- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الاحتكار الرأسمالي يخترع نفسه
حجم النص
بقلم: مظهر محمد صالح يعيش العالم الرأسمالي مجدداً ظاهرة تحول الشركات التنافسية الى كيانات عملاقة وبشكل متسارع، فالعدد السنوي لظاهرة الاندماج والاستحواذ ما بين الشركات غدا واليوم ضعف ما كان عليه في العام 1990. وعلى الرغم من صعوبة التفريق بين ظاهرتي (الاندماج والاستحواذ) الا ان الاندماج ينصرف الى الاتحاد القانوني لكيانين يصبحان كيانا واحدا وبعلامة تجارية واحدة. ويعد الاندماج افقياً اذ كان النشاط متماثلا في حين يعد ذلك الاندماج عمودياً اذا كانت النشاطات تكاملية ويتمم بعضها البعض. اما الاستحواذ فينصرف الى قيام احد الكيانات بشراء اسهم شركة اخرى او الهيمنة على راس المال او الاصول كافة للشركة المستحوذ عليها. وفي الاحوال كافة فان الاستحواذ والاندماج يؤديان في النهاية الى ان تصبح الاصول والخصوم موحدة في ظل كيان قانوني واحد. وبناءً على ذلك سيطلع القرن الحادي والعشرون في الولايات المتحدة الاميركية بانه يمثل فترة الخطى المتعجلة للاندماج والاستحواذ التلقائي وهو امر لم يتحقق بمثل هذه السرعة في تاريخ اميركا الاقتصادي الا قبل مئة عام مضت. فحصة اول 100 شركة أميركية في تكوين الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة ارتفعت من 33 بالمئة في العام 1994، لتبلغ نحو 46 بالمئة في العام 2014، في حين تستحوذ خمسة مصارف اميركية على نسبة 45 بالمئة، من الاصول او الموجودات المصرفية في الولايات المتحدة بعد ان كانت بحدود 25 بالمئة في العام 2000. حواجز الدخول: ويلحظ ان التكنولوجيا الرقمية الحديثة قد عجلت من رفع حواجز الدخول الى مجالات السوق الحرة، ولكن وعلى الرغم من ذلك فان فكرة تركز السوق واندماجها كقوة مصححة لنفسها صارت هي الاهم مقارنة بما كانت عليه السوق من قبل ولاسيما في مجال الصناعات الرقمية. صناعة السيارات: ففي العام 1990 شكلت ثلاث شركات لصناعة السيارت الاميركية في ميشغان –ديترويت، القوة الرأسمالية المتميزة بالتركز وبرأسمال زاد على 36 مليار دولار وتشغيل قوة عمل تجاوزت المليون ونيف من العاملين الصناعيين. ولكن في العام 2014 ثمة ثلاث شركات عاملة في حقل صناعة تكنولوجيا المعلومات في منطقة وادي سيلكون الاميركية بلغت تركزاتها الرأسمالية نحو تريليون دولار، في حين ان عدد العاملين فيها لم يتعد 137 الف عامل، فحلم الشركات الصغيرة صار هو الميل نحو الاندماج بالشركات الكبيرة بدلاً من بناء وتوسيع نشاطاتها الانتاجية وتحويلها الى قوى انتاجية عملاقة، ويلحظ ان المشاريع الجديدة او الرائدة اليوم في اميركا هي بمستوى اقل مما كانت عليه في سبعينيات القرن الماضي، فالشركات التي تضمحل بالاندماج او الاستحواذ هي اليوم اكبر من الشركات التي تولد. لعبة الاحتكار: فقد ادت القضية السعرية دوراً مهماً في تطور لعبة الاحتكار في تاريخ الشركات المندمجة في العالم، فغاية الاندماجات منذ نهاية القرن التاسع عشر هي المحافظة على الاسعار من الانخفاض الذي تسببه قوى المنافسة وقت ذاك، فبين العام 1870 -1917 تشكل العالم الصناعي على وقع نشوء شركات عملاقة كشركات النفط والحديد رافقتها الثورة التكنولوجية الثانية (العصر الفيكتوري) تمثلت باختراع الكهرباء والمحرك الذاتي الدفع،وهو الامر الذي اسس لمرحلة طويلة من الاحتكارالقامع للمنافسة. ومنذُ ذلك الوقت قوت الشركات الاحتكارية العملاقة من نفوذها باتجاهين الاول، ابعاد منافسيها خارج قطاع الاعمال والآخر، هو الاحتماء بعلاقات قوية مع السياسيين. وان مثل هذا الاستقواء قد ساعد على تقويض