- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أُسُسُ التَّقييمِ (٣) وَالأَخيرَةُ
حجم النص
بقلم: نــــــزار حيدر عندما اعتمدنا الهويّة في تقييم الأشياء والأشخاص، خلقنا الارضيّة الخصْبة لنموّ ظاهرة الوصوليّين والمطبّلين والانتهازيّين والمأجورين الذين يلتفّون ويتحلّقون حول القائد الضّرورة بهويّتهم وليس بإنجازهم، كبِطانةٍ فاسدةٍ. ولنفس السّبب أضعنا الكثير من الطّاقات الخلّاقة والكفاءات النادرة والخبرات الرّاقية لانها لا تعرف التملّق ولا تُحسن الانتهازية، كونها تفتخر بإنجازها وليس بهويّتها، فمنعناها من تسنّم مواقعها الحقيقية لتساهم في بناء البلد وإعادة إعماره. ولنفس السّبب كذلك كرّسنا الهوّيات الضيّقة على حساب الهويّة الحقيقيّة التي لا تجمعنا غيرها واقصد بها الهويّة الوطنية، اذا بالهوية الاثنية والمذهبية والمناطقية والدينية والعشائرية والحزبيّة تتقدّم على الهويّة الوطنية!. ولنفس السّبب كرسنا الولاءات الضيقة على حساب الولاء للوطن، اذا بالولاء للزعيم التاريخي وللقائد الضرورة وللرمز الأوحد يتقدّم الولاء للوطن!. ولنفس السّبب بتْنا لا نعترف بفضلِ أحدٍ ابداً لازال ليس من جماعتنا، كما بتْنا لا نعترف بالآخر لنفس السّبب. حتى النّزاهة والحرب على الفساد بتْنا نحسبها على أساس الهويّة، فاذا كان الفاسد من جماعتنا غضضنا الطّرف عنه، بل برّرنا له وفسلفنا فسادهُ حتى لكأنّه ملاكٌ يتوضأ قبل ان يذهب الى دائرتهِ او وزارتهِ على حدّ احدهم ممّن تبيّن فيما بعد انّهُ أَفسد الفاسدين وأفشل الفاشلين، على الرّغم من انّهُ يشغل شاشات التّلفزة بمجالسهِ الحسينيّة طوال شهر محرّم الحرام!. امّا اذا كان اللصّ او الدجّال او الفاسد من غير جماعتنا فترانا نسلّط الضوء على الفلس اذا تجاوز عليه بغير وجه حقٍّ!. ولذلك لم يرَ العراقيّون لحدّ الان (عجلاً سميناً) واحِداً على الأقل خلف القُضبان على الرّغم من مرور أشهر عديدة على انطلاق الحرب على الفساد والتي اوصت المرجعية العليا بالضّرب بيدٍ من حديدٍ، لانّ المكوّنات باتت تحمي الفاسدين واللصوص والدجّالين بسبب التقييم على أساس الهويّة وليس على أساس الانجاز، وليس الأحزاب الحاكمة والكتل السّياسية فقط!. وبذلك اختلط الحابل بالنّابل والحقّ بالباطل، وضاعت المقاييس وتاهت بِنَا الاتّجاهات، حتى أصبحنا في تيهٍ يشبه الى حدٍّ بعيد تيه بني اسرائيل!. في بلدٍ كالعراق، الذي يتميّز بالتّنوع والتعدّد وعلى مختلف الاصعدة، لا يُمكن ان تكون الهويّة كأساسٍ للتقييم ابداً، لانها تُفرّق المجتمع وتضيّع الكثير من طاقاته وخبراته وكفاءاته. والهويّة في البلدان المتعدّدة اذا كانت المعيار لتقييم الأشياء والأشخاص، تضيّع حقوق النّاس وتبخس أشياءهم، من العلم والخبرة والنزاهة والتجربة والامانة، اذ ستكون سبباً لتكريس الفشل والفساد في المجتمع وفي مؤسسات الدّولة على حدٍّ سواء. ولذلك تحوّلت عندنا قيمة التنوّع الى ظاهرة للخصومة، وهي بدلاً من ان تكون مصدر قوّة للمجتمع كما كانت على طول التاريخ اذا بها تتحوّل الى مصدرٍ من مصادر الضّعف وسببٍ من أسباب المشاكل. لا أُريد هنا ان انفي وجود الطائفيّة والعنصريّة السياسيّة في تاريخ العراق الحديث الا انّها بكلّ تأكيد لم تكن الى هذه الدرجة التي نعيشها اليوم، باستثناء فترة حكم نظام الطّاغية الذليل صدام حسين طبعاً، عندما كرّسها بشكلٍ تعسّفي حدّ القتل على الهويّة والانتماء، يشهد على ذلك المقابر الجماعيّة ومجازر الانتفاضة الشّعبانية الباسلة وحلبچة والأنفال وغيرها، الا انّها في العهود التي سبقته لم تكن بهذه الدّرجة، لماذا؟ لانّ المجتمع كان يقيّم المواطن على أساس انجازهِ وليس على أساس هويّتهِ الدينية او المذهبيّة او الاثنيّة ابداً، كما انّهُ كان يقيّم الأشياء على أساس الانتماء للوطن وليس الانتماء للزعيم او للقائد الضَرورة او لشيخ العشيرة مثلاً، ولهذا السّبب كان لليهودي العراقي دورٌ في بناء الدّولة العراقية الحديثة كما كان للمسيحي العراقي الى جانب المسلم العراقي، الشيعي والسني، الى جانب كل ابناء الأديان والمذاهب الاخرى، كما كان للعربي والكردي والتركماني وكل القوميات الاخرى، دورٌ في ذلك، ولم يكن دورهم على أساس حجم المكوّن وانّما على أساس الانجاز فقط، فربّما كان لمواطنٍ يهودي مثل ساسون حسقيل من الدّور في بناء مؤسسات الدّولة العراقية ما لم يكن لغيرهِ من المواطنين، على الرّغم من انتمائهِ لمكوّن انقرض من العراق للاسف الشَّدِيد. ان التقييم على أساس الهويّة هو الذي يدفعنا الى ان نتنكّر لفضل الآخرين، على الرّغم من ان القرآن الكريم امرنا ان لا ننسى فضل بَعضنا على البعض الاخر، في قوله عزَّ من قائل {وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. كما حذّر الامام امير المؤمنين (ع) من مغبة تجاهل إنجاز أحدٍ لخلفيّته عندما أوصى مالكاً الأشتر عندما ولّاه مصر بقوله {وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِىء إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً، وَلاَ ضَعَةُ امْرِىء إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَاكَانَ عَظيِماً}. وفي قوله عليه السلام {مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ حَسَبُهُ} وفي روايةٍ اخرى {مَنْ فَاتَهُ حَسَبُ نَفْسِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ حَسَبُ آبَائِهِ} شدّد على الانجاز دون الهويّة. ليس من شيم الرجال نسيان فضل الآخرين، وليس من الانصاف ابداً ان ننسى فضل بَعضِنَا على البعض الاخر. ان ما علامات عظمة الدّول المتحضّرة والشّعوب المتقدّمة هي انّها تحترم فضل المواطن وانجازاته بغضّ النظر عن خلفيّتهِ الدينية والإثنية او ايّ شَيْءٍ آخر، وهذا ما نلمسهُ في بلاد الغرب، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، ولذلك نشعر بقيمة المُنجز وتقييم الآخرين الإيجابي له، من دون ان يسألهُ احدٌ عن اصلهِ وخلفيّتهِ وما الى ذلك، ويكفي ذلك محرّضاً على الانجاز. امّا عندنا فلازال المواطن يشعر بالاحباط وبتضييع جهدهِ وإنجازه لان المجتمع ينظر الى خلفيّته وهويّته وانتماءهِ قبل ان يقرّر ما اذا كان سيتعامل مع الانجاز بايجابيّةٍ ام لا؟!. وأخيراً، ما اجمل ان نتعلّم من امير المؤمنين (ع) كيف نقيّم النّاس والاشياء على أساس الانجاز، كما في النّصّ التالي يصف به اخٌ له؛ كَانَ لِي فيَِما مَضَى أَخٌ فِي اللهِ، وَكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، وَكَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلاَ يَشْتَهِي مَا لاَ يَجِدُ وَلاَ يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ، وَكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً! فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَاب وَصِلُّ وَاد لاَ يُدْلِي بِحُجَّة حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً، وَكَانَ لاَ يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ، وَكَانَ لاَ يَشْكُو وَجَعاً إِلاَّ عِنْدَ بُرْئِهِ، وَكَانَ يقُولُ مَا يَفْعَلُ وَلاَ يَقُولُ مَا لاَ يَفْعَلُ، وَكَانَ إذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلاَمِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ، وَكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَكَان إذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ نَظَرَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فَخَالَفَهُ. فَعَلَيْكُمْ بِهذِهِ الْخَلاَئِقِ فَالْزَمُوهَا وَتَنَافَسُوا فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ.