرة في تشرين الأول 2021 بمثابة مرحلة جديدة للخلافات الكردية الكردية، فبعد أن كانت تجري مناقشتها بين الحزبين الحاكمين في إقليم كردستان بعيدا عن العلن، أصبحت بعد ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة خلافا علنيا وأشبه بالانقلاب على العرف السياسي الذي اعتمدته جميع الأحزاب السياسية من حيث تقاسم المناصب، إذ أصر الحزب الديمقراطي على أن رئاسة الجمهورية العراقية حق للمكون الكردي عموما، فيما كانت في السابق من حصة الاتحاد الوطني الكردستاني.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
أقرأ ايضاً
- بغداد تتهم وأربيل ترد.. هل تعود أزمة الرواتب بإقليم كردستان للواجهة؟
- زيارة بهدف واحد.. ماذا يريد عراقجي من بغداد؟
- أدخنة النفايات والمعامل تخنق سماء بغداد.. فأين الحلول؟