النظام الراسمالي الليبرالي في عموم العالم الصناعي ولاسيما في اوروبا. وعلى الرغم من ان قانون (شيرمان) الصادر في العام 1890 في الولايات المتحدة قد وضعَ قواعد قوية ضد الاحتكارات ولاسيما التسعير الثابت إلا ان موجة الاندماجات استمرت لتعظيم الربح ولاسيما الاندماجات الافقية السريعة القصيرة الاجل. فخلال المدة 1850 -1905 اختفت اكثر من 1800 شركة صغيرة في الولايات المتحدة مندمجة في نشاطات كبيرة مماثلة وهو ما اطلق عليه ظاهرة (الترستات) تمثلت كذلك بظاهرة الاندماج بين الشركات الكبيرة نفسها. تحديد اسعار: اما اليوم وفي ظل عولمة رأس المال ونشوء الشركات المتعددة الجنسيات، فقد امست ظاهرة (التسعير المحول) - pricingtransfer هي محور تطور الاحتكار العالمي في القرن الحادي والعشرين. اذ ينصرف مفهوم (التسعير المحول) الى عملية تحديد اسعار السلع والخدمات المباعة بين الكيانات القانونية التي تخضع للسيطرة ضمن الشركة الواحدة. كلفة السلع: فعلى سبيل المثال قيام شركة تابعة ببيع منتجاتها الى الشركة الام، فان كلفة السلع المدفوعة الى الشركة التابعة هي التي تسمى: بالتسعير المحول. اذ ان نسبة 30 بالمئة من الاستثمار الاجنبي المباشر مازال يتركز في مناطق استثمارية عالمية تعرف (بالملاذات الضريبية)، التي تعد واحدة من المرتكزات الاساسية للتسعير المحول و تعني هنا تحديداً ان الشركات الاحتكارية تتذرع بان ارباحها قد تشكلت في مناطق واجزاء اُخرى من العالم ذلك من اجل التهرب الضريبي من خلال العمل في تلك الملاذات الضريبية، الامر الذي قاد الولايات المتحدة الاميركية الى اصدار قانون الامتثال الضريبي في العام 2010 على الحسابات الخارجية المسمى (بقانون FATCA فاتكا)، لملاحقة مدخولات وثروات مواطنيها المقيمين خارج الاراضي الاميركية واخضاعها لضرائب الدخل والملكية اينما وجدت في بقاع العالم من اجل التحاسب ومنع التهرب الضريبي ولاسيما للشركات المحتكرة. قطاع الاعمال: ان تعاظم حالات الاندماج بين الشركات وتوليد احتكارات اكبر صارا يهددان المنافسة وشرعية قطاع الاعمال واستقرار المستوى القانوني له.فشركات تكنولوجيا المعلومات والشركات المنتجة للبرامجيات باتت اليوم تستقطب مئات الملايين من الزبائن على صعيد العالم سواء بالهواتف الذكية او التطبيقات المختلفة او اجهزة التلفاز الخفيفة المرشقة وغيرها من الاجهزة الرقمية وان المستهلكين للخدمات الرقمية صاروا هم الاخرون اكثر ميلا الى تجميع قاعدة معلوماتهم وبياناتهم بانماط تكنولوجية موحدة في شركاتها،وهو الامر الذي ساعد على تسارع حالات الاندماج بين شركات المعلوماتية وتكوين احتكارات رقمية عملاقة. خدمات مجانية: اذ تؤكد البيانات المتوافرة ان الشركات المتخصصة بتكنولوجيا المعلومات تقدم خدمات مجانية عن تطبيقاتها لمستخدميها في التحري والتوجيه على صعيد الولايات المتحدة واوروبا بكلفة سنوية تقارب 250 مليار دولار لادامة نفوذها الاحتكاري على السوق العالمية. أذرع عملاقة: ختاماً، تستعين الشركات الاحتكارية اليوم بأذرع عملاقة من جماعات الضغط التي تتخذ من العاصمة الاميركية واشنطن مركزاً عالمياً لها وهي تضم اليوم زهاء 30 الف شخصية من كبار العاملين السابقين في مراكز القرار في الولايات المتحدة التي تضع خدماتها لمصلحة الشركات الكبرى بالتدخل والتأثير في التشريعات وصنع القرارات... انها الراسمالية الاحتكارية التي تخترع نفسها وتجدد ثوبها في محيط التكنولوجيا والتحولات السعرية.
أقرأ ايضاً
- البشر يعبث بنفسه ويبقى الله احسن الخالقين
- جناب المسؤول "ياكل ويگول لنفسه بالعافية"
- التناثر الديمقراطي والاغتراب الرأسمالي